الإنسان بطباعه شجرة لا بستان: فضاءنا الثقافي ونرجسية التماهي والمونتاج في عصر الكولاج

إبراهيم فاضل الناصري

الإنسان بطباعه شجرة لا بستان:فضاءنا الثقافي ونرجسية التماهي والمونتاج في عصر الكولاج

في زمنٍ يتكاثر فيه الضجيج وتتضاءل فيه الأصوات الأصيلة، باتت الهوية الإنسانية أقرب إلى كولاج فنيٍّ مفكك، لا لوحةً متكاملةً نابعةً من جذر ثابت. أصبح الإنسان يخلع ذاته كما يخلع قميصًا، ويلبس هوياتٍ متناقضةً كما يبدّل الأقنعة في مسرحٍ لا ينتهي. أمام هذا المشهد، يبرز سؤال وجوديٌّ حادّ: من نكون في عصرٍ نكافئ فيه التعدد الشكلي ونتجاهل العمق الحقيقي؟

تتهاوى من فضاءاتنا الثقافية سماتُ التخصص كتساقط الأوراق في مواسم الخريف، بعد أن تتقاذفها رياحُ نرجسيةٍ تتلاعب بروحيتها النقية، فتمسخها إلى كائناتٍ هجينةٍ فيمسي كل شيءٍ على غير طبيعته. تجد الضابطَ يلتحف عباءة شيخ العشيرة، والمهندسَ يتنقّل بين معادلات الفيزياء ومقامات الأدب، والأستاذَ الجامعيّ يتحوّل من المحاضرات العلمية إلى الأوراد الصوفية، تاركًا منابرَ العلم إلى عتبات الأولياء!
وكأن الهوية صارت بطاقة ائتمانٍ نقتطع منها ألقابًا حسب الرغبة والهوى. لم يعد الإنسان يسكن جذر اختصاصه، بل صار يتنقّل بين الألقاب كما يتنقّل المسافر بين المحطات. هذا التماهي ليس تعددَ مواهب، بل هو شكلٌ من أشكال السطو الرمزيّ على الهويّات: فالطبيب يهجر مشرطه ليمسك مسواكًا، والإعلامي يتحوّل إلى "فنان جرافيتي"، ثم يطمح لأن يكون مؤرخًا بألبومات الصور العائلية، ورجل الأعمال يغرق في بحر التراث هروبًا من أمواج السوق المتلاطمة، وأستاذ الكيمياء يتحول إلى داعيةٍ يستشهد بابن تيمية أكثر من معادلات العناصر!
نحن نعيش اليوم حالة من الفوضى الرمزية، يتبادل فيها الناس أقنعتهم كما يتبادلون التحايا. حتى حكمة القرآن:
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾
تحوّلت من قانونٍ للتمايز البنّاء إلى أثرٍ بعد عين في زمنٍ يُقدّس التلوّن ويُكافئ الزيف. لم يعد الإتقان فضيلةً في هذا الوباء، بل صار التخصص عارًا يُخفيه المرء كما يُخفي ندبةً في وجهه.
ففي مشهدنا اليوم، يكافئ المجتمع "الكم" لا "الكيف": العميد المتقاعد يصبح فيلسوفًا بقراءة كتابين، أو ناقدًا أدبيًا بمشاهدة مسلسلٍ واحد، ومدرّس الكيمياء يتحوّل إلى شاعر وقاص وناشط اجتماعي في الوقت ذاته، وأستاذ الشريعة يصير شيخ عشيرة وكأن الفقه لعبة أدوار. هذا التنازع الهُووي لا يُنتج تنوّعًا خلاقًا، بل يلد وحوشًا من الأنا الجائعة، وكلٌّ يريد أن يكون بستانًا من الألقاب، لكنه لا يملك جذرًا واحدًا يُثمر علمًا أو إبداعًا.
جذور هذا الوباء متعددة، أبرزها:
1. تعليمٌ سلعيٌّ: تحوّل إلى خط إنتاجٍ للشهادات لا لبناء العقول.
2. منصات التوهم: تصنع خبراءَ باللايكات لا بالإنجازات.
3. الهروب من المسؤولية: إذ يختبئ الناس خلف العموميات فرارًا من مساءلة التخصص.
4. رأسمالية الهوية: تبيع الإنسان كماركة تُغلَّف بالألقاب.
5. أزمة معنى: تدفع الأفراد إلى البحث عن ذواتهم الضائعة في متاهة التعدد غير المنتج.
هذه العوامل تُنتج غابةً من الأغصان الهشة، التي تتهاوى عند أول عاصفة نقد. فهل من خلاص؟
نعم، بكلمة واحدة: "الإنسان شجرة لا بستان".
فالشجرة جذرٌ عميق في تخصصٍ يُثبّتك في أرض الواقع، وساقٌ من الخبرة تتراكم حلقاته عامًا بعد عام، وفروعٌ تمتد نحو الشمس دون أن تنفصل عن الجذع. الطبيب الذي يتعمق في طبّه ثم يدرس التصوف لفهم روح المريض — شجرة مثمرة. المهندس الذي يكتب الشعر ليرى الجمال في المعادلات — شجرة ذات ظل.
أما الذي يهرب من غرفة العمليات إلى الزوايا — فغصنٌ مقطوع من شجرةٍ لا جذور لها.
هنا تتجلّى عبقرية التوازن بين التخصص والتنوع. فالتخصص لا يعني الجمود، كما أن التعدد لا يعني الشتات. حين نعود إلى روح الآية:
﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾
ندرك أن "الشاكلة" ليست قيدًا، بل بصمة وجودية تصنع تميزك لا تشتّتك.
حضارات الأمم لا تُبنى بأشجارٍ بلا جذور.
ابن سينا كان طبيبًا وفيلسوفًا، لكن جذره كان في علم الطب.
الجاحظ أديبٌ وعالم، لكن ساقه كانت اللغة.
مدينتنا لن تنهض ببساتين وهمية من الألقاب المتساقطة، بل بأشجارٍ تصل جذورها إلى المياه الجوفية للحقيقة.
فلنغرس في أنفسنا جذرًا واحدًا قبل أن تقتلعنا رياح السطحية.
فالمستقبل لا يصنعه أولئك الذين يجيدون التبدل كل لحظة، بل أولئك الذين ينبتون في الأرض، يثبتون، ويتفرعون، ويثمرون. الإنسان الأصيل ليس مَن يملك قائمةً طويلةً من الألقاب، بل من يملك جذرًا عميقًا يرويه الإخلاص والمعرفة.
وفي زمن الوجوه المتبدّلة، يظل صاحب الجذر هو الباقي، وهو الذي يُعيد للهوية معناها، وللإنسان قيمته.
السؤال ليس: كم لقبًا نحمل؟
بل: أي جذرٍ يُثبتنا حين تهبّ رياح الزيف؟
هذا هو السؤال المعلّق بين أوراقنا المتساقطة.
وهكذا، بين وهم التعدد وأصالة الجذر، تتمايل الهوية المعاصرة كغصنٍ تائه في مهب الريح، باحثةً عن جذور لم تغرس بعد. في زمنٍ تُباع فيه الألقاب كما تُباع السلع، وتُلبس فيه الشخصيات كما تُلبس المعاطف، يصبح الحفاظ على التخصص فعل مقاومة، والإخلاص لهوّيتك الأصلية شجاعة فكرية.
فكن شجرة. دع جذورك تمتد في أرض الحقيقة، لا في وحل التظاهر. دع علمك يثمر، لا يتكاثر بالشعارات. فإن هويتك لا تُبنى بتعدد الأدوار، بل بصدق الدور الواحد الذي تتقنه، وتغذّيه، وتحميه من الزيف.
حينها فقط، لن تُسقطك عواصف الادعاء، ولن تقتلعك رياح التشتت.
ستبقى، ببساطة وعمق: شجرة مثمرة... لا بستانًا تفترش ارضه أوراق متطايرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

941 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع