صبيح صادق
عشرون عاما على وفاة يوسف نمر ذياب (1931 ـ 2005)
الناقد الجريء
الكاتب يوسف نمر ذياب (أبو مثنى) صحفي وأديب وناقد، متنوع الاهتمامات، ومشرف تربوي، وصاحب العديد من المؤلفات. شخصية متواضعة وبسيطة، نحيف الجسم، هادي الطبع، لكنه في الوقت نفسه عصبي جدا إذا ما تعرض للإثارة. ما أن يُكمل تدخين سيكارته حتى يتناول سيكارة أخرى.
ولد يوسف نمر ذياب في مدينة هيت عام 1931، وأكمل دراسته الأولية فيها، وفي عام 1949 انتقل الى مدينة الرمادي لإكمال دراسته الإعدادية في ثانوية الرمادي، وأكملها عام 1951. في تلك المدارس تعرّف على شخصيات كان لها شأن في تاريخ الثقافة العراقية بعد ذلك، منهم الدكتور مدني صالح وغازي الكيلاني وطراد الكبيسي، كما كان من جملة أساتذته الشاعر بدر شاكر السياب مُدرس اللغة الإنكليزية، والشاعر عبد الوهاب البياتي مدرس اللغة العربية.
بعد إكماله الدراسة الثانوية، انتقل إلى بغداد كي يواصل دراسته في كلية الآداب والعلوم، قسم اللغة العربية، وتخرج عام 1956.
يوسف صحفيا
بدأ اهتمام يوسف نمر بالصحافة ولا يزال طالبا. يتذكر بداياته الأولى في العمل الصحفي فيقول:
"في يوم من عام 1953، اذ كنت طالبا في كلية الآداب والعلوم، دخلت غرفة عميد الكلية الدكتور عبد العزيز الدوري [شيخ المؤرخين المعروف، 1911ـ2010]، أعرضُ عليه الموافقة على أن تصدر مجلة عن طلاب الكلية، على أن تكون هذه المجلة (حرة) تلتقي على صفحاتها أقلام الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة، وتفتح باب الحوار (العلمي الموضوعي) بين الآراء المتباينة، وكنت والصديق المرحوم عبد الوهاب عبود الغريري [قيادي في حزب البعث، شارك، عام 1959، في محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم، وقُتل أثناء اطلاق النار على عبد الكريم] قد تبنينا الفكرة، وحصلنا على موافقة عدد من الزملاء ورفضها بعضهم ممن لا يؤمنون (بالليبرالية).
وبعد أن أصغى إليَّ الدكتور الدوري غير ساخر، قال لي أنه معنا ويتمنى لو تحققت الفكرة، لكنه اعترض بأن الكلية جزء من المجتمع، وقد لا يتقبل مجتمعنا المشروع. ثم ان للسلطة قوانين تحول دون تحقيق ما نريد".
يعلق يوسف نمر ذياب على تلك الحادثة فيقول:
"وانني اذ أستعيد هذه الذكرى، أعجب كيف كنا نفكر، وبأي إمكانات ـ في الأقل المالية ـ نستطيع إصدار مجلة في وقت كنا أنا والصديق الغريري نتقاسم الدينار والدينارين".
وبعد تخرجهما، تم تعيين يوسف مدرسا، وكان عليه أن ينتقل من بغداد إلى الديوانية، أما الغريري فلم يتم تعيينه لأسباب سياسية، فعمل في صحيفة (الحرية)، وعندها استطاع الغريري أن يساعد صديقه يوسف نمر ذياب من خلال إفساح المجال له لنشر مواضيعه في الصحيفة.
نشر يوسف نمر ذياب مواضيع عديدة في الصحف والمجلات ومنها الآداب البيروتية والأقلام العراقية، ففي شهر يوليو (حزيران)عام 1952 نشر في مجلة الآداب قصيدة "صراع"، ومطلعها:
لمـّا تلُحْ درب الدجى العاثرة والفجر؟ أين الفجر؟ لن ننظره
ثم ابتعد يوسف، لفترة زمنية، عن الصحافة بسبب الوظيفة ومشاغل الحياة، حتى عام 1967، يتذكر:
"عند نقلي الى بغداد التقيت، عام 1967، بالصديق هادي الهيتي (الدكتور)، وكان يصدر جريدة (الأسبوع) وقضيت معه أشهرا في العمل الصحفي محررا وكاتب تحقيقات صحفية ومقالات. وما زلت أتذكر اغتباطي، وأنا عائد في منتصف الليل من المطبعة، أحمل العدد الذي سيصدر غدا، وفيه مقالة لي. كان اغتباطي بنشر المقالة لا بانتظار المكافأة، كما الآن!!".
في عام 1968، عمل يوسف نمر في مجلة (العمل الشعبي). عن تجربته حول عمله في هذه المجلة وفي مجلات أخرى، يقول:
"أزعم أن المجلة قد حققت نجاحا دعا سكرتير تحرير (ألف باء) آنذاك أن يقول: إن (العمل الشعبي) صارت تزاحم (ألف باء)، ولكوني في سلك التعليم وصحفيا صرت (مدير تحرير) مجلة نقابة المعلمين (الأجيال) سنوات، ومن (أمجادي) الصحفية انني استقطبت على صفحات (الأجيال) أسماء شعراء وادباء معروفين، منهم سامي مهدي، ومدني صالح، وفاضل ثامر، وعبد الأمير معلة، وياسين النصير، وآخرين".
في القسم الثقافي (آفاق)
وبعد عمله في ألف باء انتقل إلى القسم الثقافي، المعروفة باسم "آفاق"، بصحيفة الجمهورية. يتذكر يوسف نمر ذياب أيام عمله، في السبعينيات، بصفحة آفاق، فيكتب:
"مضت أيام، بل سنوات، صحفية في (جريدة الجمهورية) صفحة (آفاق) التي يشرف عليها الزميل محمد كامل عارف، ويحررها معه ثلاثة: سهيل سامي نادر، ويوسف نمر، وصبيح صادق. وأحسب أن مؤرخي الصحافة الأدبية في العراق سيعدون (آفاق) من الصحافة الثقافية التي أرست تقاليد، واسهمت في تقديم المعارض الثقافية والأدبية الرصينة".
نشاطه السياسي
يوسف نمر ذياب عضو في حزب البعث، وهو صديق للكثير من الشخصيات السياسية البارزة آنذاك، ولكنه لا يحب التكلم في السياسة، على الأقل عندما عمل في القسم الثقافي، صفحة آفاق، بجريدة الجمهورية. وفي أحد الأيام، خرج عن هذه القاعدة؛ وصل مسرورا ومفتخرا بتاريخه النضالي، وبيده صحيفة ليقول: "انظروا، صورتي في الصحيفة مع عضو مجلس قيادة الثورة، غانم عبد الجليل" [القيادي في حزب البعث، عضو مجلس قيادة الثورة، وعضو القيادة القطرية في العراق آنذاك. تم إعدامه عام 1979 في القضية المعروفة باسم جماعة قاعة الخلد]: "ها هي صورتنا عندما كنا نقود المظاهرات ضد الحكومة". وبالفعل فتح الصحيفة لتظهر صورته وهو يتقدم المظاهرة والى جانبه غانم عبد الجليل، عندما كان حزب البعث من أحزاب المعارضة.
ويؤكد الكثير من أصدقاء يوسف نمر ذياب أنه كان سياسيا مرنا، ومنفتحا، ويذهب الأستاذ إبراهيم أحمد في موضوعه "ذكريات نصف قرن في القلب" حول الأديب حسب الشيخ جعفر، أنه كان يجتمع مع حسب الشيخ جعفر ويوسف نمر ذياب باستمرار، وأضاف: "كلانا يعرف أن يوسف نمر ذياب بعثي، ولكنه لم يكن متعصبا للبعث بل كان مرنا منفتحا على من في الأحزاب، أو الاتجاهات السياسية الأخرى".
بعض الآراء حوله
الأستاذ حسين الجاف وصف يوسف نمر ذياب بقوله:
"ناقد ولغوي وشاعر.. أول ولوجه في مضمار الأدب كان من خلال ديوانه (أباطيل).. لكن النقد الجاد والصارم أخذه من خيمة الشعر.. ليصبح أحد نقاد الفترتين السبعينية والثمانينية المعروفين.. رجل لا يجامل على حساب الحق .. ولا يحابي من اجل منفعة. . . أصدر (10) كتب اهمها ديوان (أباطيل) الذي اصدره عام 1955 وكتاب (مسائل ادبيه) 1969 و(في دائرة النقد اللغوي) عام 1988 وكتاب (حروف الاضافة في الاساليب العربية) عام 1982 و(قراءات في كتب لم تصدر بعد) عام 1981 عدا زوايا في العديد من الصحف البغدادية".
وقال عنه الكاتب قحطان محمد صالح الهيتي: "يوسف نمر ذياب الناقد الجريء المشاكس، الأديب المفوه، الجاد الساخر حتى وهو في مرض موته".
وصف الدكتور إبراهيم العلاف أسلوبه في الكتابة بأنه: "من نوع السهل الممتنع. عباراته بسيطة لكنها قوية ومعبرة تنم عن مخزون ثقافي كبير".
في أيامه الأخيرة
عانى يوسف نمر ذياب من التدهور المستمر في صحته، وعندما زاره صديقه الصحفي والكاتب رباح آل جعفر، وهو في أيامه الأخيرة من حياته، رآه متألما جدا، يقول:
"طال المرض بيوسف قبل أن يفتك به، وينخر عظامه، وكان مقدّراً له أن يرى بعينيه حقائق من حوله كئيبة، ليترك خلفه إرثاً من الجراح، والذكريات المريرة.
ولقد راعني منظره آخر مرّةٍ رأيته.. كان عليلاً ومنهكاً للغاية، وكان منظره يدعو إلى الأسى، وعيناه متقرّحتان، وفي وجهه بثور، وتبيّنتُ وأنا أتفرّس في وجهه، أنه تحمّل صدمات في الحياة لا لزوم لها .. وقال لي في أسىً بالغ: لقد علّموني لماذا تجدب الصحاري.. فمن يعلّمني لماذا تجدب القلوب؟!.
وكان يتفّحصني بعينين، نصف نائمة، نصف مفتوحة، كلّما زرته في منزله، وكانت صومعته هادئة، هدوء المقابر، ووجهه كله يرتعش، ثمّ يسحبني من يدي لنذهب إلى مقهى يرتاده بالقرب من منزله في منطقة الكرادة . . . همس في أُذني ذات مرّةٍ، يقول: الكاتب كالفرّاش، كلاهما يمكن الاستغناء عنه في أيّ لحظة!".
راح يحكي لي متاعبه في الحياة، متاعب لا حصر لها، ويشكو من الأقلام التي سبحت في بحر النفاق، وما أصاب الحياة الثقافية في العراق من قحط، وما حطَّ على اتحاد الأدباء من بلاء، وقد عفّ علينا كالطير عدد من كتّاب الصف العاشر.. وكان يبدو عليه الغيظ الشديد، وقد ملَّ حياته، وضاق صدره بالكل، ممروراً غاية المرارة، حزيناً غاية الحزن، شديد السخط على كل شيء .. على الحكومة، وعلى الشعب، وعلى الأدباء، وعلى الصحافة، وعلى مجتمع يدوس بقسوة على الضعفاء".
توفي يوسف نمر ذياب، رحمه الله، عام 2005، بعد معاناة طويلة مع المرض.
1002 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع