هبوط إلى بئر القلق

صلاح الدين راشد

هبوط إلى بئر القلق

إنّ ما يُقال عنه قراءةٌ هنا ليس قراءةً لنمط روائي بقدر ما هو هبوطٌ داخلي إلى بئرٍ من القلق يتردّد صدى وجعه في صفحات رواية ( صلاة القلق ) للروائي محمد سمير ندا . فمنذ أن نفتح نوافذ صفحاتها الأولى ونحن على يقظة الوباء ، وحتى نختمها بالتقرير الطبي الذي يُذيب الحدود بين الواقع والهذيان ، حيث يمضي النصّ كرحلة تُسلّمنا إلى جوف نجع ضيّق اسمه ( نجع المناسي ) ، والذي تتحوّل زواياه الأربع إلى قضبان تُطبق على روح تُحاول الإفلات ، ولا تجد سوى قلقها دليلاً في العتمة .
هذه الرواية ليست سرد لقرية نائية ، إنما هي مرثيةٌ للروح وهي تتأرجح بين غياب إلهيّ لا يُجابَه ، وسلطة باطلة تتغوّل حتى على الذاكرة . منذ أن يسقط ( الحجر الناري ) من سماء مضطربة ، لا يهوي منها شهابٌ فقط ، وإنما يهوي معه يقين البشر كلّه ، كأنّ السماء تُعلن بدء الوباء الذي يتسلّل إلى الأجساد كما يتسلّل إلى الضمائر ، فينهشُ ذاكرة النجع ويُهين رموزه .
فعلى تخوم السلطة والوجود تظهر مأساة الشيخ أيوب ، آخر السلالة الروحية ، وهو يرى نفوذه يتبدّد تحت ظلال دخيلة يجسدها خليل الخوجة ؛ رجلٌ غريب ، بلا جذور، يستمد سُلطته من أصداء الحرب الرسمية . وانهيارُ الرموز هنا يتحوّل الإمام إلى هامس عاجز ، والوليّ إلى متَّهَم - وكأنه هنا يستدعي عالم نجيب محفوظ عندما كشف تهاوي الأسطورة واندفاع الواقع الجارف ، غير أنّ الكاتب ندا يذهب أبعد : فالشيخ أيوب ليس قائدا مهزوما ، إنما تجسيدٌ لجوهر القلق ذاته ، قلقٌ يتجسّد في كوابيس على هيئة قطّ أسود يلتهم كبده ، صورةٌ تنتمي إلى أكثر مستويات السريالية عراءً ووحشية .
الوباء الذي يكتسح النجع لا يمكن قراءته إلا من منظور ألبير كامو في الطاعون ؛ فالموت ليس مرضًا بقدر ما هو كسرٌ فجائيٌّ للنظام الهش الذي نحيا فيه . غير أنّ صوت النداء في هذه الرواية أشدّ فجاجة : القلق يتحوّل إلى كائن محسوس ، يتمشّى فوق السطوح ، يهبط إلى مواشي القرية ، يختلط بهلوسات محجوب النجار وزكريا النساج ، كأنّ الرواية - بكل مقاطعها - تحوّلت إلى محضر نفسيّ حائر ، يضع القارئ في موضع المريض والشاهد معا ، في تمرّد سرديّ واع على اليقين الروائي
في قلب الحكاية ، تظل إنسانيةُ النص معلّقةً في خطوات سعدون وسعد وسعيد ، أولئك الشباب الذين رفضوا أن يُقدَّموا قرابين لحرب لم تتوقف منذ عقد كامل . إنّ فرارهم عبر الأنفاق السرية هو الفعل الوجودي الأنقى في الرواية ، محاولةٌ لا للهرب من مكانٍ فقط ، ولكنها للنجاة من زمن يتحلّل . فالنفق هنا ليس ممرا ، إنما شقٌّ في جدار القدَر ، رغبةٌ في الوصول إلى هواء لا تشوبه رائحة الموت . وهذا الإحساس بالتحرّر عبر الانسلاخ عن الذاكرة الثقيلة له رجعٌ واضح من عوالم غارسيا ماركيز في مئة عام من العزلة ، حيث يصبح الهرب أو النسيان آخر ما تبقّى من أشكال المقاومة .
وتبلغ الرواية ذروتها حين يعود الصوت الأخير ليجعل من الكتابة خلاصا وحيدا . فالطبيب ، في نهاية ملاحظاته ، يؤكّد أنّ الأوراق والأقلام هي الحبل الأخير الذي يربط صاحبها بالحياة ، وأنّ الحبر وحده هو ما يروي مخيّلته ويُبقيه قائما ضدّ العدم . وهنا تكمن صلاة القلق الحقيقية : ليست في الكلمات ، إنما في الإيمان بأنّ الكتابة قادرة على أن تُبقي الروح حيّة حين تجفّ المياه كلّها . إنها الصلاة الأخيرة لروح ترفض أن تُسلّم نفسها للمحو ، وتتشبّث بالحرف كمن يتشبّث بآخر نفس .
وبعد هذا الغوص العميق في خبايا النجع ، في خوفه وألمه ، في يأسه ورغباته الملتهبة ، جاء خبر منح الكاتب محمد سمير ندا جائزة البوكر ليكون تتويجا ليس لمهارة سردية فقط ، إنما لشجاعة إنسانية في مواجهة القلق والوباء والوجود نفسه . والجائزة هي اعترافٍ أدبي ، وشهادة على قدرة النصّ على أن يحوّل الألم الفردي إلى مرآة جماعية ، وأن يجعل من القلق صلاةً تُقال على صفحات الورق ، وتُستشعر في أعماق القارئ . إنها لحظة تأكيد على أنّ الكتابة - حين تكون صادقةً ومفعمة بالروح ، قادرة على أن تلمس القلوب ، وأن تمنح القارئ والمبدع معا شعورا بالنجاة من العتمة ، حتى وسط أصعب الأوبئة وأظلم اللحظات .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

974 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع