ذاكرة البصرة - قصر البلجانية في ابي الخصيب صدى لحكايات انطوت صفحاتها

 ذاكرة البصرة - قصر البلجانية في ابي الخصيب صدى لحكايات انطوت صفحاتها

حسين العطية

كانت جزيرة البلجانية من جنان الدنيا لموقعها الأخاذ على شط العرب واعتدال مناخها فهي أبرد من أبي الخصيب بعدة درجات مئوية في الصيف بفعل نسيم الشط البارد . تحد ساحة الشط من الشمال حديقة غناء بفواكه الرمان والعنب والخوخ وتطل على الساحة بأزهار الياسمين الأحمر والأبيض والرازقي .على تلك الجزيرة يقع القصر الفاره لصالح بيك العبد الواحد والذي دمرته بل طمست معالمه الحرب العراقية الايرانية !
كان القصر يقع في الجهة الشرقية (الشرگ) لقرية البلجانية على شط العرب . البلجانية او (البليانية) باللهجة الخصيباوية هي إحدى القرى التابعة إداريا إلى قضاء أبي الخصيب وتقع في إحدى جزر شط العرب ذات المناظر الطبيعية الخلابة والغنية ببساتين النخيل والفواكه ومختلف أنواع الطيور والأسماك وتبلغ مساحتها حوالي 1000 دونم كان لصالح بيك العبد الواحد 270 دونم منها . ورد اسمها في كتاب لغة العرب للأب انستاس ماري الكرملي بأن كلمة (بلجان) وهي القرية التي تقع عبر نهر الجبلة منها أصلها (بلد الجان) وحرفت إلى (بلجان)، أو بليان حسب اللهجة الخصيبية الدارجة وكلمة (البلجانية) أو البليانية فهي مؤنث( بلجان)
اما قصر البلجانية فقد شيده المرحوم صالح بيك العبد الواحد في بداية القرن الماضي ما بعد عام 1920 حيث تم نقل مواد البناء بواسطة الزوارق الكبيرة ( المهيلات) قبل بناء جسر البلجانية سنة 1952 على نهر( الجبلة )المتفرع من شط العرب ويحيط بالبلجانية غربا . وعائلة آل عبد الواحد من العوائل التي انحدرت من نجد وسكنت البصرة وأبي الخصيب واشتغلت بالتجارة وبخاصة تجارة التمور. وكانت عائلة ثرية امتلكت الأراضي الزراعية الواسعة وأشادت العديد من البيوت الفخمة في أبي الخصيب والبصرة القديمة والعشار، علما ان (الصالحية) في قضاء شط العرب أخذت تسميتها من صالح بيك ومعظم أراضيها من املاكه. وقد ترأس الوجيه صالح بيك بلدية البصرة أوائل القرن العشرين وكان عضوا في المجلس التأسيسي للادارة المحلية في البصرة . ولقد أتخذ من قصره في قرية البلجانية على شط العرب مقرا لسكنه .

موقع ساحر
كانت جزيرة البلجانية من جنان الدنيا لموقعها الأخاذ على شط العرب واعتدال مناخها فهي أبرد من أبي الخصيب بعدة درجات مئوية في الصيف بفعل نسيم الشط البارد وغابات النخيل الممتدة على مد البصر وماؤها أعذب لقربها من مصب الكارون كما ان البيك قد جهزها بمكائن الكهرباء والسقي وهي مكتفية ذاتيا من الحبوب والفواكه و الخضروات و منتجات الحليب بالأبقار التي تربى هناك. كان لا يأكل إلا الطازج من الفواكه و الخضروات واللحوم لذلك عمر إلى ما بعد التسعين عاما.

كما كانت حدائق البلجانية غناء بورود الياسمين الشامي والرازقي والجوري التي غرست في حدائقها. أعتاد البيك المبيت في البلجانية حيث الجو الرائع ويذهب صباحا بسيارته إلى بيته في ابي الخصيب لتوصيل الخضروات والدجاج المنتج في البلجانية لإعداده لغدائه كما كان يذهب احيانا إلى بيته الآخر في البصرة لمتابعة اعماله هناك والتي غالبا تخص تجارة التمور المنتجة من بساتينه ثم يعود إلى أبي الخصيب لتناول الغداء والقيلولة وقبل المغرب يعود إلى مقره الجميل في قصر البلجانية . 

الوصي عبد الأله ضيفاً

الصورة كاملة في قصر ال عبد الواحد في البلجانية في ضيافة الامير عبد الاله بن علي - الوصي على العرش - العراق.

الشخصيات البصرية الموجودة في الصورة هم من وجهاء البصرة من بيت ال عبد الواحد كلهم ويتوسطهم ملك العراق او مايسمونه الوصي على عرش العراق بالامير الشريف عبد الاله بن علي في جزيرة البلجانية في البصرة وفي قصر الحاج صالح بك ال عبد الواحد. الشخصيات في الصورة هم من اليمين:
1-الوجيه فؤاد بن عبد الرزاق بن الشيخ أحمد جلبي ال عبد الواحد
2-الوجيه عبد الصمد بن محمد بن الشيخ ابراهيم جلبي ال عبد الواحد
3-الوجيه جاسم بن عبد الوهاب بن الشيخ جاسم جلبي ال عبد الواحد
4-الاستاذ سلمان بن عبد الرزاق بن الشيخ أحمد جلبي ال عبد الواحد
5-صورة شخصية غير واضحة واحتمال ان تكون عائدة الى الوجيه عبد القادر بن جاسم جلبي ال عبد الواحد.
6-اللواء الطبيب الجراح رشاد بن عبد الرزاق بن الشيخ أحمد جلبي ال عبد الواحد
7-حضرة النائب محمد سعيد بن الشيخ أحمد جلبي ال عبد الواحد
8-سمو الامير الشريف عبد الاله بن علي - الوصي على عرش العراق
9- الوجيه الحاج صالح بك بن الشيخ الحاج محمود باشا ال عبد الواحد
10-الوجيه الحاج ياسين بن الشيخ ابراهيم جلبي ال عبد الواحد
11- الوجيه الحاج محمد جلبي ال عبد الواحد
12- السيد فاضل بن محمد سعيد جلبي ال عبد الواحد
13- الحاج عبد الوهاب ال عبد الواحد
14- الوجيه الاستاذ ناهض بن الحاج ياسين بن الشيخ ابراهيم جلبي ال عبد الواحد - رحمهم الله تعالى.

يتكون القصر من طابق واحد ذي جدران عالية وقسمين رئيسيين هما الديوان والحرم . بين الديوان والحرم توجد فسحة مستطيلة مرصوفة بالطابوق الفرشي وفي هذهِ الفسحة أقيمت وليمة في قصر صالح بيك العبد الواحد سنة 1947 احتفاء بالأمير عبد الإله . وحضر الوصي وبقية الضيوف على ظهر اليخت عالية الذي كان راسيا في المعقل امام مديرية ميناء المعقل وقد استقبل استقبالا حافلا بواسطة الزوارق الصغيرة التي كانت محاذية لجزيرة البلجانية . ومن ضمن الشخصيات والوجهاء الذين كانوا يرافقون الوصي كل من الشيخ عبد القادر باش أعيان العباسي واللواء الجراح الدكتور رشاد العبد الواحد والنائب محمد سعيد آل عبد الواحد والحاج ياسين آلعبد الواحد وغيرهم وتم التقاط الصور التذكارية بهذه

وقبل الوليمة بأيام اتخذت الاستعدادات اللازمة لهذهِ المناسبة المهمة فتمت صيانة جدران وأبواب وشبابيك وغرف الديوان وتجديد طلائها وتلميع يدات الأبواب (بالوارنيش) وقد استدعي لهذا الغرض الأسطى يعقوب ( ابو صحيِّب) وهو من أهالي ابي الخصيب وكان عند انتهاء عمله في النهار يتفرغ بعد الغروب لعمل القهوة في غرفة ( الگهوه جاغ) وأخرجت المناضد الفخمة الثلاث وهي من خشب الصاج من داخل قاعة الديوان إلى الفسحة المجاورة وغطيت بالشراشف البيضاء لتكون الوليمة في الهواء الطلق والجو المشمس لأن الدعوة كانت في بداية الشتاء .

جولة في انحاء القصر

يرتفع الديوان عن مستوى أرض بقية القصر ببضع درجات إلى الباب الرئيسي وعند دخولك يلاقيك ممر يقع إلى اليمين مكان يوجد به مرفـَع خشب يسند حبا فخاريا للماء تليه دكات السلم الذي يوصل إلى سطح الديوان وإلى اليسار حمام ومرفق شرقي ينتهي الممر بقاعة كبيرة مستطيلة بأربع نوافذ تطل اثنتان منها على جهة شط العرب ونافذتان مع باب يفضي إلى طارمة الكاشي . ويوجد في هذهِ القاعة ثلاث مناضد كبيرة ومستطيلة من خشب الصاج وحولها كراسي خشب صاج منتظمة على طول وعرض جدران القاعة . كما تطل على قاعة الديوان غرفتان مؤثثتان تحتوي كل منهما على موقد جداري على الطراز الانكليزي القديم فيه أنبوب اسطواني يتجه إلى الأعلى لخروج الدخان وشباكين يطلان على خارج الديوان . اما ساحة الشط فتقع شرق الديوان وتطل على شط العرب محاطة بسياج حديدي( محجر) مزخرف ومطلي باللون الأخضر الفاتح وهي على شكل مربع مرصوفة بالطابوق الفرشي تحيط بها ستة أعمدة مصابيح كهربائية ومفتوح طرفها الجنوبي الشرقي على ( مسناية الديوان ) . تحد ساحة الشط من الشمال حديقة غناء بفواكه الرمان والعنب والخوخ وتطل على الساحة بأزهار الياسمين الأحمر والأبيض والرازقي وإلى الجنوب من الساحة حديقة مكتظة باشجار البرتقال وتفصلها عن (بنگلة المكينة Machie Bungalow) . كذلك توجد حديقة مربعة صغيرة في ساحة الشط قريبة من جزء السياج المطل على الشط زرعت بالورد الجوري بألوانه الأحمر والوردي والأبيض .وكثيرا ما كان ركاب الزوارق الذين يتنزهون في شط العرب ينزلون منها إلى ساحة الشط للتمتع بمناظر الحدائق والتقاط الصور التذكارية . وكان من عادة البيك أن يجتمع بأهالي الديرة على ساحة الشط في ليالي الصيف للسمر وللاستماع إلى آخر الأخبار بواسطة الراديو الوحيد في البلجانية الذي كان يملكه البيك فقط ماركة RCA يتصل به هوائي ( اريل) ممتد بين عمودين منصوبين فوق سطح الديوان ومن الأخبار التي كانت مهمة آنذاك العدوان الثلاثي على قناة السويس سنة 1956. ومن طريف ما يذكر إنه في إحدى الليالي كان البيك والحاضرين يصغون إلى الأخبار كالعادة وبانتباه شديد وفجأة صدر من المذياع صوت تشويش أثناء البث فاستفسر أحد الفلاحين عن هذا الصوت مستغربا فأجابه الشخص الذي بجانبه بما معناه :
ــ إن هذا هو صوت الصراصير التي لم يبق سواها في قناة السويس بعد جلاء الجميع عنها بسبب الحرب !

( الگهوة جاغ)
وهي غرفة لإعداد القهوة والشاي توجد بجانبها غرفة اخرى مغلقة منذ سنوات طويلة يلفها الغموض ولا يعرف ما بداخلها يعتقد أولئك الذين كانوا يعيشون على الفطرة إنها مسكونة بالجن وقد نسجوا حولها الكثير من القصص والأساطير مردها إلى العقل الباطن من الخوف والسكون، ويقال بأن هنالك أمورا حدثت لأناس باتوا بالقرب من الغرفة عززت هذهِ الظنون . تقع هاتان الغرفتان بجوار الديوان تفصلهما عنه طارمة مرصوفة بالطابوق المربع الفرشي تسمى (طارمة أم الطابوق) . وكانت جدران القصر مبنية بالطابوق السميكي المستطيل ويصل عرض الجدار إلى المتر تقريبا . أما ارضيات القصر والغرف مرصوفة بطابوق مربع (فرشي) بينما سقوف غرف الديوان والحرم مغطاة بـ (الچندل و البواري واللطاش) . وكان سطح السقف السفلي مغلفا بقطع من الخشب المطلي باللون الأزرق وبأشكال هندسية بديعة .
الحرم
ساحة الحرم الداخلية( الحوش ) مكشوفة وجدرانها عالية ولا توجد نوافذ للغرف تطل على الخارج ولكن نوافذها تطل على جهتي (الحوش والشط)
. يوجد في الحرم غرف منام وغرفة يحفظ فيها الرز والسكر والطحين.... الخ، وغرفة طعام تحوي ثلاجة نفطية وكراسي ومنضدة طعام كما كان هناك ملحق للحرم فيه مطبخ وغرفة للطباخين . تم تزويد جميع غرف الديوان والحرم بمراوح سقفية ومصابيح كهربائية . ويفضي حوش بيت الحرم شرقا إلى باب يطل على ممر يسمى( المعبر ) ثم إلى( مسناية الحرم ) وهذهِ المسناية محجوبة درجاتها قليلاً عن شط العرب وغير مكشوفة مباشرةً مثل مسناية الديوان لتهيئة مكان ساتر للنسوة .

ومنشآت اخرى
كانت الحديقة تقع جنب مسناية الحرم تسمى ( البگشة) توجد فيها شجرة (همبة ــ مانجو) كبيرة تظلل على كل الحديقة ، وبقيت تشكل علامة مميزة للبواخر والسفن هي والقصر. اما بيت الخدم فيقع غرب بيت الحرم يفصله عنه ممر وتعلو جداره الشمالي بيوت صغيرة وأقفاص لتربية أنواع الحمام . كما كانت علوة الحطب ملاصقة لبيت الخدم يكدس فيها سعف النخيل اليابس وكل ما يصلح للتدفئة والطبخ . وكان في حظيرة المواشي ( البارگه) فيها العديد من الخراف والابقار والدجاج بينها عجل ضخم اطلق عليه اسم ( كشيشان) وتقع إلى الجنوب من بيت الخدم .

و كان من عادات البيك أن تقرأ له أجزاء من رواية عنترة بن شداد أو سيف بن ذي يزن بحضور البعض من أهالي الديرة في الليالي التي يصيبه الأرق فيها وذلك من قبل بعض الذين يجيدون القراءة قبل أن يغفو وينام على الكرسي الجالس عليه وكان هذا إشارة لأهالي الديرة الحاضرين المجلس بالانصراف .
مكائن القصر
وتوجد جنب القصر على ضفة شط العرب ماكنتان إحداهما كبيرة بعجلتين كبيرتين نوع (روبنسون) للسقي والطحن وتوليد الكهرباء وأخرى اصغر منها للسقي والطحن وتوليد الطاقة الكهربائية (روبنسون) بطول ثلاثة أمتار تقريبا ذات عجلتين جانبيتين كبيرتين قطر كل منهما حوالي المترين ثقيلة الدوران تدار كلا العجلتين في وقت واحد .
هذه الماكنة تعمل بالوقود الثقيل الذي كان يشبه الزفت وذلك بعد تسخينه لتقليل لزوجته عندما يضغط إلى (الحواقن) داخل غرفة الاحتراق . وتتكون هذه الماكنة من غرفة إحتراق واحده و(بستن) واحد كبير .ويوجد على جانبيها (فلاي ويل) أو ما يسمى بالدولاب الطيار متصل في نهايتي (الكرنك) من الطرفين لغرض استمرار الحركة بالموازنة والقضاء على عملية الاهتزاز في المحرك ويستعمل الوقود الثقيل لأنه اقتصادي ورخيص . وتتم عملية تبريد هذه المحركات بالماء من (الخنزيرة) عبر مضخة ماء تدفعه إلى شبكة التبريد ويبرد المحرك ويخرج الماء الساخن وهكذا. وتعتمد آلية السقي على أنبوب حديدي تتصل فوهته العليا بالماكينة يمتص المياه من شط العرب . وكانت الماكينة تستخدم لتوليد الكهرباء و كذلك لسقي البساتين ، و كان تيار الماء يخرج قوياً من إنبوب قطره 12 إنج يَصُب في حوض خرساني ومنه يخرج ليتوزع إلى شبكات من السواقي إلى الحدائق والبساتين . لقد كان صوت الماكينة ذا تقاسيم محببة عند تشغيلها وما زال من سمعه يتذكر نغمته التي يركب عليها كلمات ثم يرددها بشكل لاارادي . وعلى شط الجبلة أيضا توجد سقيفة من الصفيح تضم ماكينة أكبر تقوم بسحب المياه التي ترتفع في الأنهار وتغرق الأراضي والبساتين جراء الفيضانات أو انكسار جزء من السدة وتلقي المياه في شط الجبلة . ومن طريف ما يذكر إن صفيح جدار سقيفة ماكينة الجبلة كان بمثابة مدفع الإفطار في رمضان إذ يجتمع عنده صبية وأطفال الديرة في المساء وبيد كل منهم عصا أو ( عسگة) ينتظرون اشارة الـ (ملا لفته) مؤذن البلجانية الذي يقف على جسر الخشب القريب وهو ينقل نظره بين ساعة جيبه وقرص الشمس الأصفر المنحدر نحو المغيب خلف رؤوس النخيل جهة العامية . وعندما يعطي ملا لفته الإشارة ينهال هؤلاء الصغار بالضرب على صفيح السقيفة بصوت يسمع حتى آخر بيت في البلجانية بعدها يرفع ملا لفته اذان المغرب ! كذلك يوجد ( گراج ) في الديرة( الجبلة ) لإيواء اللوري حمولة 3 طن ( دوج ) العائد للبيك .
كان من عادة البيك الجلوس على كرسي واسع مصنوع من الخشب والكنبار عند مدخل القصر مرتديا الصاية والسدارة يتطلع عبر نظارته الشمسية إلى مملكته وتحت قدميه يلعب كلباه المدللان( جاكي ) و( كابي)
. ولقد مسح القصر جراء الحرب العراقية الإيرانية بأرض البلجانية التي تحولت إلى مقابر صامتة ، شأنه شأن العديد من الصرةح التي كانت تعد علامات فارقة لميناء شديد الأهمية كالبصرة ، وياله من زمن لن يعود !

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

617 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع