التسكرة

 التسكرة

أصل الكلمة العربية (التذكرة) وتعني ما يتذكر به الشيء او البطاقة او الاشعار حسب موقعها من الجملة. انتقلت هذه الكلمة الى اللغة التركية لتنطق (تزكرة) لصعوبة نطق الذال في اللسان التركي لتنتقل بعدها الى العراق أيام الاحتلال العثماني لينطقها العراقيون (تسكرة) كما يسمعونها وبقيت سائدة الى أواخر القرن العشرين في اغلب التعاملات الزراعية بين الفلاح والملاك بوساطة السركال لتختفي بعدها من التداول وتحل محلها أدوات أكثر تعقيداً لدرء إشكالات تعقيدات الحياة مثل الكمبيالة والسفتجة.

وفي سياق الكلمات التركية التي أصلها عربي واعاد العرب استعارتها من الاتراك كلمة (ميرفت) التي أصلها العربي (مروة) وانتقلت الى اللغة التركية لتصبح (مرفت) حيث ان الأتراك ليس بمقدورهم نطق الواو لتقلب الى فاء الاعجمية كما انه لا يوجد في كلامهم تاء مربوطة وقلبت الى تاء مبسوطة فتحولت الكلمة الى (ميرفت) لتصلنا بالعربية محورة وأهمل استعمال كلمة (مروة) وغيرها الكثير.

عودة الى كلمة تسكرة، التي تعني الحوالة المالية التي فيها دائن او الذي يكتب التسكرة والمدين الذي يستلم النقود وهي من الأنواع البسيطة في التعامل حيث يكتب الملاك مثلاً الى السركال او الوكيل الزراعي بصرف مبلغ معين الى احد الفلاحين او مجموعة من الفلاحين بمثابة دين لمساعدته في حياته المعيشية او شراء البذور او السماد الى غير ذلك من الاحتياجات ويحتفظ السركال بهذه التسكرة الى حين الحصاد او بيع المحصول ليتم خصمها من الأرباح والخسائر وعادة ما تكتب بخط اليد على قصاصة ورق صغيرة وفي حال حدوث نزاعات بين الأطراف الدائنة او المدينة يؤخذ الامر الى كبار القوم او شيوخ العشائر لتحل بالتراضي.

ومن اندر هذه التساكر هو ما كتبه الشاعر المعروف معروف عبد الغني الرصافي الى صديقه الأستاذ عبد المسيح وزير بتاريخ ١٠ تشرين الأول عام ١٩٣٢ طالباً فيها مبلغ خمسة دنانير لحاجته اليها وهذا مبلغ كان يعد ضخماً في حينها. وهنا المدين الشاعر معروف الرصافي والدائن الاديب عبد المسيح وزير والوسيط هو حمدان الذي جير المبلغ لحيازته ليتم ايصاله الى المدين. ويمكن ملاحظة بساطة التعامل بين جميع الأطراف فقد خلت التسكرة من التوقيع ومن الشهود وتواقيعهم لان الأمور كانت سائرة على الثقة بين كافة فئات المجتمع وهذه التسكرة هي اعتراف ضمني من الرصافي بان مجمل الدين الذي بذمته الى عبد المسيح وزير هو ثلاثون ديناراً عادة تستوفى عند الميسرة ولا احراج او إصرار في تحصيله وفي حالة العسرة المالية يطفئ الدين بالتراضي.

هذه التسكرة من أرشيف الصديق أسامة انيس وزير ابن اخ المرحوم عبد المسيح وزير ولا ندري إذا تم تسديد الدين من قبل الرصافي من عدمه لكن هذه الوثيقة المهمة خير دليل على الثقة المتبادلة بين جميع أطياف المجتمع العراقي أيام الزمن الجميل والتي نفتقدها في هذ الأيام وهي الأساس الذي تبنى عليه التعاملات التجارية والمالية وبفقدانه انعدمت الروابط الاجتماعية بين الافراد لتسود حالات التزوير واذلال الناس ببدعة صحة الصدور لتتزعزع الثقة وينهار المجتمع الذي أصبح التعامل بين افراده ندياً وكيدياً.


الشاعر معروف عبد الغني الرصافي غني عن التعريف فهو شاعر عراقي وبدا ينظم الشعر في مطلع شبابه حيث كان جريئا في قسم من أشعاره السياسية، وقد هاجم بإشعاره الدولة العثمانية وسلطات الاحتلال البريطانية وواصل تلقي علومه في المعاهد الدينية. يعتبر الشاعر معروف الرّصافيّ واحداً من أشهر الشعراء والكتّاب العرب الذين شاركوا في ترسيخ قواعد الفكر الحضاريّ الحديث، حيث ترك وراءه إرثاً عظيماً تنوّع بين النثر، والشعر، واللغة، والأدب عامة، وقد أهّله هذا الإرث إضافة إلى التجارب الحياتيّة التي اكتسبها أثناء مروره بالعديد من البلدان لأن يكون خير مَنْ يقود راية الإصلاح والتجديد بين كتّاب وشعراء عصره، فقد أجاد الرصافي من خلال أشعاره التي كانت متميزة بالشكل والمضمون من وصف مظاهر الحياة التي عاشها شعبه، وبرع في نقل الأحداث التي مرّ بها عصره، سواء أكانت اجتماعيّة أم سياسيّة، وقد امتازت هذه الأشعار بالسلاسة، وظهر فيها اهتمام الشاعر بالقوافي الموسيقيّة وبصياغة الألفاظ.

*يعد عبد المسيح وزير من رجال الادب كاتبٌ ومؤرخ ومترجم اشتغل بالتأليف والبحث والترجمة ولد في ماردين التركية سنة 1889 ودرس في مدارسها ثم تخرج من كلية عينتاب الامريكية ببيروت ورحل الى مصر ثم جاء الى العراق مع اسرته واستقر ببغداد وبدا نشاطه في مطلع السنوات الاولى من تأسيس الحكومة العراقية فأصبح المترجم الاول في وزارة الدفاع سنة 1922 واستطاع بجهده ومثابرته ان يضع اول وأدق معجم للمصطلحات العسكرية لا مثيل له. ساهم في الكتابة في أشهر الصحف والمجلات العراقية كما ساهم في اصدار المجلة العسكرية سنة 1924 والتي اصدرتها وزارة الدفاع وكانت مختصة لنشر الموضوعات التعبوية والابحاث الفنية. عين مديرا لقسم الترجمة في وزارة الدفاع سنة 1933 وبقي في هذه المهنة أكثر من عشرين عاما وضع خلالها الاف المصطلحات العسكرية باللغة العربية كما ألف قاموسا عسكريا باللغتين العربية والانكليزية، أصبح مرجعا قيما فيما بعد.

كان عبد المسيح وزير اديبا وروائيا ألف عدة روايات أشهرها رواية الصنم المحطم كما أنشأ بحوثا ومقالات كثيرة وترجم الى اللغة العربية طرفا من الشعر الانكليزي والعالمي كما ترجم شريعة حمورابي وكتاب الثورة العربية من تأليف لورنس وكانت أشهر ترجماته لشاعر الهند الكبير طاغور اما موضوعاته المنوعة الاخرى نشرتها المجلات والصحف العراقية منها مقالاته عن نظرية آينشتاين والذرة وغيرها من العلوم الحديثة.
ولقد دأب عبد المسيح وزير على ان يزين الصفحات التي يكتبها في الصحف والمجلات بصورة شمسية تمثله وهو في عز الشباب وقد ساهم مساهمة كبيرة بالكتابة في مجلة الاعتدال النجفية الذي اصدرها الاديب النجفي محمد علي البلاغي عام 1933 فقد ساهم عبد المسيح وزير برفد المجلة بالمواضيع الادبية وترجم لها العديد من القصائد العالمية الى اللغة العربية ولعل أشهر من ترجم الشعر اليوناني للصحافة العراقية كما أصدر كتابه الشهير نوادر الطرنيين سنة 1937 حتى أصبح كتابه حديث الاندية والمجالس البغدادية.
ان مثل العبقري عبد المسيح وزير ان يؤلف كتابا يتحدث فيه عن الطرن حتى قيل بان حالة الطرونه هي لعبد المسيح وزير حتى ذكر حسين الكرخي في كتابه مجالس الادب في بغداد عن شرود ذهن عبد المسيح وزير ولمن يراه يساله وين صافن ولعل عبود الشالجي لم يفته ذلك ففي موسوعته الكنايات البغدادية في كناية طرن قال هي كناية بغدادية عمن كان تائه اللب كثير النسيان واكثر ما يحصل ذلك لدى العلماء الشيوخ وممن اشتهر عنه هذه الكناية احد الادباء المعروفين في العراق هو عبد المسيح وزير وتروى عنه في هذا الموضوع عجائب ايسرها انه ركب في عربة اجرة يريد الوصول الى بيته ولما سأله السائق الى اين تريد نسي موضع بيته وقد نقل مير بصري الكثير من شرود الذهن وهو في هذه الحال ترجم قصيدة مشهورة للشاعر الانكليزي (سونبون) عنوانها اللات وهي قصيدة طويلة ترجمها عبد المسيح وزير حتى عدت آنذاك من القصائد الخالدة وفي حالة شرود ذهن كتب والف حتى وفاته سنة ١٩٤٣(*خالد خلف داخل-كاتب عراقي)
في الثلاثينيات نشب خلاف بين الشاعرين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي على الصدارة والتنافس الشعري وتعصب كل منهما لشعره بالإضافة الى أسباب سياسية واجتماعية وبذلت محاولات كثيرة لإصلاح ذات البين وقد لعب الاستاذ عبد المسيح وزير دوراً بارزاً في ذلك واستطاع محمود صبحي الدفتري ان يجمعهما بداره في الحيدرخانة بجلسة الصلح الشهيرة



جلسة المصالحة بين الرصافي والزهاوي ويرى في الصورة عبد المسيح وزير السابع من اليمين وقوفاً

وقد حضر الجلسة المفكرون ورجال الثقافة منهم عبد العزيز الثعالبي وروفائيل بطي وفؤاد السمعاني والعلامة بهجة الاثري
يقول الاديب خالد القشطيني عن تلك المحاولات: حاول الملك فيصل أن يصلح بينهما فدعاهما إلى العشاء معه وجيء بديك رومي سمين على صينية من الرز واللوز فراح الزهاوي يمعن في التهام الرز حتى سقط الديك إلى جانبه٬ فتمثل قائلاً:
عرف الفضل أهله فتقدما!
أكمل الرصافي البيت فقال:
كثر النبش تحته فتهدما!
استأنس الحاضرون وشاركهم الملك فيصل ضاحًكا.
هذه كانت نبذة بسيطة عن حياة الاديب عبد المسيح وزير كان لا بد من التوقف عندها.
و عودة الى التسكرة, يعتبر الشيك المصرفي نوعاً متقدماً من أنواع التسكرة وهو محكوم بتاريخ اصدار وتاريخ نفاذ وتوقيع الساحب والمبلغ بالأرقام والكلمات والبنك المسحوب عليه واسم المستفيد ليكتسب القوة القانونية للالتزام بالدفع. والتالي نموذج لشيك بقيمة عشرة فلوس صادر من ناظر الخزينة الخاصة لصاحب الجلالة الملك غازي لأمر السيد عبد المسيح وزير عن ثمن كتاب نوادر المطرنين مسحوب على استرن بنك ليمتد فرع بغداد ومرفق بتسكرة توضيحية للشيك. وهي ايضاً من أرشيف الصديق أسامة وزير لكن الشيك لم يصرف وتم الاحتفاظ به ويلاحظ قيمة الشيك كم كانت متدنية لكنها كانت تعني الشيء الكبير في حينها للقوة الاقتصادية التي يتمتع بها الدينار العراقي والمقدرة المالية لملك العراق لدفع قيمة كتاب ود اقتنائه.


هناك نوع آخر من التساكر يوازي ما هو معروف في وقتنا الحاضر بكارت الزيارة الذي له عدة استعمالات مثلاً للتعريف بالزائر او للتعارف او توصية او معايدة وحتى صار ينوب عن تسكرة الحوالة المالية في بعض الأحيان ومن هذه التساكر ما كتبته السيدة ام كلثوم للسيد عبد المسيح وزير للإعراب عن شكرها اثناء مكوثها في بغداد عام ١٩٣٢وهي من مقتنيات الأخ أسامة وزير.

أم كلثوم مع الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي في بغداد عام ١٩٣٢

رحم الله الزمن الجميل الذي ازدان جماله برموزه العظام الذين أفنوا حياتهم في خدمة وطنهم بأشكال متعددة على الرغم من صعوبة الحياة بكافة مضامينها وبساطة اساليبها والشعور بالثقة العالية بين افراد المجتمع لتنعكس هذه الثقة على كافة التعاملات الحياتية وتجعلها تسمو على ما هو مسيء لتبقى قصاصة ورق بين الافراد يشار لها بالبنان ارفع من بيع الأوطان على قصاصة ورق لا يذكرها التاريخ الا بكل اشكال الذم والاحتقار لأصحابها.


ورحم الله الامام الشافعي حين قال:

الناسُ للناسِ مادامَ الوفاءُ بهم
والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ
وأكرمُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ
تُقضى على يدهِ للناسِ حاجاتُ
لا تقطعنَّ يدَ المعروفِ عن أحدٍ
ما دمتَ تقدرُ والأيـامُ تاراتُ
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ فضائلهمْ
وعاشَ قومٌ وهمْ في الناسِ أمواتُ

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

651 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع