ذكريات وأعترافات / ح١ و ح٢

 كتبها/ عمّــار وهبي

الحلقة الأولى

في أعوام الثمانينات .. لطالما كان شارع المنصور الرئيسي المسار أو الطريق المؤدي إلى مدرستنا .. حيث نسلكه صباحا في رحلة الذهاب إلى المدرسة وظهرا في رحلة الإيّاب منها ..

ذلك الشارع الذي يمتد من تقاطع المنصور وشارع 14 رمضان وصولا إلى ساحة الفارس العربي حيث تقع مدرستنا الثانوية .. إعدادية المنصور للبنين .. ذلك الشارع الذي تحمّل شقاواتنا وضحكاتنا وشغبنا .. وكان شاهدا على مغامراتنا وغرامياتنا .. بل كشف الكثير من أسرارنا .. وأحيانا قرأ أفكارنا وقلقنا وخوفنا يوم الأمتحانات وحملت أرضية أرصفته دمعات بكاؤنا أوقات خيباتنا أن كان في أمتحان أو فراق محبّ وحبيبة .. وقد رسمنا ذكرى في كل شبر منه على طول مسارنا نحو مدرستنا .. إعدادية المنصور .. وحتى أجذع أشجار اليوكالبتوس الباسقة على جانبيه لم تنجو من عبثنا .. حينما حفرنا على جذوعها أسماء من نحب .. وكانت تتبدل الأسماء حسب أهواء قلوبنا العاشقة المراهقة .. فليس من الضروري الأسم الذي ينقش عند الصباح نفسه عند المساء .. وهناك العكس أحياناً ظلّ نفس الأسم على كلّ أجذع تلك الأشجار الباسقة .. واليوم بعد أن تركناها لسنوات خلّت هل ظلّت شاخصة حتى اللحظة تلك النقوش أم راحت وأضمحلّت ؟!! ..

وهل نقش القلب الذي يخترقه السهم باق؟!!
كنّا نتعمّد ذلك المسير الصباحي للقاء أصدقائنا .. ولنثبت رجولتنا بأنّنا قادرون على الذهاب إلى المدرسة بمفردنا .. حتى حين ينطلق الأهل صباحا نحو دوامهم في الصباح نرفض أن يقلّنا أحدهم نحو مدرستنا لكي لاتفوتنا فرصة الأستمتاع بلقاء أصدقائنا .. ووجه من يحبّه قلبنا .. وأنا وكحال الكثير من أصدقائي كنّا نرفض أن تقلّني والدتي أطال الله في عمرها إلى مدرستي وإن كنت في طريقها إلى عملها في جامعة بغداد فحينها كنا مراهقين وكان من العيب أن أمهاتنا توصلنا إلى باب المدرسة وهذا سوف يعرضنا إلى سخرية زملائي والتهكّم ونصغر في أعينهم كمّا كنّا نعتقد .. وإن حصلت فيجب أن يكون توصيلنا إلى نقطة تبعد كيلومترات عن المدرسة .. كحالتي أنا .. عند تقاطع التقاء شارع ١٤ رمضان وشارع المنصور ..


من أجمل الذكريات في تلك الرحلة المسيرية الصباحية .. حيث كان مجمع اللقاء مع الأصدقاء والتجمّع للانطلاق نحو المدرسة مقابل مطعم كباب نينوى .. فنلتقي هناك … أنا وأحمد وماجد ومعجب وباسم وحنون وبقية لاتحضرني أسماءهم اللحظة .. كان يومها صباح ربيعي حين تزهر اجمل الورود في حدائقنا .. الرازقي وحلق السبع والروز والقرنفل .. فنقتنص واحدة او اثنتين نحملها بيدينا لترافقنا في رحلتنا ..

وكان باص ثانوية بغداد للبنات يتوقف في نفس هذه النقطة ليقلّ بعض الطالبات إلى المدرسة .. علما أنه معظمهنّ من بنات معارف الأهالي أو أخوات اصدقائنا .. وشاء في ذلك الصباح ونحن نهمّ بالأنطلاق نحو المدرسة فأذا الباص المذكور يقف لحمل الطالبات وكنّ بعضهنّ قد فتحن الشبابيك المجاورة لمقاعدهنّ ليتسلل منها هواء صباح اليوم الربيعي .. تبادلنا النظرات للحيظات ولحظة انطلاق الباص وبدون شعور رمينا مافي يدنا من ورود داخلة من أحدى شبابيكه المفتوحة لتتلقفها الطالبات .. وماسمعنا بعدها الّا صراخهنّ وضحكاتهنّ الهستيرية .. وهكذا تكرّر المشهد في اليوم الثاني بنفس تفاصيله …
وفي اليوم الثالث شاءت الصدف أن يكون أحدهم وربما موزّع الخضروات قد وضع كيس كبير (گونية) مليئة بباقات الكرفس متكئة على باب مطعم كباب نينوى ليتمّ إستخدامه عند فتح المطعم .. سرقنا باقتين من الكرفس وخبّأناها خلف ظهرنا بأنتظار وصول الباص المحمّل بالطالبات .. وحين وصل الباص على مايبدو قد إتفقن الطالبات على أهزوجة بدل ضحكاتهن وصراخهن .. أهزوجتهنّ كانت .. (هي هي مخبّل) .. هزجوا بها لحظة انطلاق الباص ونظرات التهكّم نحونا .. فأذا بباقات الكرفس ترمى نحوهن داخل الباص .. لتقطع الأهزوجة ونشيدهن ونظراتهن .. ليعمّ صمت لثوانٍ يتبعها صراخ وضحك نسمعه رغم ابتعاد الباص عنّا .. ومن يومها غيّرنا نقطة تجمعنا نحو الجهة المقابلة عبر الشارع حيث (أسواق بابل) تجنبا للمقابلة وجها لوجه مع رائدات الباص … لنبدأ منها نقطة انطلاق بديلة نحو مدرستنا … إعدادية المنصور للبنين ..
ولنا معكم لقاء قادم في رحلة العودة من المدرسة

--------

ذكريات وأعترافات (٢)

لم يكن طريق العودة من مدرستنا ظهراً .. إعدادية المنصور للبنين .. أقلّ شغفاً وسعادةً من طريق الذهاب اليها صباحاً .. مع فارق رحلة الصباح تتمّ على عجالة وترقّب .. حيث نصبو للوصول إلى المدرسة عند الساعة الـ8 صباحا بالضبط .. حين يبدأ الدرس الأول .. فالويل لمن يتأخر ويصل الصفّ بعد دخول الأستاذ اليه .. فيما رحلة العودة بعد إنتهاء دوام المدرسة فتتم بأريحية وإسترخاء أكثر .. وإن كانت رحلة الذهاب تتم في نصف ساعة فأن رحلة العودة لاتتمّ بأقل من 3 ساعات!! .. علما بأننا نسلك نفس الطريق .. شارع المنصور الرئيسي الممتد من ساحة الفارس العربي وصولا إلى تقاطع شارع المنصور وشارع ١٤ رمضان بداية سنوات الثمانينات كما أسلفت في الجزء الأول من هذه الذكريات ..

ومن ثمّ تمتدّ رحلة العودة إلى البيت حتى ننعطف يسارا بأتجاه ساحة الأردن .. وأحياناً وصولاً حتى نهاية شارع ١٤ رمضان .. لغايات سنأتي على ذكرها .. يقرع جرس إنتهاء الدرس السادس أو الدرس الأخير .. فيزفّ لنا فرحة انتهاء الدوام عند الساعة 12:30 ظهرا .. حيث نهمّ بالخروج من المدرسة وحينما كان كلّ واحد من مجموعتنا في شعبة مختلفة عن الأخرى فلزاما علينا الأنتظار أحدنا للآخرعند الباب الخارجي للمدرسة حيث نتجمّع قبل أن نخطو خروجا منها كلّ نحو منزله .. فتبدأ الخطوة الأولى في نفس مسلك وشارع القدوم الصباحي شارع المنصور ولكن مبتدئين من ساحة الفارس العربي لتكون الوقفة الأولى في منطقة باص حي دراغ .. مقابل جامع حي دراغ وبجنب أسواق وأفران غسان .. فنصلها تقريبا الساعة 1 ظهرا .. في الوقت الذي تبدأ أول طلائع وزرافات طالبات اعدادية الرسالة للبنات بالوصول إلى منطقة الباص نفسها .. متبخترات بزيهم المدرسي المميّز الصدرية البنيّة اللون (الجوزي) والقميص الأبيض .. هذا ماأقرّته مديرة المدرسة (ست نعمة الدهش) رحمها الله .. لتكون طالباتها متميزات في سلوكهنّ ويمكن رصدهنّ في أي تصرف خاطئ .. حرصا عليهن وعلى سمعة المدرسة جمعاء .. وهنا تبدأ مرحلة اختلاس النظرات والتأكّد من وجود من يهواه القلب فأقصاه يكون تبادل الأبتسامات .. ولكن!! لحظات وتقدم باصات مصلحة نقل الركاب ذو الطابقين بلونها الأحمر (30,57,23,69) فتسحب تلقائيا وتدريجيا ممن نقف لأجلهن وتتلاشى منطقة الباص بلمح البصر منهن .. فتعود منطقة الباص خالية عدا نحن طلبة الأعدادية ممن وصلنا أول مرة .. وتمرّ جميع باصات المصلحة بأرقامها المختلفة ونحن صامدون في مواقعنا .. وكأن أيّ باص من هذه الباصات لايرهم لتوصيلنا لمنازلنا!! .. لايهمّ !! فلن يطول الأنتظار .. فستكون طلائع ومجموعات ولو كنّ شتات مماتبقى من طالبات أعدادية تجارة المنصور وبعض من ثانوية الكفاح العربي .. بزيّهم المدرسي الصدريّة الزرقاء ولكنّ القميص أحمر.. بدأن بالوصول .. هنا لابدّ من الوقوف أمام أحرج المواقف حينما يقرّر معاون مدرستنا أستاذ عبد الغني (أبو غنيّة - رحمه الله) بالتسلل خلف طلبته .. وإن كنّا خارج وقت دوام المدرسة الرسمي وبنطاق يبعد عنها باكثر من كيلومتر واحد .. للأطاحة بأحدهم قد شرعت نفسه لتدخين سيكارة أو تسللت نظرات عينه أكثر نحو الطالبات .. فيخرج كالنسر الباسق من داخل محل وافران غسان حيث يكون قد إختبأ خلف زجاجه .. ماسكا طلبته المذنبين على الأقل 3 منهم في كلّ كفّ من يديه .. ولايمكن وصف الأحراج الذي يصيب ممّن أمسك به أمام جمع الطالبات فحسب!!.. بل بقيّة الطلبة ممّن نفخوا صدورهم وكالنسور نفشوا ريشهم ليقفوا بشموخ فيصبحوا كالقطط المذعورة الهاربة المرتعشة يمينا ويسارا .. وهنا على ولي أمر الطالب المدخن والملقى عليه قبضا بالذنب المشهود من قبل (أستاذ ابو غنيّة) أن يحضر اليه في اليوم التالي ليلقي عليهم نوع التوبيخ الذي سيلقن به ابنهم .. وان لم يحضروا فهنا كارثة أخرى !! .. بعد منطقة باص حي دراغ ورحيل من فيها تكون نهاية مرحلة ولكن!! ليست رحلة .. فالمسير مستمر على طول شارع المنصور الرئيسي .. حيث يكون قد تسلّل الجوع إلى معدتنا وأمعائنا الخاويتين .. فلابدّ من الوقوف عند العم جورج (لحم بعجين المنصور) بجنب نادي الكرخ الرياضي .. وممن لايشتهي الأكل وليس جائعا يكون قد أكل أثنتان منها !! أما الجائع فقد تصل أربعة قطع .. ولاحساب مع الجائع جدّاً!! .. بعدها يستمر المسير حتى نصل إلى تقاطع وزارة النفط او يسميه البعض تقاطع الخطوط الجوية العراقية فتكون طلائع الطالبات الخارجات من دوام (متوسطة القادسية) قد وصلن هناك وتكون الساعة شارفت على 1:30 ظهرا أو بعدها بقليل .. ويستمر سير تلك الزرافات والأفواج كلٌّ مع ربعه وجماعته على طول شارع المنصور الرئيسي متجهين نحو شارع ١٤ رمضان .. وكلّما طال المسير كلّما قلّت الأفواج فكلّ يدخل الشوارع الفرعية متجها نحو منزله حتى نصل تقاطع مصرف الرافدين أو الريسز .. حيث يقع قربه مركز شرطة المنصور فتكون بعده قد تلاشى معظم الطلبة السائرون .. عدا ممن يسلك الطريق نحو نهاية الشارع أو قبله .. لابدّ من الذكر أيضا وقفة أخرى أحيانا لأضاعة الوقت .. عند مطعم نبيل دجاج (بروستر) .. حينها تكون رائحة الدجاج المقلي قد عبّت الشارع عبقاً .. ومن لايرغب بالدجاج فعنده همبركر نبيل بصاصه المميّز .. بعد أنتهاء فقرة الأكل هذه يستمرّ المسير .. فمن الشارع القادم من نادي الصيد بأتجاه تقاطع مصرف الرافدين يبدأ الشارع بالتعبئة بقوافل جديدة من الطالبات الخارجات من نهاية دوام مدرستهنّ .. طالبات ثانوية بغداد للبنات .. حيث تكون آخر مدرسة ينتهي دوام طلابها .. حينما قرّرت مديرتها الفاضلة المرحومة .. (ست أنيسة باقر جان) ان يكون انتهاء الدوام الساعة 2:20 ظهراً .. وحينما كانت الطالبات وخروجهنّ من المدرسة أمانة في أعناق إدارات المدارس .. فقد كانت تقف هي بشخصها على الباب المدرسة الخارجي تراقب خروج الطالبات لتطمئن على الخروج بسلاسة ومن يقلهنّ من الأهل .. وياويل أي شاب ساقت له نفسه بالمرور من شارع المدرسة اثناء خروج الطالبات مرتين .. فبعلاقاتها يمكن ان تصل صوتها وشكواها إلى أقصى الجهات المسؤولة .. نعود إلى مسيرنا .. حيت نستمرّ رحلة العودة الى البيت .. وبالرغم ممّا عجّ به الشارع بجموع الطلبة والطالبات العائدين لمنازلهم .. الّا ان الاختلاط كان يحيطه الاحتشام والاحترام والمخافة من العيب .. كأنّ الجمع يؤدون طقوس اجتماعية يوميّة مزيّنة بالهيبة والحفاظ على السمعة الحسنة .. وكلّما إزداد المسير كلّما يخفت وهج شارع المنصور من طلبته السائرون .. حينما يتسلل كلّ إلى بيته أو بأتجاه الشوارع الفرعية المؤدية اليها .. فنصل الى بيوتنا ويكون الوقت قد قارب الـ3 أو بعدها بنصف ساعة متعبين منهكين ليس من الدرس .. بل من ذلك المسير والضحك والهزار خلاله .. ولكن أول مانصل البيت يحسّ الأهل بهذا التعب إضافة الى شكوانا .. (راح نموت جوع) أو (هلكنا تعبا) فيزداد الأهتمام بنا وتهيئئة الطعام سريعا ظنّاً أنّ الدروس والأمتحانات والواجبات المدرسيّة قد أنهكتنا هي السبب .. فيما لايبقى بعدها أحدا في شارعي المنصور و14 رمضان الّا هدير السيارات فترة الظهيرة .. ليعجّ بعدها الشارعين بزحمة اخرى .. وقت المساء .. فيما تبقى ترافقنا المساء كلّه وحتى وقت المنام الضحكات والأبتسامات على أجمل المواقف والقفشات والتعليقات التي مرّت علينا خلال اليوم وتحديدا وقت هذين المسيرين .. الذهاب والعودة الى ومن المدرسة .. وعند المنام يبدأ التخطيط لمؤامرة في اليوم التالي (طنز ولمز وهزار) ضدّ أحد ألأصدقاء..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع