دورالمخابرات السوفيتية في افشال مؤامرة صدام حسين وناظم كزار في التنخلص من الرئيس البكر في الثلاثين من حزيران ١٩٧٣

دورالمخابرات السوفيتية في افشال مؤامرة صدام حسين وناظم كزار في التنخلص من الرئيس البكر في الثلاثين من حزيران ١٩٧٣

وعن محاولة ناظم كزار الانقلابية نشرت مجلة( الوطن العربي) الصادرة في باريس بعددها 854 بتاريخ 16/7/1973 مقابلة مع الجنرال المتقاعد العميل في المخابرات السوفياتية الـ كي جي بي( فالنتين فرولوف) في بغداد يتحدث فيها عن دور الاتحاد السوفييتي في افشال المحاولة بتأخير طائرة الرئيس البكر في بلغاريا. وجاء في المقابلة" الرواية الرسمية تقول ان المحاولة الانقلابية التي جرت في الثلاثين من حزيران /يونيو 1973 قامت بها جماعة من عملاء الرجعية في الداخل والخارج برئاسة رئيس الجهاز الأمني العراقي ناظم كزار، لكن هذه الرواية تغالط الحقيقة كما عرفتها وعايشتها وما زلت اذكرها بالتفصيل".

لا اجد الان ما يردعني عن كشف الستار والقاء الضوء على حقيقة تلك المحاولة وخفاياها وان كان الجانب الذي يتعلق بشخصية صدام حسين ما زال يشوبه بعض التشويش".
بدأت الحكاية قبل شهور من اعلان افشال محاولة الانقلاب وكنت وقتذاك مندوبا لجهاز الـ ( كي جي بي) الاستخباري في بغداد بالوكالة لان مندوبه كان قد سافر إلى موسكو في مطلع عام 1973 لقضاء الاجازة السنوية ومرض وادخل إلى المستشفى ثم قدم استقالته لاسباب صحية. وانهمكت الجالية السوفيتية في العراق في اذار/مارس 1973 في الاعداد للاحتفال بالذكرى السنوية الاولى لتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين الاتحاد السوفياتي والعراق في نيسان/ابريل 1973 وجرت الاتصالات مع وسائل الاعلام تمهيدا لنشر مقالات تشيد بهذه المعاهدة كونها تخدم مصلحتي البلدين. وفيما كنت منكبا على الاعداد لهذا الاحتفال فاجأتني برقية ( مشفرة) من موسكو تقول( انه يجري في بغداد الاعداد لانقلاب) وطلبوا مني التحقق من صحة هذه المعلومات وتحديد مدبري الانقلاب المرتقب ورفع تقارير إلى الادارة كل يوم.
وادهشتني هذه البرقية لانه لم تكن وصلتني حتى تلك الساعة اية معلومات عن الاعداد لاي انقلاب. وسألت زميلي في المخابرات العسكرية فيما اذا كان على علم بوجود معارضين للحكم العراقي قد يعتزمون اطاحته فرد بالنفي القاطع قائلا ان الجيش يؤيد الرئيس احمد حسن البكر وقيادة حزب البعث فيما يقضي وزير الدفاع حماد شهاب النهار والليل في بيت صدام حسين اقرب المقربين من الرئيس احمد حسن البكر.

مرتضى سعيد عبدالباقي ، صدام حسين ، سعدون غيدان

وبطبيعة الحال جندت معاوني لتنفيذ أمر القيادة ووزعت ( عيوني) في اوساط قريبة من صدام حسين ووزير الداخلية سعدون غيدان لكن احدا لم يجد ما يمكن ان يجعله يشتبه بوجود مؤامرة تستهدف الحكم.

وقيادة الحزب الشيوعي العراقي التي كنت على اتصال بها لم تكن تعرف هي الاخرى ان كانت هناك قوى معارضة او رجعية تدبر انقلابا.وهكذا لم نعثر على شيء يدل ولو من بعيد على الاعداد لانقلاب تقول موسكو انه في الطريق وعلمنا من المقربين من صدام حسين انه هادىء وواثق من نفسه وعلاقاته عادية مع وزارتي الدفاع والداخلية والجهاز الأمني وأن الدوائر الأمنية والعسكرية تخلو من اي مظهر من مظاهر المعارضة للرئيس العراقي وأوساطه وما كان لي اذن الا ان اشكك في مصداقية المصدر الذي أبلغ موسكو بالأعداد لإطاحة نظام أحمد حسن البكر – صدام حسين، وعبرت عن شكوكي في احد التقارير التي رفعتها إلى موسكو. ولكني فوجئت بعد أيام ببرقية تستدعيني للحضور على عجل إلى موسكو.

هناك اخبرني مسؤولون كبار في الـ(كي جي بي) اجتمعت بهم في 11 نيسان/ابريل 1973 ان مصدر خبر الانقلاب هو المخابرات الانكليزية التي كانت تنظر إلى الرئيس العراقي احمد حسن البكر بعين العطف وتعلق امالها عليه.وعلمت ان مدير جهاز المخابرات البريطانية هو الذي ابلغ قيادته ان مؤامرة تحاك بهدف اطاحة الرئيس العراقي من دون ان يسمي من يحرك هذه المؤامرة.وعلمت موسكو بهذا التقرير الانكليزي من عميل مزدوج في المخابرات الانكليزية يتعاون مع المخابرات السوفياتية. في البداية ظنت موسكو ان المؤامرة تستهدف حزب البعث الحاكم في العراق ولكن تبين في وقت لاحق انها اخطأت الظن.
وبطبيعة الحال لم يسر تقريري مسؤولي الـ(كي جي بي) بل على العكس اتهموني ومعاوني بالجهل والخمول، ومع ذلك شكلوا مجموعة لبحث ( القضية العراقية) وضموا اليها مندوب المخابرات السوفياتية في العراق الذي كان انذاك في المستشفى والذي توليت مهمته مؤقتا.واذكر هنا ان الرجل اقترح ابلاغ القيادة العراقية عما تعرفه موسكو في شأن الاشتباه بالاعداد للانقلاب. وبما ان الامر تطلب موافقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي فان قيادة الجهاز الاستخباري ناشدت رئيس اللجنة الدولية للأمن الـ(كي جي بي) يوري اندربوف اثارة هذه المسألة في اللجنة المركزية.

وفي 15 نيسان/ابريل 1973 استدعى اندربوف قيادة الجهاز الاستخباري والمعنيين بالامر وكنت واحدا منهم. واستمع اندربوف إلى تقرير مستفيض قدمته انا، ومداخلات من معارضين لخطوة ابلاغ القيادة العراقية بالامر واقترحوا الا نبلغ الرئيس العراقي شخصيا بذلك وانما احد اقرب المقربين منه مثل رئيس الجهاز الأمني العراقي.وبدون ان نسمي المخبر. وهنا قال اندربوف ( كي نتصل برئيس الدولة يجب ان نستأذن لجنة الحزب المركزية. اما للاتصال باحد المقربين منه فتكفي موافقتي وبالفعل تقرر ان نتصل بصدام حسين بواسطة قيادي من الحزب الشيوعي العراقي كان يجتمع به لمناقشة مسودة ميثاق العمل الوطني.وما ان عدت إلى بغداد حتى وردتني برقية من اندبروف تطلب مني الاتصال بصدام حسين وتحمل نصا يمكن نقله إلى نائب الرئيس واقرب المقربين منه.

لقاء صدام – فرولوف :

ويواصل لافروف حديثه قائلا" وكانت المفاجأة ان ما قاله مسؤول الحزب الشيوعي العراقي لصدام حسين لم يقلقه ولم يبد اي اهتمام بهذا الخبر لكنه الح عليّ ان يعرف اسم المخبر. وعلق صدام قائلا لمسؤول الحزب الشيوعي :ان التعاون بين حزب البعث والحزب الشيوعي كفيل باحباط اية مؤامرة تهدف اعادة العراق إلى معسكر الامبريالية والرجعية وحتى لو الحقت المؤامرة الاذى بشخص ما من قادة الحزب والدولة فان هناك عددا كافيا من المخلصين للثورة الذين يمكن ان يحلوا محل من استشهد من اجل الوطن وشعبه".
ان كلام صدام حسين هذا الذي نقله الينا مسؤول الحزب الشيوعي لم يحمل في رأينا الاجابة عن تساؤلنا بل اثار تساؤلات اخرى كان لابد من استفسار صدام حسين شخصيا عنها لا سيما واننا علمنا ان صدام حسين قال لمقربين منه انه يريد ان يحمله احمد حسن البكر إلى قصر الرئاسة كما حمل الجنرال محمد نجيب جمال عبد الناصر إلى قصر الرئاسة المصرية.
وطلبت من قيادة الـ( كي جي بي) ان تسمح لي بالدخول في اتصال شخصي مع صدام حسين، لكنها طلبت مني ان احمل إلى موسكو شريط الكاسيت الذي سجلت عليه المقابلة بين مسؤول الحزب الشيوعي العراقي وصدام حسين ولا يستبعد ان يكون صدام حسين ايضا قد سجل كلام مسؤول الحزب الشيوعي. وتطور في ضوء تحليل المعلومات المسجلة على هذا الشريط والمعلومات المخابراتية الاخرى، ان اجتمع بصدام حسين واقول له ان موسكو علمت بالاعداد للانقلاب في بغداد وانها تعتبر ان لادخل لاية قوى خارجية في تدبير هذا الانقلاب كما انها لا تعتقد ان القوى الرجعية والداخلية متورطة في المؤامرة المرتقبة ولكن ذلك لا يعني قيامها قيامها بتأييد الانقلاب لو وقع خصوصا وانها لا تستبعد ان تؤدي اطاحة بعض المسؤولين إلى تغيير السياسة العراقية على الصعيدين الخارجي والداخلي. وكان عليّ ان اقول ايضا ان موسكو لا تريد ان يتغير الوضع السياسي في العراق تغيرا لافتا للنظر بعد سنة على توقيع المعاهدة السوفياتية –العراقية. وتلقيت الضوء الاخضر من اندربوف وعدت إلى بغداد على جناح السرعة من دون ان التقي ابني طالب الكلية العسكرية الذي يأتي إلى البيت في ايام العطلة الاسبوعية فقط".
ورتبت الاجتماع بصدام حسين بدون صعوبة. فقد نقل المسؤول الشيوعي الذي زامل صدام حسين في لجنة اعداد ميثاق العمل الوطني رغبتي بالاجتماع معه، وحدد صدام الساعة السابعة من مساء يوم 3 ايار/مايو موعدا للاجتماع في مكتبه وكان الواجب ان يرافقني هذا المسؤول الشيوعي الذي عرفه الحرس كعضو في لجنة اعداد ميثاق العمل الوطني اشار الحرس الينا بالدخول إلى غرفة ظننتها مقرا لاجتماعات اللجنة لوجود طاولة ضخمة فيها. وكان صدام حسين الذي ارتدى لباسا مدنيا في انتظارنا في احد اركان الغرفة جالسا إلى مائدة صغيرة تعتليها الفاكهة وثلاثة فناجين قهوة واتفقنا على التكلم بالانكليزية. واخذ صدام حسين مرافقي من يده معتذرا مني وقاده إلى الغرفة المجاورة فيما يبدوعبر الباب الاخروما لبث ان عاد ومد يده مصافحا يدي فقال انه يعرف من انا ولا يطلب اية وثائق ولا اوراق اعتماد وانما يرجوني ان اخبره بما لدى ولا يهمه ان كان هذا خبرا او اقتراحا. المهم انه سيسمعه من صديق.
وبعد التحية نقلت اليه البيان الذي وضع في موسكو بحذافيره ورجوته ان يدلي برأيه حول كل بند منه. وقال صدام بسرعة ( لم تقل لي من اين لكم بهذه المعلومات ولكني لن اصر على ذلك) واضاف صدام( ان الثورة قوية بعناصرها الشابة واذا لم تحقن قيادة الثورة بالدماء الشابة فان الثورة تخمد ويتحول نهرها إلى مستنقع. ومع ان التجديد عملية طبيعية الا ان الامر يقتضي في بعض الاحيان حثها وتبديل القياديين والا لا يمكن خطو خطوة بناءة جديدة)
واكد صدام( ان اللجنة المكلفة باعداد ميثاق العمل الوطني واجهت منذ قليل موقفا كهذا ولم تخرج من المأزق الا بعدما بدلت الاحزاب المنتمية إلى الجبهة القومية الوطنية التقدمية ممثليها في اللجنة، ويمكن ان تواجه قيادة الدولة ايضا مثل هذا الموقف الذي يستوجب استقالة مسؤول ما).
وتابع صدام يقول (إن مسؤولين أمنيين اخبروه بان جماعة من المغامرين تنوي المطالبة بتنحية بعض رجالات الحزب والدولة، وهناك من يعبر عن سخطه على رئيس الدولة. غير انهم لا يملكون اسقاط الحكم ولا يساندهم الجيش ولا الشعب. ولذا فان السلطة تكتفي بمراقبة هذه الجماعة بهدوء. اما اذا قامت هذه الجماعة بمظاهرة ما فان هذا سيتيح للسلطة الفرصة لتنحية اناس يشغلون مواقع القيادة نسوا انه عهد اليهم بهذه المناصب كي يخدموا الثورة ولا يستثمرواها لخدمة مصالحهم الخاصة، ولاحلال عناصر جديدة تحمل افكارا جديدة تواكب العصر محلهم).
وبالنسبة لقلق موسكو على الاستقرار الداخلي وأمن حليفها يقول فرولوف اكد لي صدام ان بلاده لن تتراجع عن المعاهدة ولن تجنح قيد انملة إلى جهة الامبريالية والصهيونية والرجعية، وان العراق سوف يظل يناوىء الدول الامبريالية والصهيونية والرجعية خصوصا الولايات المتحدة الامريكية ما لم تغير موقفها جذريا من العراق ومشاكله.
وبعد ما فرغ من كلامه شعرت انه آن لي ان انصرف.واكدت انني سوف انقل كلامه إلى قيادتي حالا. واختتم محدثي اللقاء قائلا انه مستعد لاستقبالي مرة اخرى او مرارا عند الضرورة، وصب القهوة من الفنجان الثالث في احد الاواني وخرج ليعود بمرافقتي عبر الباب نفسه ثم قادنا إلى الدهليز.
وبعد اربعين دقيقة جلست في مكتبي اكتب تقريرا إلى موسكو فيما انشغل زملائي في ترجمة الحديث الانكليزي المسجل على شريط الا ان موسكو طلبت مني ان احضر الشريط شخصيا الـ ( كي جي بي) مع صدام وبريجنيف مع البكر

موقف القيادة السوفييتية

أجمعت قيادة المخابرات السوفياتية على ان صدام حسين يعتزم اطاحة احمد حسن البكر وينتظر تحرك جماعة من معارضي الرئيس العراقي وربما يؤلف هذه الجماعة بنفسه. ولم يستبعدوا احتمال تصفية الرئيس العراقي جسديا اثناء الانقلاب الذي يقوده الجهاز الأمني وصدام حسين شخصيا. ووضعت القيادة سيناريوهات لما يمكن ان يعقب هذا " الانقلاب" اذا نجح او فشل. وكان الاعتقاد السائد ان هذه الحالة لا تعدو كونها صراعا تألفه بلدان العالم الثالث بين الجماعات والفئات الطامحة إلى التفرد بالسلطة بعدما استولت عليها سوية.وفي آخر الامر غلب الرأي القائل بوجوب ترك صدام حسين يصل إلى الحكم او على الاقل عدم منعه من تنحية احمد حسن البكر. ومما عزز هذا الرأي ان الشيوعيين العراقيين او بالاحرى قسما من قيادة الحزب الشيوعي العراقي اشادوا بالتعاون البناء مع صدام حسين في اعداد ميثاق العمل الوطني فضلا عن توفر المعلومات عن" اتصالات رئيس الجمهورية العراقية بالمخابرات الانكليزية"

ومن هنا طلب الـ( كي جي بي) من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ان تسمح له بتأييد قوى حزب البعث العراقي الوطنية والديمقراطية السليمة بقيادة صدام حسين في النضال من اجل السلطة ضد الانتهازيين والمعارضين.

لكن المفاجأة كما يقول فرولوف هي ان قيادة الـ( كي جي بي) اصطدمت بمعارضة ليونيد برجنيف زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي. وعلمنا من يوري اندربوف ان احد مساعدي برجنيف اوضح للزعيم السوفياتي الذي استعد لمناقشة المشكلة العراقية في المكتب السياسي ان جماعة صدام حسين الذي يعتمد على البعثيين الشباب تنوي تنحية الرئيس البكر الذي وقع المعاهدة مع الاتحاد السوفياتي " البعثيين القدماء" ولست ادري كما قال اندربوف بشيء من السخرية ان كان وراء قلق الرفيق برجنيف علمه بان الرئيس البكر وقع المعاهدة مع الاتحاد السوفياتي او وقوف البعثيين الشباب ضده. وعلى اي حال فانه لا يمكن لنا اي القيادة السوفياتية الا ان تساند الرئيس الذي وقع قبل سنة معاهدة ذات مضمون جيد معنا. وايد غروميكو برجنيف وقال انه لا يمكن لنا ان نتخلى عن الحلفاء الذين يوقعون معاهدات الصداقة والتعاون معنا.لان من شأن ذلك ان يلوث سمعة الاتحاد السوفياتي في الساحة الدولية. يومها قال اندربوف ان موقف غروميكو يأتي من انزعاجه لكون الـ(كي جي بي) اجرت المحادثات مع صدام حسين بدون معرفة السفارة السوفياتية في بغداد ووزارة الخارجية في موسكو. وتدخل بوريس بولماريوف مسؤول العلاقات مع الاحزاب في اللجنة المركزية فقال:

ان الحكومة العراقية حين رأسها احمد حسن البكر باركت اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1963 وبضمنهم الامين الاول سلام عادل الذي اطلق اسمه على احد شوارع موسكو. كما اشار بولوماريوف إلى ان قيادة الحزب الشيوعي العراقي الحالية تؤكد امكانية التعاون البناء مع صدام حسين" ولكن برجنيف اصر على مسندة الرئيس البكر. ونص قرار المكتب السياسي على ان الـ(كي جي بي) مطالبة بمساندة الرئيس البكر وتسخير جهودها لتحقيق الاستقرار في البلاد( العراق) وتوحيد اعمال جميع الاحزاب والجماعات المنضمة إلى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية العراقية وتعميق التحولات الديمقراطية.
وطالبني رئيس الـ(كي جي بي) بان اعود إلى بغداد وابلغ صدام حسين انه لا يمكن لموسكو ان تقف موقف المتفرج اللامبالي في الوقت الذي لاحت فيه نذر تحول الخلاف في قيادة البلد الصديق إلى صراع قد تستغله قوى معينة لالحاق الضرر سواء بالعراق او بالاتحاد السوفياتي. وان سفارة الاتحاد السوفياتي في بغداد مطالبة بابلاغ الرئيس العراقي بان خطرا يهدده من جانب القوى الرجعية".
وفي 12 ايار/مايو 1973 اجتمعت للمرة الثانية بصدام حسين في المبنى نفسه ووفق السيناريو نفسه واستمع صدام حسين اليّ بهدوء كما بدا لي ولكن ما ان قلت ان السفير السوفياتي ربما ينبه الان الرئيس العراقي إلى الخطر الذي يجدق به حتى انتفض صدام وقال بنبرة مرتفعة" الا يبدو لكم ان هذا تدخل في الشؤون الداخلية؟"
واجبت اننا لا نتدخل وانما نحذر رئيس الدولة الصديقة من خطر ربما تربص به. واضفت اننا لا نعرف المتآمرين وقد يضطر رئيس الدولة وجهازه الأمني إلى البحث عنهم.وانتهى الاجتماع.
وفي اليوم التالي كان الهدوء لا يزال يسود بغداد ولكنني كنت انتظر عاصفة وبالفعل علمنا ان حرس مقر الرئاسة العراقية تلقوا تعزيزات من العناصر الموالية للرئيس احمد حسن البكر الذي كان بزيارة رسمية لبلغاريا الا انني كنت على ثقة بان صدام حسين لن يتوقف في منتصف الطريق ولابد من ان يحث خطاه خصوصا بعدما علم بتدخل موسكو. وفي تصوري وجد صدام حسين نفسه امام خيارين. اما الاسراع في تحقيق خطة الانقلاب او تبرئة ساحته بالتخلص من اعوانه المورطين في التواطؤ. ولم اعتقد يوما في وجود هؤلاء.

وتبين فيما بعد ان صدام حسين تصرف مبديا ضروبا من البراعة. ففي 30 حزيران/يونيو 1973 سمع اهالي بغداد خبر افتعال المحاولة الانقلابية الجديدة. وافادت المصادر الرسمية ان رئيس المصلحة الأمنية السابق ناظم كزار خطف وزير الدفاع حماد شهاب الذي سبق لمندوب المخابرات العسكرية السوفياتية وصفه بانه احد المقربين من صدام حسين ويكاد يكون صديقا له

ووزير الداخلية سعدون غيدان واحتجزهما كرهينتين وحاول قتل الرئيس البكر وصدام حسين لكنه فشل وفر إلى الحدود الايرانية حيث القي القبض عليه، وكان قد قتل شهاب وجرح غيدان. هكذا قالت الرواية الرسمية. غير ان الحقيقة التي توصلت اليها الـ(كي جي بي) ان هؤلاء الثلاثة هم الذين خططوا مع صدام حسين لسبب مجهول دعا كزار الذي حلم بمنصب نائب رئيس الجمهورية والسيطرة على الجهاز الأمني ووزارتي الدفاع والداخلية، الوزيرين المتواطئين إلى تحرك بدون صدام حسين واحاط احدهما وربما كليهما صدام حسين علما بذلك.واخبر ضابط مناوب في مكتب رئيس الجهاز الأمني في وقت لاحق ان شهاب وغيدان اتيار بكزار ليسوقاه إلى صدام حسين ولكنه باغتهما باطلاق الرصاص فقتل احدهما وجرح الاخر ثم حاول الفرار ولكن القي القبض عليه وبعدها لم يصعب تأليف رواية الانقلاب.
وهكذا ابتسم الحظ لصدام حسين في 30 حزيران/ يونيو 1973 عندما لم يوقف موقف الخصام بين ثلاثة متواطئين معه فحسب بل وساعد في تلفيق " المؤامرة الهادفة إلى اغتيال الرئيس البكر وصدام حسين" في الوقت الذي ربما كان " عيون" الرئيس البكر قد امسكوا بخيط المؤامرة الحقيقية وعززت السنوات التي امضاها صدام حسين يحرك الدسائس حدسه. حتى انه يكاد لا يخطىء في معرفة المجاز من الممنوع عندما يدور الحديث عن مصلحته الشخصية.
فصدام حسين كما يقول فرولوف يتصرف تصرفا يحسبه الكثيرون يحتاج إلى بأس شديد ولكنه لا يستعين ببأسه بقدر ما يستعين بحدسه المرهف كيلا يقع في خطأ فادح يكلفه كثيرا ولم يخنه حدسه عام 1973".
وبالمناسبة يضيف فرولوف "حرصت الـ(كي جي بي) على عدم كشف عيوب واسرار صدام حسين أملا في ان تجعله عميلا في المستقبل. وانتظر صدام ست سنوات تولى بعدها رئاسة الجمهورية وحالفه الحظ اثناء " عاصفة الصحراء" ايضا بفضل حدسه الذي لم يسمح له بتجاوز" الخط الاحمر" ليجد نفسه في مزبلة التاريخ. واذكر ان ريتشارد تشيني وزير الدفاع الامريكي قال مخاطبا الجنود الامريكيين في الخليج في كانون الاول/ ديسمبر 1991" الافضل ان نقضي على صدام حسين اليوم من ان نحاول ذلك بعد خمس او عشر سنوات.

ومن جانبه دعا الرئيس بوش الجنود الامريكيين إلى احراز (نصر كامل) لا يترك مجالا للشك لكنهم لم يحرزوا ( نصرا كاملا) ولم ( يقضوا على صدام حسين) فقد تلمس صدام بفضل حدسه المرهف الطريق الذي يجعل السياسيين الامريكيين يحتاجون اليه كما احتاج اليه الـ( كي جي بي) في حينه.. وادرك صدام حسين ( المحظوظ) ان الولايات المتحدة لا تحتاج اليه كبعبع يخيف جيرانه العرب ويرغمهم على شراء الاسلحة الامريكية وكصاعق لتفجير النعرات بين فصائل المقاومة الفلسطينية والحركة القومية العربية عموما وكنقيض لايران الاصولية التي ل تنتظر واشنطن الخير منه. ولكن الا تخطىء واشنطن حين تحافظ على صدام حسين كشخصية سياسية يفترض انها تخدم مصلحة امريكا؟ في تصوري كما يقول فرولوف ان احتمالات الخطأ تزيد كثيرا على 50 في المئة.
بالاضافة إلى المناسبتين " للمخابراتيتين المذكورتين"اجتمعت مع صدام حسين في حوالي عشر مناسبات اخرى رسمية وغير رسمية قبل ان يصبح رئيسا للجمهورية العراقية وبعدها. وخيل اليّ ان صدام حسين حرص في كل هذه المناسبات على ايهامي انه يعرف عني اكثر مما يبدو بدون ان يقول ما يكشف عن مهمتي المخابراتية. وفي اعتقادي كما يقول فرولوف ان صدام حسين حليف غادر لا يعتمد عليه.وخصم ماكر يفهمه هو. فعندما بدأ العراق باقامة جسور التقارب مع مصربعد عام 1980 رافعا شعار ( عزل كامب ديفيد لا مصر) قال صدام حسين ان الدولة يمكن ان تتراجع ولكن صدام لا يمكن الا ان ينتصر.
ولا منافس لصدام حسين في اجراء العمليات السرية وهو يتقدم كثيرا على القذافي ( الرهيب) في هذا المضمار اذ يتقن تمويه هذه العمليات ولا يترك اي اثر او بالكاد. ومن ينفذها يحفظ لسانه حتى لا يفقده.وينسب إلى صدام حسين هذا القول ( اذ اردت ان تفشل خطة ما كلف وزارة الخارجية بتحقيقها) غير انه لا يثق باقرب المقربين منه كل الثقة،

وعندما يذهب ( وكيله الدبلوماسي) طارق عزيز إلى الخارج في مهمة ما، توضع اسرته تحت مراقبة صارمة تشبه الاقامة الجبرية.
وعلى الرغم من ان بغداد لا تحتفل بذكرى المحاولة الانقلابية الفاشلة في 30 حزيران/يونيو 1973 الا انني كما يقول الجنرال المتقاعد فالنتين فرولوف مسؤول المخابرات الـ (كي جي بي) في السفارة السوفياتية ببغداد لمجلة الوطن العربي التي تصدر في العاصمة الفرنسية باريس" على قناعة بان صدام حسين يتذكر كبوته الاولى والاخيرة فيما يبدو في الصراع من اجل السلطة عندما ساعده ( الحظ) في التخلص ممن قد يشهدون عليه واضطر إلى الانضمام إلى معسكر خصمه رئيس الجمهورية ليحقق هدفه في نهاية المطاف". (مجلة الوطن العربي) الصادرة في باريس بعددها 854 بتاريخ 16/7/)1973

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

686 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع