بدري نوئيل يوسف
وعود نواب دولة الفساد، حكايات من كوكب الوعود
بقلم: مواطن لم يحقق أحلامه بعدما تبخرت الوعود
تعريف الوعود الانتخابية
الوعود الانتخابية في دولة الفساد ليست مجرد التزامات يطرحها المرشحون أمام الشعب، بل تحوّلت إلى طقوس موسمية يتقنها نواب تلك البلاد. مع كل موسم انتخابي، تنطلق هذه الوعود كالألعاب النارية، تملأ الأجواء بالضجيج والألوان الزاهية، لكنها سرعان ما تتلاشى دون أثر. فالمرشحون يبرعون في رسم الأحلام وتوزيع الآمال، متقمّصين دور المنقذ الذي سيحل جميع الأزمات، من الكهرباء إلى البطالة، مروراً ببناء المدارس وتوزيع الثروة.
هذه الوعود، رغم تكرارها في كل دورة انتخابية، تبقى حبيسة الخطابات والمهرجانات، لا تخرج إلى حيّز التنفيذ إلا في الصور الدعائية أو التصريحات الإعلامية. المواطنون، من جهتهم، يدركون جيدًا أن هذه الوعود ليست إلا جزءاً من عرض انتخابي كبير، حيث يتنافس النواب على لقب "أفضل ساحر في فن إطلاق الوعود"، دون أن يحمل أحدهم خطة عمل حقيقية أو نية صادقة للتغيير.
مهرجان الطموحات الوطنية: بداية الحملة الانتخابية في دولة الفساد
تستيقظ المدن الكبرى في بلاد الفساد كل أربع سنوات على وقع مهرجان بهيج يُعرف بـ الموسم الانتخابي. إنه الوقت الذي يتحول فيه السادة النواب المرشحون إلى فنانين محترفين في فن الرسم بالكلمات. فمن يتابع حملاتهم، قد يظن أنهم قد حطوا لتوهِّم على كوكب الأرض ليُخلِّصوا البشرية من كل مشاكلها.
في دولة الفساد، تبدأ الحملة الانتخابية بانفجار مفاجئ في الطموحات الوطنية، حيث تتحوّل البلاد إلى ساحة استعراض للوعود اللامحدودة. تتساقط هذه الوعود من أفواه المرشحين كما تتساقط الكهرباء من الأسلاك المكشوفة: تضيء المشهد للحظة، لكنها سرعان ما تخفت ولا تصل إلى أحد.
يتفنن المرشحون في رسم أحلام خيالية وتوزيع آمال براقة، يملؤون الفضاء الانتخابي بخطابات رنانة وألوان زاهية من الوعود التي ما تلبث أن تتلاشى في الهواء دون أن تترك أثراً ملموساً في حياة المواطنين.
هذه الطقوس الموسمية أصبحت جزءاً من العرض الانتخابي الكبير، حيث يتنافس المرشحون على إبهار الجمهور بقدرتهم على إطلاق وعود مستحيلة التنفيذ، بينما يدرك المواطنون جيداً أن هذه الوعود ليست سوى فقاعات كلامية لا تلبث أن تنفجر مع انتهاء موسم التصويت. وفي كل مرة، يتكرر المشهد ذاته: وعود مضيئة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها لا تتجاوز كونها كلمات عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع.
منذ اللحظة الأولى، يتحوّل المرشح إلى شاعر وطنيّ يلقي قصائد من نوعٍ جديد: سنوفّر الكهرباء، سنبني المدارس، سننهي البطالة، بينما خلف الكواليس تُطبع الاتفاقيات في مطابع الفساد نفسها التي طبعت الوعود القديمة منذ عشرين عامًا.
وعود نواب دولة الفساد هو مهرجان الكذب الوطني، في موسم الانتخابات لا يُعتبر حدثًا سياسيًا، بل مهرجانًا سنويًا للكذب الجماعي. النائب هناك لا يحتاج خطة عمل، بل يحتاج إيقاعًا جيدًا ليُنسّق كذبته مع الكورس الحزبي من خلفه.
هناك يبدأ المشهد عندما يقف المرشح وسط العراء ليهتف بصوتٍ يقطر وطنية: سأخدم الشعب!
في كل موسم انتخابي، تتحول البلاد إلى سيرك ضخم، حيث يتنافس النواب على لقب "أفضل ساحر في فن إطلاق الوعود". المواطنون يجلسون في المدرجات، يصفقون ويضحكون، وهم يعرفون أن العرض سينتهي كما بدأ: بلا كهرباء، بلا وظائف، وبالكثير من الفواتير.
النواب لا يحتاجون برامج انتخابية، بل يحتاجون فقط إلى حنجرة قوية ووجه لا يعرف الخجل. يبدأ العرض بوعود من نوع "سأخدم الشعب"، فيصفق الجمهور بحرارة، رغم أنهم سمعوا الجملة نفسها منذ أربع دورات، ولم يخدم النائب سوى حسابه البنكي.
كل مرشح يخرج بمشروع "المستقبل الزاهر": مدن ذكية تطير في الهواء، وأشجار مال تنمو في الشوارع. طبعًا، تبدأ دراسة الجدوى فورًا، وتستمر حتى نهاية الدورة البرلمانية، وتكلف أكثر من ميزانية الدولة نفسها. النتيجة؟ صورة للمرشح وهو يبتسم أمام مخطط وهمي.
المرشح يرتدي قميصًا شعبيًا ويلتهم وجبة من الشارع أمام الكاميرات، ثم يركب سيارته الفارهة ليعلن عن توزيع الثروة بعدالة. العدالة هنا تعني منع بيع سيارات لامبورجيني للمواطنين، بينما يحتفظ هو وفريقه بكل السيارات الفاخرة.
مهرجان الوعود الانتخابية: مشاريع المستقبل وعدالة المرشح
الوعود الأولى: مشروع المستقبل الزاهر
يطلّ المرشح س بابتسامة رسمية لم يرها أحد إلا في الصور الدعائية للحملة، ليعلن بكل حماسة عن مشروع المستقبل الزاهر. هذا المشروع، الذي يحيكه بخيوط خياله، يتضمن وعودًا ببناء مدن ذكية تطير في الهواء، وزراعة الشوارع بأشجار المال عوضًا عن أشجار الزينة، حتى لا يعاني أحد من قلة المال في الجيوب. ولضمان عدم نسيان هذا المشروع الأسطوري، يَعِد المرشح بإجراء دراسة جدوى مطوّلة، تمتد لعامين كاملين وتكلّف الدولة أضعاف ميزانيتها، لتكون النتيجة صورة للمرشح وهو يبتسم أمام مخطط لم يتحقق.
الوعود الثانية: العدالة الاجتماعية على طريقة المرشح
لا تكتمل قائمة الوعود الانتخابية إلا بحديث المرشح عن العدالة الاجتماعية. يظهر المرشح ص مرتديًا قميصًا من توقيع أشهر المصممين المحليين، ويطلق وعودًا رنانة بتوزيع الثروة بعدالة. ولإضفاء مصداقية على خطابه، يلتقط لنفسه صورة وهو يتناول وجبة من طعام الشارع، في مشهد تمثيلي يوحي بأنه يعيش حياة المواطن العادي كل يوم. وفي الوقت ذاته، يصرح مساعدو المرشح بأن قرارًا سيصدر قريبًا يمنع بيع سيارات لامبورجيني للمواطنين العاديين، حرصًا على العدالة والمساواة، بينما يبقى هو وفريق حملته محافظين على سياراتهم الفاخرة بعيدًا عن متناول الجميع.
الوعود الثالثة: القضاء على الفساد بـ عصا سحرية
في كل انتخابات، يظهر مرشح ف وهو يلوح بـ عصا سحرية للقضاء على الفساد. هذه العصا، التي لم تُخترع بعد، ستُنهي كل أشكال الفساد في البلاد. يُقدم ف وعودًا بأنه سيقوم بتأسيس لجنة مكافحة فساد، على أن تكون اللجنة مكونة من نفس الأشخاص الذين يُتهمون بالفساد في الوقت الحالي. لكي لا ينسى أحد وعوده، يُعلن ف أنه سيقوم بـ ملاحقة كل فاسد وسيقوم بوضع اسمه على قائمة سوداء ستُوضع في خزانة منسية في إحدى الإدارات الحكومية.
الوعود الرابعة: مستقبل التعليم بالذكاء الاصطناعي
يُطلق المرشح ع وعودًا بأن مستقبل التعليم في البلاد سيكون متقدمًا بفضل الذكاء الاصطناعي. ولكي يثبت أنه جاد، يُعطي وعودًا بأن كل مدرسة في البلاد ستحصل على روبوت ذكي، على أن يكون هذا الروبوت قادرًا على تدوين أسماء الطلاب المتأخرين فقط، دون أن يكون له أي دور آخر. ويتمكن من حصد أصوات الشباب، من خلال إعلانه عن أن الروبوت سيُعلم الطلاب كيفية استخدام تيك توك بشكل أفضل.
صندوق الاقتراع: صندوق الأمنيات الضائعة
يذهب المواطنون إلى صناديق الاقتراع وكأنهم يلقون أمانيهم في بئر بلا قاع. النواب يصلون إلى كراسيهم، والوعود تتحول إلى بالونات ملونة تنفجر في الهواء، بينما المواطن ينتظر الموسم القادم لسماع نفس الأغاني. مشاهد متكررة وكوميديا سوداء بلا نهاية فالكهرباء الوطنية والنائب يعد بالنور، لكن المصابيح الوحيدة التي لا تنطفئ هي في قصوره. المواطن يشعل شمعة، والنائب يشعل منصبًا جديدًا. مشروع الإسكان العظيم: منذ عشرين عامًا، وعدوا بمليون وحدة سكنية. اليوم، لدينا ثلاث وحدات تجريبية على الورق، والأرض المخصصة للمشروع هاجرت مع المستثمرين، وكذلك القضاء على البطالة وتمكين الشباب يعني تمكينهم من حمل لافتات الدعاية يوم التصويت. بعد الفوز، تبدأ لجنة لدراسة لجان سابقة بمكافحة الفساد واليد الحديدية تنغلق فقط على الملفات الصغيرة، أما كبار الفاسدين فيسبحون بحرية والمواطن البطل المغفّل.
في النهاية، يبقى المواطن هو المتفرج الأصيل، يضحك من قلبه على المسرحية نفسها كل أربع سنوات، ويقول لنفسه: "ربما هذه المرة صادقون". ثم يكتشف أن الصادق الوحيد هو الوقت الذي مضى ليعودوا من جديد.
هكذا، في دولة الوعود، لا يمر الوعد إلى التنفيذ، بل إلى الأرشيف الوطني للوعود غير المنجزة. المواطن يملك فقط شمعة الأمل وضحكة السخرية!

985 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع