"من الطفولة والصبا، ذكريات تحمل كل معاني الحب والحنين"

"من الطفولة والصبا، ذكريات تحمل كل معاني الحب والحنين"

لا شك ان التراث يمثل الذاكرة الحية للفرد والمجتمع، وكما لا شك فيه ايضاً ان التراث بقيمه الثقافية، والاجتماعية يكون مصدرا تربوياً، وعلمياً، وفنياً، وثقافياً، واجتماعياً، فتراثنا، هو الجذر الذي مهما علت شجرة الأيام وتزينت واختلفت الوان اوراقها، يظل يشدنا الى التربة والأصل. انه حكايات لا تزال تنبض بالحياة، تماما كما الجذور تنبض بماء الحياة.

منذ القدم وُلِدت الألعاب الشعبيّة اذ تعتبر من اقدم النشاطات الإنسانية تزامناً مع وجود رغبة الإنسان بالمتعة والمرح، فالألعاب الشعبية ذات الجذور التأريخية ذات فوائد ومزايا وهي إما جماعية تحتوي على أسس وقوانين أو أنها فردية تتميز بالبساطة فقد حظيت باهتمام كبير لما لها من فوائد جمة تعود على اللاعبين في مختلف الأعمار، تعد الألعاب الشعبية متنفس جماعي فطري تظلله روح الابداع كونها تتمتع بالأصالة والمرونة وهى إرث العامة من الشعب، اهتم التراث الشعبي اهتماما خاصا بالأطفال، وتضمنهم في جميع مجالاته من قصص وأغانٍ وأناشيد وألعاب وأمثال شعبية وفنون شعبية وتعبيرية، ولعلّ أهمّ ما يميّز هذه الألعاب ارتباطها القويّ والمتين بتقاليد المجتمع وثقافته المبنيّة على الروابط الأسريّة الواحدة حيث التقاء أطفال الأسرة الممتدّة مع بعضهم البعض لتحمل في طيّاتها الفرح والسعادة وتنمية المهارات الجسديّة والعقليّة تجمع بين الفوائد الخلقية والبدنية والنفسية والاجتماعية والسلوكية والوجدانية وتنمية العلاقات وتجسيد روح التعاون والألفة بين الجماعة.
تعلمنا الذكريات القيم الأساسية مثل الصداقة والمحبة والتعاطف. قيمة الذكريات تظهر في قدرتها على ربط الماضي بالحاضر، حيث تساعدنا على فهم رحلتنا الشخصية، كم هي جميلة ذكريات الطفولة، فالجميع لديه تلك الذكريات، إنها حالة من الحنين تداعب مشاعرنا وجزء لا يتجزأ من ذاكرتنا، وما يزال لها نصيب وحظ في وقتنا الحاضر، رغم تلاشي عدد منها، فهي نماذج الحياة الاجتماعيّة التي حملها الأجداد والآباء للأحفاد ومرآة تعكس عاداتنا وتقاليدنا، بالنسبة لذكريات الطفولة وأيام الصبا فهي لا تُنسى وهي أفضل لحظات العمر كما يقول الشاعر:
بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني *** فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ
فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً *** فَأُخبِرُهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ
سأعود إلى دفاتري المليئة بالذكريات، أتكئ عليها لتروي حكايات قديمة، جديدة لرحلة الطفولة والصبا والدفء والحنان، في عالمنا الذي يسير بخطى سريعة ومدفوع بالتكنولوجيا، ليس من غير المألوف أن نجد أنفسنا نتوق إلى أوقات أبسط، أوقات يمكن فيها العثور على الفرح في أكثر الأماكن تواضعًا.

بالنسبة للكثيرين منا، كانت الطفولة وقتًا للعب والبراءة والفرح الخالص. لقد كان الوقت الذي ربما كان فيه القرار الأكثر أهمية في اليوم هو اختيار اللعبة التي ستلعب به هنالك العديد من الألعاب الشعبية التي تمارس من قبل الأطفال والشباب الذكور والاناث في مراحل سنية محددة، سنتناولها في رحلة ممتعة عبر ممر الذاكرة، ونكشف عن السحر الذي لا تزال تحتفظ بها.

كم هي جميلة الطفولة جميلة فهي لا تزال تحمل في ذاكرتي في شوارع الاعظمية القديمة وصدى الأصوات المزدحمة في الأسواق الشعبية وازقتها تحمل خصوصية لذلك أحن للطابع الشعبي وحياة الناس القديمة ببساطتها، وضحكة الأصدقاء ولقاء الأحبة، استنشق عبير النسمات الباردة صباحاً عند الذهاب الى المدرسة حيث لازالت تلك الأوقات التي قضيناها في اللعب مع الأصدقاء في ساحة المدرسة في الهواء الطلق كالجري والقفز والدردشة والمشاكسة والمضايقة والمشاغبة والمقالب، وما احلى تلك الايام رغم قسوة البرد نقف ونؤدي تحية العلم.

في ماضي كل منا الجميل كانت اً أيام الشارع نمارس اللعب مع اولاد المحلة وبعض من الأحيان مع أولاد المحلة المجاورة من الظهيرة حتى غروب الشمس، منها جماعية ومنها فدرية انثوية وذكورية واحياناً مختلطة، لم نكن بحاجة إلى ألعاب أو أدوات فاخرة، ولعبة الدعبل والمصرع والختيلة وتفوير زجاجة الببسي

والطائرات الورقية التي تطلق في الجو في فصلي الصيف والخريف حيث تكون الرياح مناسبة لمزاولة مثل هذه الالعاب..

ولعبة التوكي وجر الحبل والمصيادة وسبع حجار والصكلة وكرة القدم.

حين يطل الشتاء وبنهايته برد العجوز وهي ترتجف من البرد القارس ترى الناس يهرعون الى المناقل او لإيقاد صوبة علاء الدين الشهيرة لمقارعة برد الشتاء الذي لم يكن ليرحم أحدا، اتذكر تلك الشتاءات الباردة والمطر وصوت الرياح، شتاء بغدادنا الحبيبة ومساءاتها التي كانت تجمع العائلة حول منقلة الفحم وصوبة علاء الدين،

وكالعادة لا يخلو سطح الصوبة من قوري الشاي والكتلي، واحيانا نشوي الكستناء على سطح الصوبة، نتفرج التلفزيون ....

والحكايات الجميلة التي يحكيها لنا الجد ونحن نلتف حوله بصمت وترقب وهو يقص علينا، وبعض الأصدقاء وحكاياتهم عن قصص الجدات وسهراتهم الطويلة،

وكان صوت أبو (عربانة الشلغم) مثل السحر في آذاننا وهو يصيح "مايع شلغم مايع"، مثل سيمفونية رائعة، فنتوسل لشراء الشلغم والتلذذ بأكله كلما مر بالقرب من دارنا.
كانت العطلة المدرسية فسحة لنا كي نستمتع بالإجازة الصيفية في أجواء المرح واللعب، ففي طفولتنا كان للصيف طعم مختلف وألوان لا تفارق ذاكرتنا. نشعر بلذة خاصة حين تلسعنا شعاع الشمس الخاطف لنهارٌ طويل من اللعب، وضحكاتٍ تتردّد في الأزقة والساحاتِ.

تذكرت أيضًا كيف كنا نذهب إلى شاطئ دجلة بمياهه الرقراقة في أيام الصيف الحارة، نشم رائحة ماء دجلة ورمل شاطئه في الاعظمية قرب المقبرة الملكية، مع الأصدقاء ننزل يوميا الى شاطئ دجلة نقضي ساعات جميلة مستمتعين بالسباحة في مياهه الباردة، وكيف كنا نجلس ونلعب على شواطئه، وهناك كنا نشاهد المتصارعين في العابهم وحركاتهم الرياضية ثم في تصارعهم على ايقاعات وغناء بغدادي شجي أو الذين يمارسون لعبة الطائرة، وهناك من يعلم الأولاد السباحة من خلال شد الكرب، وفي شبابنا كنا نقضي وقتلا ممتعا بالجراديغ المنتشرة على الشط ومجالس السمر والسهارى تصدح بالغناء والاستمتاع لأبوذيات ومقامات مغني الشط على ضفتي هذا النهر حتى ساعات الفجر الاولى على هدير موجه، فالجراديغ آنذاك كانت معشوقتي، تذكرت الأصوات الوحيدة التي تصل آذان سكان الجراديخ الذين يعيشون فيها في الصيف هي تغريد الطيور المهاجرة وحفيف النخيل المتمايل مع الريح ورقرقة مياه دجلة وهي تداعب أطراف شواطئها، ذكريات التحدث عنها تجعلني أغوص في زمن الشباب الذي كان ليالي الصيف في سكونها الجميل، والقمر يعكس ضياء دجلة الخالد.

وتبقى في ذاكرتي الطفولية والشبابية النوم فوق الأسطح في الصيف، ما بعد الغروب تقوم العائلة برش السطح و مدّ البسط وأفرشة النوم إما على الأرض او على أسرّة النوم..

وقد يُحاط بعضها بالكُلّة، ومي التنگة والرگي على التيغة لكي تكسب البرودة وعند حلول الظلام ترانا نرتقي سطح الدار للاستمتاع بنسمات ليالي بغداد العليلة، التي لا تخلو من السوالف وبنومة هانئة تحت لألأة النجوم. ما احلى تلك الاوقات،التي نتسابق بيننا مع الاخوة للوصول الى الفراش والقفز فوقه ولعبة "الجقلمبة"، خاصة في آخر الليل حين يبرد الهواء ويترطب الجو بندى الفجر، كما لا ننسى تحذير الأهل بعدم عد النجوم لنتجنب ظهور الفالول على ايدينا وارجلنا ألا أننا كن نرصدها ونعدها ونستمع الى أحلى القصص التي تحكى عن النجوم.

مع قدوم شهر رمضان كانت تلك اللحظات السعيدة كعادة رمضانية ونحن كأطفال نتجول في الازقة ونطرق الابواب للحصول على الحلوى من ساكنيها، نردد أنشودة "ما جينه يا ما جينه، حلي الكيس وأعطينا، تعطونا لو نعطيكم، لبيت مكة نوديكم، ربي العالي يخليكم، تعطونا كل ما جينا، الله يخلي راعي البيت، آمين، بجاه الله وإسماعيل، آمين".

وفي رمضان بالإضافة الى الماجينا، تحلو ليالي السهر والسمر، وقد اعتدنا ونحن بعمر الصبا على سماع حكايات الحكواتي التقليدي "القصخون"، حيث اعتاد الجلوس على المقاهي، ليتحلَّق حوله الناس للاستماع إلى قصصه مع تناول الشاي، وهو يروي أشهر الحكايات مثل عنتر بن شداد وابي زيد الهلالي،

كما كنا نشارك بلعبة المحيبس "البات" حيث يتنافس فيها فريقان، يقوم أحد أفراد الفريق الأول بإخفاء الخاتم أو المحبس في كفه، وعلى الفريق الآخر اكتشاف هذا الشخص، مع ترديد الأهازيج مثل المربعات والجالغي البغدادي لتشجيع اللاعبين.

ويحصل الفريق الفائز على أشهى الحلويات العراقية مثل زنود الست والبقلاوة التي يشتريها الفريق الخاسر.

اللبس الجديد والعيدية من أجمل المظاهر التي كنا نفرح بها كأطفال حيث تمتلىء جيوبنا بكمية من النقود المعدنية لتبدأ رحلة العيد الى الاماكن الترفيهية في الاعظمية المليئة بالمبادرات والتنوع منها النادي الملكي ونادي الاعظمية وفي الأماكن الشعبية حيث تنصب المراجيح ودولاب الهوى الزحليكة والفرارات، كما لا تخلو رحلتنا من مشاهدة الكثير من الأفلام في سينما الاعظمية.

واكل العمبة والصمون بعد نهاية كل فلم، وبنهاية العيد تخلص فلوس العيدية والملابس قد توسخت.
ذكريات الطفولة زمن البراءة والجمال تمثل كنزًا نفسيًا عميقًا يشكل جوهر هويتنا الإنسانية، وتعلمنا القيم الأساسية مثل الصداقة والمحبة والتعاطف، ذكريات المراهقة وكيفية تفكيرنا في ذلك الوقت مسلية وجميلة ورائعة تحتاج الى مقالة خاصة.
تلك الرحلة الصغيرة إلى ذكريات الطفولة، أعادت لي الكثير من الفرح والحنين، وددت مشاركتها معكم، وكلنا امل ان يعاد إحياء هذا التراث اللامادي والاهتمام بالألعاب الشعبيّة وتقديمها للأطفال ليمارسوها ويحافظوا عليها في ظلّ غزو الألعاب الإلكترونيّة والألواح الذكيّة كون الألعاب الشعبيّة من أقدم النشاطات الإنسانيّة وتعرض نماذج الحياة الاجتماعيّة التي حملها الأجداد والآباء للأحفاد ومرآة تعكس عاداتنا وتقاليدنا وموروثنا الثقافيّ والروحيّ والفكريّ، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1023 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع