سهام من جعبة مهاجر
كانت لنا بلاد من أجمل البلدان التي خلقها الله وحباها بخيرات وفيرة، وربما يراني البعض مغالياً في هذا الوصف لكن هذا الواقع الذي لمسته بعد تنقلي في أرض الله الواسعة وما تتمتع به كل بقعة زرتها من خصائص جمالية لكنها ليست كما في بلادي وكما وصفها بدر شاكر السياب:
الشمس أجمل في بلادي من سواها.. والظلام
حتى الظلام هناك أجمل.. فهو يحتضن العراق
في الحقيقة صدمت بواقع غريب عني في كثير من اوجه الحياة التي لم تخطر على بالي لدرجة إني بت اشعر بغربتي بين اهلي وخلاني.
استغرق بقائي في بغداد لشهر ونيف بين شهري شباط وآذار وهي الفترة التي يكون فيها الشتاء على أشده في كندا واعتداله في بغداد وكان خيارنا التمتع بدفيء الشتاء العراقي بعد تجربتنا مع شتاءات مختلفة في لبنان والقاهرة وتركيا بمختلف مدنها الساحلية التي تمتاز بشتاء معتدل نوعاً ما وكان اختيارنا بغداد التي لم نزرها منذ عام ٢٠١١
صادفتني بعض المناظر والمواقف التي لم تكن بالحسبان. اول صدمتي كانت عند وصولي مطار بغداد لتأشير جوازي بالدخول في صالة الوصول الذي علقت عليه لافتة مكتوب عليها "العراقيين" و"غير العراقيين" واستغربت للمستوى الضحل الذي وصلت اليه اللغة العربية لتذبح بهذه الطريقة غير اللائقة بتاريخ العراق وريادته في مجمل العلوم ومنها اللغة العربية التي تهان بهذه الطريقة دون رقيب او حسيب. لم تسبق أداة نصب ولا حرف جر لجمع المذكر السالم الذي وقع كمبتدأ وجب رفعه ولا يجوز جمعه بالياء والنون بدون وقوعه بعد أدوات النصب او حروف الجر. واترك المجال لأساتذة اللغة العربية لإبداء رأيهم في هذا المضمار.
من هنا بدا لي مقدار التدهور الثقافي في عموم العراق والدلائل على ذلك كثيرة عايشتها لاحقاً.
ملاحظتي الثانية وانا لازلت في المطار بانتظار وصول الحقائب فمن المتعارف عليه في مطارات العالم توفر العربات لنقل الحقائب مجاناً او مقابل بعض الرسوم لكن مع الأسف لا نجد ذلك في مطار بغداد اذ يحتكر الحمالون العربات ليحصلوا على مبالغ زهيدة مقابل هذه الخدمة. انا لا امانع في طريقة حصولهم على عيشهم من هذا السبيل لكني كمسافر انّى لي ان اعرف تلك السبل وكنت اسأل عن العربات ولا من مجيب لان الحمالين ليسوا عراقيين ومن جنسيات اسيوية وهذا لم نكن نألفه سابقاً في العراق ودلني بعضهم على موقع العربات وليتني لم اخرج لجلب العربة فكانت نقطة الخروج الى خارج نقاط التفتيش ولا ادري اين الرقابة على مثل هذا المنفذ للتأكد من إجراءات المغادرة وعندما حاولت الدخول من نفس الباب الذي خرجت منه جرى منعي واعتباري مسافراً جديدا وجب علي المرور بإجراءات المغادرة وانا لم انه بعد إجراءات الوصول.
من هنا أدركت حجم الفساد الإداري على مختلف الأصعدة بدءاً من العمال البنغاليين في مطار بغداد الدولي لأعلى قمة في الهرم الوظيفي وهذا ما لمسته بعد ذلك.
الملاحظات كثيرة لكني آثرت الاكتفاء بهاتين الملاحظتين اللتين تعكسان ما آل اليه الوضع في العراق بصورة عامة.
سابقاً، كانت هناك ست جامعات في العراق هي جامعة بغداد والموصل والبصرة والمستنصرية والسليمانية واربيل إضافة لجامعة الحكمة الاهلية بإدارة الآباء اليسوعيين الامريكان. والحديث عن الجامعات ذو شجون لكن ما يهمنا عندما كان عدد الجامعات خمس او ست جامعات كان المستوى العلمي في أوجه اذ دخلت جامعة بغداد موسوعة غينيز للأرقام القياسية كأعرق جامعة عراقية كما دخلت جامعة بغداد عام 2018 لأول مرة في تاريخها تصنيف صحيفة التايمز للتعليم العالي والبحث العلمي بمرتبة 801–1000 من بين 1250 جامعة بالعالم، بعد أن سجل باحثوها أكثر من سبعة آلاف بحث عالمي في مستوعبات سكوبس. وتعد شركة سكوبس للنشر العلمي أفضل شركة متخصصة في نشر البحوث والدراسات العلمية وهدفها ان تكون الخيار الأمثل للباحثين لمساعدتهم في نشر كافة الأوراق العلمية للالتحاق بالدرجات العلمية والترقية وذلك لخدمة مجتمعنا العربي وتعزيز الابداع الفكري والثقافي.
اليوم هناك تقريباً ٨٥ جامعة منها ٣٥ جامعة حكومية وفي بغداد وحدها هناك عشر جامعات والبقية تتوزع خارج بغداد في المحافظات وإقليم كردستان. (المصدر: ويكيبيديا). وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على تعطش الشعب العراقي لنهل العلوم والاخذ بناصية البلد الى مصاف الدول الراقية وتقديم الأفضل للشعب العراقي. لكن الواقع غير ذلك تماماً فقد هبط مستوى الجامعات العراقية لدرجة عدم الاعتراف بشهادات بعضها العريقة عالمياً وهبط مستوى الطلاب والعلوم لدرجة لم يألفها المجتمع العراقي على مر عصوره السابقة اذ كانت بغداد عاصمة العالم ومنارة العلم والعلماء لتكون اول المستقبلين في المطار كلمة "العراقيين" بدلاً من "العراقيون" وكل ذلك بسبب انتشار الفساد الذي ضرب اطنابه في كل مرافق الحياة واولها التعليم الذي اصبح سلعة رائجة لكسب الأموال كهدف رئيسي واساسي دون الالتفات للجانب العلمي والريادي والمضي قدماً لتجهيل الشعب وهذه نتيجة حتمية لسيطرة أصحاب العقول الضيقة على مرفق التعليم وعلى بقية مرافق الدولة العراقية غير ابهين بالهاوية التي يقودون البلد اليها.
لا نزال في المطار ولا اريد ان أكون سلبياً أكثر لاصف حالة المرافق والحمام المعشش بين أسقف صالات المطار المتعرجة والطائر بين المسافرين ليستقبلهم بالذرق والنوح المعروف به الحمام العراقي (الكوكوختي) ربما لاعتباره جزءاً من التراث وجب الاحتفاظ به للترحيب بالمسافرين وتذكر اغنية ناظم الغزالي للشاعر ابي فراس الحمداني لمن بعد عن العراق طويلاً:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمــامَــةٌ ... أَيا جارَةً هَل تَشعُرينَ بِحالي
معاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى ... وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ ببـالِ
لكن الحق يقال في موضوع تنظيم سيارات الأجرة المصطفة على باب الخروج والاجرة المقطوعة لجانب الكرخ وأخرى لجانب الرصافة بدون الفصال على الاجرة
وبدون الحاجة لعداد كما في بقية بلدان العالم ليأخذك السائق في متاهات كي يسجل العداد مبلغاً وقدره فهذا منعدم في مطار بغداد مما يبعث الشعور بالارتياح ويجعلنا نقول الحمد لله لا زال العراق بخير.
اخذتنا سيارة الأجرة لمقر اقامتنا في الجادرية من خلال المرور بشارع المطار الذي لا بد من الإشادة بالقائمين على الاهتمام به فهو يعطي انطباعاً مدهشاً للقادمين الى بغداد من حيث الاهتمام بالمساحات الخضراء على جانبي الطريق وسقايتها المستمرة مع غرسها بفسائل النخيل ولكن مع الأسف أصبحت زراعة النخيل في العراق غير ناجحة لان اغلب مغروسات النخيل تصاب بعاهة لا اعرف كنهها تجعل قلب الفسيلة يتدلى من الأعلى باتجاه الأرض لتذوي وتموت بعدها النخلة لتصبح كما وصفها العلي القدير (أعجازُ نَخلٍ خاويةٍ). وأصحاب الاختصاص يعزون هذه الظاهرة الى إصابة النخلة بالفطريات ولا أدري مدى صحة هذا الافتراض وعدم مكافحة الفطريات وتركها تفتك بالنخيل واغلب ظني هذا بسبب مصيبة التلوث الاشعاعي الذي ضرب العراق ارضاً وسماءاً وانهاراً في العهود السابقة ويحتاج لملايين السنين كي يبرأ منه حسب رأي العلماء وأصحاب الاختصاص في هذا المضمار.
لا بد من وقفة بشأن النخيل والتمور في العراق الذي كان يعتبر أعظم غابة نخيل في العالم فقد تم غرس بساتين شاسعة في كالفورنيا بأجود أصناف النخيل العراقي الذي جيء به من البصرة خصوصاً بحيث أصبح انتاج كالفورنيا منافساً لإنتاج البصرة والعراق عموماً كذلك الامارات العربية والمملكة العربية السعودية اللتان امسى انتاجهما من التمور طاغياً على الأسواق العراقية ومزاحماً للمنتوج العراقي وهذا مأخذ على وزارتي الزراعة والتجارة لعدم الاهتمام بعمتنا النخلة العراقية وجعل التمور الأجنبية تغزو الأسواق العراقية بدون رقيب او حسيب علماً بأن اصل النخيل الاماراتي كله بالمجمل حُمّل من العراق منذ عام ١٩٧٧ كذلك بعض الأصناف السعودية واحتفاظها بالتسمية العراقية للدلالة على اصلها.
هناك ملاحظة مهمة ليست بخافية على متذوقي التمور الا وهي اختلاف المذاق بين التمور العراقية المنتجة في العراق والتمور العراقية انتاج كالفورنيا او الامارات او السعودية وهذا مرجعه حسب رؤيتي الى اختلاف طبيعة الأرض المعطاءة ومياه دجلة والفرات اللذان لا مثيل لهما في كل مياه العالم وكما قال الشاعر عبد المحسن الكاظمي:
عدا رحب الديار النائيات عدا نجع الغيوث الواكفات
ويحسبني بماء النيل اروي وبي ظمأ لدجلة والفرات
العراقيون يشتكون مر الشكوى من مشكلة الاختناقات المرورية والازدحام غير الطبيعي.. على الأقل في نظرهم وانا ارى ان هذه مسألة طبيعية في كل بلدان العالم اثناء ساعات الذروة لكن العراقيين حديثو العهد على الانفجار السكاني الذي طال المدن الكبيرة وبالأخص العاصمة بغداد التي يبلغ تعداد نفوسها ٩ ملايين نسمة حسب آخر الإحصائيات مما انعكس على طبيعة المجتمع البغدادي من نواحي عديدة ومنها مشكلة الزحام الذي تحاول الحكومة جاهدة لحلها ومنها بناء المجسرات والطرق العلوية لامتصاص الازدحام المروري. لا يفوتنا ان نذكر بعض السلبيات ما دمنا في الشارع وهي ظاهرة التفاخر والتباهي بكسر القوانين المرورية مثل ضرب الإشارة الضوئية مع وجود شرطي المرور الذي يتغافل عن ذلك وهذه جريمة شديدة العقوبة في باقي دول العالم ومنها العراق سابقاً لكنها مع الأسف أصبحت مقياساً للتفاخر بين الناس للتسيد فوق القانون. كذلك طريقة السياقة العنيفة التي تفتقر لكل مبادئ الاخلاق كأن السائقين في حلبة مصارعة وليسوا في طريق يفترض فيه السلامة قبل كل شيء حيث كانت السياقة على أيامنا فن وذوق واخلاق وهذه المسلمات أصبحت معدومة بين سائقي الوقت الحاضر فاذا كنت خلف المقود وزاحمك أحدهم وافسحت له الطريق ليجتاز بسيارته، ينظر اليك شزراً متحدياً وقفتك له بدلاً من شكرك حتى ولو بإيماءة وايضاً هذا السلوك لم يكن مألوفا في عهدنا.
ناهيك عن تداخل السابلة مع السيارات لانعدام الرصيف ومفهومه لدى المشاة وسائقي الدراجات النارية التي اعتاد سائقوها على السير بعكس اتجاه السيارات لان القانون لا يحاسبهم بل يحاسب سائق السيارة في حال وقوع ما يخشى عقباه للانجرار وراء متاهات الفصل العشائري لتتبعها الكوامة العشائرية تليها الدكة العشائرية في حال عدم التوصل لحلول ترضي الأطراف المتنازعة وكل ذلك استخفافاً بالقوانين وهيبتها في بلد تنعدم فيه مبادئ الاحترام بكل اشكاله. ان انعدام ثقافة الرصيف بين جميع فئات الشعب جعل من الرصيف مرتعاً للباعة المتجولين لفرش البسطات وممارسة أعمالهم والتجاوزات العشوائية من قبل المستثمرين ومما شاهدته في شارع التانكي في مدينة المنصور السكنية كمثال عبارة عن تجاوزات لأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية على جانبي الشارع الذي يتوسط الدور السكنية بلا رقابة او تنظيم ليمتد الصخب والمهرجانات للمتجمهرين بلا هدف في شهر رمضان خصوصاً من ساعات الإفطار لغاية السحور وساعات الفجر واستحالة التنقل بواسطة السيارة او مشياً على الاقدام لاختلاط الحابل بالنابل بعيدين كل البعد عن مفهوم رمضان وروحانياته.
الملفت للنظر في بغداد وكما وصفها أحد الظرفاء عبارة عن مطعم كبير جداً لكثرة المطاعم وتنوعها بين الفاخرة جداً والفاخرة والمتوسطة والشعبية. لقد شاءت الصدف ان البي دعوات الأصدقاء والأحبة في بعض هذه المطاعم على اختلاف تصنيفاتها وملاحظة اكتظاظها على الدوام واستحالة الدخول الى أحد المطاعم بدون حجز مسبق كما كان على أيامنا سابقاً مع الفارق بين سابقاً وحالياً. لقد لاحظت ملاحظة غريبة عند تنقلي بين افخم مطعم واقل مطعم فلافل شعبي بان مذاق الاكل والوجبات لا يختلف ابداً كأن هناك (شيف) واحد يدور على هذه المطاعم ويزودها ب(منيو) موحد للأطعمة لتقديمها للزبائن وخصوصاً في رمضان الذي تقدم فيه الموائد المفتوحة لأصناف الطعام المتنوعة والمتشابهة في بقية المطاعم بأسعار محددة والزبون يأخذ اضعاف مضاعفة عن حاجته اما بسبب الصيام او مباراة التنافس على اظهار مهارات حسابات الأرباح والخسائر في هكذا مجالات ويترك الباقي للهدر غير المسؤول بلا وازع او تفكير بأن هناك الكثيرون لا يجدون قوت يومهم وهذا نابع من الثقافة المجتمعية التي استنتجت من مفاهيم الكرم الذي يأخذ في بعض اشكاله الاسراف والتبذير اللذان نهانا الله عنهما في محكم كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
لقد خرجت بالنتائج التالية من خلال ملاحظة ظاهرة المطاعم غير الطبيعي كثرتها علماً باني عابر سبيل ولست متخصصاً بالعلوم الاجتماعية او النفسية:
1. أصبح اعتماد ربات البيوت على المطاعم واعداد الطعام لأفراد العائلة وتحلقهم حول مائدة الطعام شيء من الماضي وعليهن مسايرة التغيرات التي طرأت على المجتمع من تسهيل الأعباء الملقاة على عواتقهن من هذه الناحية.
2. قتل روح الابداع في ابتكارات اعداد الأطعمة بين ربات البيوت والاعتماد على ما تقدمه المطاعم من وجبات متشابهة جاهزة لا تعدو أكثر من ملئ البطون دون الاستذواق والتلذذ لمعرفة الغث من السمين فيما يقدم من مأكولات. وحتى في الدعوات الخاصة فان ربة البيت تعتمد على مطاعم الوجبات الجاهزة في تقديم الأصناف الكثيرة التي تربو عن خمسة عشر صنف على طاولة لا يزيد عدد المدعوين فيها عن عشرة في أفضل الأحوال.
3. هذه الاتكالية دفعت القائمين على عملية تسوق احتياجات العائلة الغذائية من ارباب وربات البيوت غير مهتمين بالعناية الصحية لأفراد العائلة من اختيار نوعية المواد الغذائية كما كان يحصل في الماضي علماً بأن المطاعم عموماً ليس ذلك من أولوياتها التي تتقدم على مصالحها وارباحها مهما بلغ شأنها وارتفع نجمها فتستهلك اردئ الأنواع وارخصها والعراق معروف عنه عالمياً بكونه سوقاً مفتوحاً لاستهلاك كل ما هو غير صالح للاستهلاك (نفايات العالم) دون الالتفات للإنسان وصحته وأصبحت المنتجات الرخيصة والرديئة تنافس المنتوجات المحلية الجيدة من ناحية الأسعار ونواحي أخرى ونتيجة لذلك ضربت الزراعة والصناعة واصبح الاعتماد على المستورد بدون عناء من أولويات الباحثين عن الأرباح السريعة على حساب صحة المواطن.
4. بعيداً عن السياسة فان الاسراف في بذخ المطاعم بطريقة ملفتة للنظر وغير موجودة في بقية بلدان العالم بالشكل الذي هو عليه في العراق ما هو الا عملية تبييض الأموال التي يصعب تحويلها للخارج لاستثمارها وادخارها بأشكال الاستثمار الأخرى.
5. وهذا يجر ايضاً لظاهرة المباني السكنية العمودية التي باتت هي الأخرى تزداد بشكل مضطرد واتجاه الناس للسكن بشقق بدلاً من البيوت واستغلال الحدائق في البيوت القديمة للبناء العمودي بمساحات ضيقة جداً وغير مدروسة لصلاحيتها للسكن بعد هدم البيوت والاستفادة من مساحة الارض والقضاء على المسطحات الخضراء لهذا الغرض بطريقة عشوائية.
6. المطاعم بكل الأحوال باهظة مقارنة بمستلزمات التغذية البيتية التي تبقى حكمة ربة البيت في إدارة الشؤون المنزلية هي الفيصل من هذه المقارنة علماً بان ظاهرة الاكتظاظ ملفتة للنظر حيث علينا المقارنة بمقدار دخل الفرد ليتمكن من مجابهة ظاهرة المطاعم مما يفرض على الافراد بتنوع أعمالهم ووظائفهم التكسب بطرق غير مشروعة لمواجهة تكاليف الحياة المرتفعة نسبياً مما يدفعهم للارتشاء الذي أصبح ديدن الموظفين بصورة عامة بدون استثناء وهذا ما لاحظته من خلال مراجعاتي في الدوائر الحكومية والعمال والباعة والأشخاص مع بعضهم. اختصاراً أمسى الجميع يسلك طرق ملتوية تحت مسميات مختلفة لتحقيق تلك الأغراض مثل عمولة وهدية واتعاب وارباح حلال ما عدا الرشوة التي تندرج تحتها بقية المسميات. فلا غرابة ان نسمع بالسرقات الحكومية وهدر المال العام من قمة الهرم إذا كانت القاعدة فاسدة والناس على دين ملوكهم.
7. ظاهرة كثرة المطاعم وتشييد المباني السكنية الاستثمارية عشوائياً وبدون تخطيط مدني جعلت بغداد تحتنق ولا متنفس فيها في حدائق البيوت او الحدائق العامة لتصبح المطاعم هي المتنفس الوحيد لأهالي بغداد.
قديماً يحكى ان حواراً دار بين الشاعر الشعبي الكبير الملا عبود الكرخي وبين رئيس وزراء العراق في فترة الحكم الملكي الباشا نوري السعيد حين كان الملا عبود يتمشى في احد اسواق بغداد فمر على سوق بيع السمك وتوافق ان مر نوري السعيد بالقرب من الملا عبود وكانت بينهما معرفة سابقة فأراد الملا عبود ان يبعث برسالة عميقة المعنى لنوري السعيد، وحيث انه قد جرت العادة على شم رأس السمكة لمعرفة فيما اذا اصابها عفن او تلف، فأن الملا عبود اخذ احدى الاسماك ليشمها وبدلا من ان يقرب الرأس من انفه فأنه قرب ذيلها واخذ يشمه فرمقه نوري السعيد بنظرة ماكرة وقال "ملا عبود ليش السمچة تنشم من ذيلهه لو من راسهه" فرد عليه الملا عبود: باشا الراس منتهين منه خايس،، بس دا اشوف بلكي الخياس ما واصل للذيل.
البشر صنفان الأول يأكل ليعيش والثاني يعيش ليأكل والعراقيون من الصنف الثاني لانعدام ممارسة مباهج الحياة الأخرى لديهم مثل الرياضة والسفر والسياحة واللقاءات العائلية والصداقات وتبادل الأفكار والقيام بالأعمال الخيرية لخدمة المجتمع وغيرها لذا نرى توجههم نحو الطعام وبشراهة بهجتهم المفضلة.
علا، صغرى ابنائي رافقتنا بزيارتنا للعراق مع زوجها وابنهما. وعلا كندية المولد والنشأة لكنها عراقية الروح والسلوك والتفكير لدرجة انهم كانوا يدعونها بالجدة (بيبي) لتمسكها بالقيم التي الفناها وربينا أبنائنا عليها، وهذه زيارتها الثانية للعراق اذ لم تدم زيارتها الأولى سوى أسبوع واحد لتشعر بالفرق الشاسع بين تفكيرها وبين تفكير اترابها لتغادر بعدها وتؤكد على عدم العودة لكنها اقتنعت هذه المرة من مرافقتنا وبقيت مدة أطول لتخرج بنتيجة مفادها ان العراقيين ليس في تفكيرهم سوى الاكل والافراط به لدرجة خسارتهم لصحتهم. كل البشر يأكلون حيث ان الطعام من مستلزمات الحياة مثله مثل الماء والهواء لكن في العراق الموضوع يأخذ بعداً مختلفاً لا علاقة له بالمتعة اثناء التحلق حول مائدة الطعام لتبادل الآراء والنقاشات البناءة والتخطيطات المستقبلية إضافة لتقديم أصناف معدودة على المائدة الغرض منها الاستمتاع بالجلسة. العراقيون يفتقدون لهذه المآدب وتنصب جهودهم على تعدد الأصناف والاكثار من الالحاح على تناول جميع الأصناف لدرجة التخمة والقول لا يزال لعلا التي لاحظت ايضاً بان الطعام يكون المحور الرئيسي في الافراح والاتراح والمناسبات الدينية والرياضية والصداقات والعداوات وكل شاردة وواردة والهدر الهائل للطعام دون الالتفات لحاجة كثير من الناس لبعض الطعام لسد رمقهم حيث ان هذه الظاهرة لامثيل لها في كندا والمتبقي من الطعام عادة يأخذه من يشاء لبيته بعلب مخصصة لهذا الغرض او يتم التبرع به من قبل المطعم الى بنوك الطعام لإطعام المحتاجين.
بعيداً عن ذكر السلبيات التي لا يقصد منها الإساءة والتشويه والواجب بيانها لتلافيها إذا كانت غائبة عن اعين الآخرين او مغيبة لدرجة ان تصبح سلوكاً متعارفاً عليه، هناك إيجابيات كثيرة لا زالت سائدة بين افراد الشعب والتي وجدتها بين سائقي سيارات الأجرة الذين كنت اشعر بالارتياح عند التحدث معهم لقتل الوقت اثناء ساعات الازدحام بعيداً عن التكلف والمجاملات المصطنعة التي تفرض نفسها في بعض المواقف. لقد لمست صدق حديثهم وكرمهم اللامتناهي بقولهم عند دفع الأجرة "عمي خليها على حسابي" والإصرار على ذلك في بعض الحالات حتى ان بعض السائقين من الجنسيات العربية يتبعون نفس الأسلوب في الحديث غير مدركين كنهه النابع من القلب لدى العراقيين ويجعلك تشعر بالارتياح النفسي لدرجة ان بعض السائقين دعوني للسكن في بيوتهم المفتوحة للضيوف على بساطتها عندما يستشعرون عراقيتي ووجهتي السكنية في الفندق ويستغربون ويسترسلون في الاستفسار عن سبب مبيتي في الفندق وليس عند الاهل والاقارب وهم على اتم الاستعداد لاستقبالي في بيوتهم بحفاوة وتكريم وهذا سلوك لا تجد له مثيلاً لا في البلدان الأجنبية ولا حتى العربية وينفرد فيه العراقيون بصورة خاصة. قديماً كان يقال ان الفلوجة ليس فيها فندق واحد ويعتبرونه إهانة لأهل الفلوجة لان الغريب الذي يصل الفلوجة حتى في منتصف الليل كان يجد مضائف الشيوخ مفتوحة لاستقباله وهذا تقليد كان سائداً في عصرنا ولا أدرى ما هو الوضع عليه اليوم واكاد اجزم بان هوس الاستثمار وصل حتى الى الفلوجة لبناء الفنادق لتختفي ظاهرة اكرام الضيف.
شاءت الظروف ان اذهب لإداء مناسك العمرة من بغداد وهذه اول زيارة لي للأراضي المقدسة وقديماً كنا نسمع عن جفوة السعوديين مع الحجاج وقساوتهم لكنني والحق يقال لم ارَ من ذلك شيئاً البتة بل على العكس كانوا في منتهى اللطف وتقديم الخدمات سواءاً في مكة المكرمة او المدينة المنورة. بعد انتهاء أداء المناسك في مكة والمدينة قصدنا مدينة جدة للراحة والاستجمام لنعود منها الى بغداد. وفي جدة تسنى لنا الاسترخاء لمدة يومين قبل العودة شاهدنا خلالها أسواقها وبعضاً من معالمها. طبعاً مدة يومان غير كافية لإطلاق الحكم بصورة مطلقة وتملكنا العجب لما كنا نسمعه سابقاً وما رأيناه وعما كان يشاع من اضطهادهم للمرأة بل على العكس تماماً فأن اسواقهم كانت تدار من قبل النساء وخدمات المطارات وسكك الحديد اغلبها بإدارة العنصر النسائي ويا لها من دقة في الإدارة والامن الداخلي. اخذتني حالة الاسترخاء للمقارنة بين ما وصل اليه السعوديون وما وصل له العراقيون وتوصلت الى نتيجة بأن العراق كان في سابق عهده بلداً راقياً ومتنوراً ويضاهي رقيه حتى بعض البلدان الأوروبية في الوقت الذي كانت فيه شعوب المنطقة تعيش في ظلام اقل من الدامس بقليل.
يعتبر جيل الخمسينات الذي انتمي اليه كذلك جيل الستينات وحتى فترة السبعينات جيل العصر الذهبي الذي مر على العراق ونحن عاصرنا رقي العراق الانفجاري حيث كان العالم خارجاً حديثاً من اتون الحرب العالمية الثانية والعراق كان في اوج تقدمه علمياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً كذلك عاصرنا مراحل انحداره الذي اعتبره بدء منذ عام ١٩٥٨ والى عصرنا الحالي ومروره بالانقلابات والحروب والحصار وانعكاسات تلك الازمات على العراقيين ففي الوقت الذي كان يتقدم فيه السعوديون وباقي سكان المنطقة لمسايرة الركب الحضاري في العالم , كان العراق يتراجع القهقري واترك مسألة تحليل تلك المقارنة لأصحاب الاختصاص الاجتماعيين لشرح هذه الظاهرة وهل هي بسبب العنصر البشري ام نتاج قوى وعوامل لا يعرف كنهها وفي الوقت ذاته اذا أجرينا مقارنة بين شعوب مرت بظروف اقسى مما مر عليه الشعب العراقي لرأيناها قد نهضت واخذت دورها الحضاري والطليعي. ربما يختلف معي كثير من الناس على سوق هذه المقارنة لكني بعيداً عن التجاذبات السياسية ادعو الى تحكيم العقل والمنطق فهل يعقل يا ترى ان يثور الشعب على ما وهبه الله من عطايا ونعم ويجري خلف أوهام تقوده الى الانحطاط بكل اشكاله بحجة القضاء على العمالة والتبعية للأجنبي وإنقاذ الفقراء من نير الاقطاع والرأسمالية الى غير ذلك من الشعارات المبهرجة التي دفع ثمنها ولا يزال العراقيون بكافة فئاتهم دون تحقيق أي مكاسب سوى الانغماس في ظلام التخلف ليأخذ الآخرون بناصية التطور والارتقاء ويبقى الشعب العراقي في مؤخرة القوائم بكل اطيافها حسب الإحصاءات والتصنيفات العالمية بعد ان كان الأول في كافة الميادين وسيداً يشار له بالبنان. وصدق الله العظيم حين قال في محكم كتابه العزيز: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
ليس الغرض من عرضي هذا تسليط الاضواء على السلبيات بقدر ما هو دعوة لمراجعة الذات والتغلب على ما هو سلبي للنهوض ببلدنا الى مصاف البلدان المتقدمة بعد ان عبث كل من استلم ناصية الحكم بمقدرات شعبنا الابي واخذ المعول ليحطم ما بدأ به بناة العراق الحديث بعد انتهاء الفترة العثمانية المظلمة التي اغرقت البلاد والعباد في غياهب العبودية والقهر والاستعباد لثقتي المطلقة بقدرة الشعب العراقي ونبوغه وقابلياته للقيام بما هو مرجو منه وجدير به من حياة رفيهة منعمة رغيدة بعيداً عن الانجرار وراء الشعارات المغرضة والتجاذبات السياسية التي هدفها كسر معنوية الشعب وتضليله.
هناك حقيقة يجب ان نقر بها ويقر بها جميع من غادر العراق لفترات طويلة مثل حالتي وهي ان التاريخ والجغرافيا توقفا عندنا من ساعة مغادرتنا العراق وهناك تغييرات كثيرة جداً طالت كل شيء تقريباً في جميع ارجاء العالم والعراق ليس استثناء ووجب علينا التأقلم لمواكبة التغييرات ولا أدرى الى أي مدى بالإمكان تقبل كل هذه المستجدات والمتغيرات.
والله من وراء القصد.
علي غالب البصام
680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع