إكراه الهوية تحت عباءة الحداد كيف حوّلت الطائفيةُ الحُزنَ طقسًا قسريًا وسرقت وجه التنوع

ذو النورين ناصري زاده

إكراه الهوية تحت عباءة الحداد كيف حوّلت الطائفيةُ الحُزنَ طقسًا قسريًا وسرقت وجه التنوع

في بلادٍ اعتادت أن تكتب التاريخ بالنار والطين، صارت تكتبه اليوم بالدمع والندب. هناك، حيث وُلد الحرف الأول، بات الصمت هو اللغة الرسمية، والحزن هوية تُفرض على القلوب كما يُفرض العَلم على السارية. لم تعد الطقوس نافذة للتعبير الروحي، بل قيدًا على الأعناق، يضيق كلما حاول أحدهم أن يبتسم للحياة. في العراق، تحوّل الحداد من لحظة تأمل، إلى مؤسسة حكم، تُعيد تشكيل الوعي، وتعيد صياغة الوطن بلونٍ واحدٍ لا يليق إلا بالحزن... ولا يترك للآخرين سوى العتمة.
ففي العراق، لا يهبط الليل من السماء فقط، بل ينزل من فوق المنابر، ومن على الشاشات، ومن خلف جدران الوزارات. كأن الوطن، كلما حاول أن يبتسم، نهرته طقوس الحداد، ووبخته فتاوى البكاء.
في هذا المكان الذي علّم البشرية أولى الأبجديات، صار الفرح فعلاً مريبًا، والحياد موقفًا مدانًا، والاختلاف جريمة تُرتكب بالروح قبل أن تُعلنها الشفاه.
لم يعد الحزن شعورًا ذاتيًا، بل مؤسسة كاملة، دولة موازية تُحكم بالمواكب، تُشرعن بالسواد، وتُوزّع الولاء عبر طبول اللطم. في الساحات التي تحوّلت إلى مآتم موسمية، وفي الوزارات المنصاعة لأجندة الندب، يُعاد تشكيل وجه العراق، لا عبر خطط وطنية، بل عبر طقوس عزاء مستدامة.
فمن يوقف زحف هذا الحداد القسري؟
ومن يعيد للوطن وجهه المسروق خلف أقنعة الطائفة؟
وهل ينجو وطن يُؤمَر بالحزن... كل يوم؟
حين تتحول مؤسسات الدولة إلى خدمٍ للطقوس، تسقط شرعيتها أمام مواطنيها، وتتحوّل من مظلة جامعة إلى أداة تعظيمٍ لطائفة واحدة. تُستنفر الشرطة لحماية "الزائرين" لا المدن. تُعبّأ المستشفيات كأنها وحدات إسعاف لطقسٍ واحد. تُسخّر الباصات والقطارات وميزانيات المحافظات، وكأن العراق قد أعلن "عطلة وطنية دائمة" لطقس لا يُمثّل الجميع، لكنه يُفرض على الجميع.
في هذه الجغرافيا، للفرح تهمة. من يُظهر الحياة في أيام المحرّم يُتَّهم بإهانة "المقدّس". تُؤجَّل الأعراس، تُطفَأ احتفالات المواليد، وتُمنع الموسيقى بصمت البنادق غير المعلنة. تتحوّل مشاعر الإنسان إلى مساحة رقابة، ويغدو الحزن واجبًا مدنيًا لا شعورًا إنسانيًا.
أما الإعلام، وقد فُرضت عليه عباءة الولاء، فصار منبرًا للمظلومية الطائفية. تُلغى البرامج، وتُمنع الأغاني، وتُغربَل المقالات. تتحوّل المؤسسات الثقافية إلى حسينيات موسمية، ويُستبدل الأدب بالمراثي، والفكر بإرهاب المشاعر المفروضة.
هذا ليس دينًا، بل توظيفٌ سياسي للدين.
ليست حرية، بل اختناق ممنهج.
الدولة التي يُفترض بها أن تحمي التعدد، أصبحت تفرض طقسًا واحدًا كهوية رسمية، وتمارس حيادًا زائفًا يميل لفئة واحدة على حساب الجميع. إنه إلغاء ناعم للمواطنة، تحت راية الولاء الطائفي.
ليست المشكلة في إقامة الشعائر، بل في تحويلها إلى معيار للانتماء الوطني. المشكلة ليست أن يحزن البعض، بل أن يُحزن الجميع بالقوة. لقد تمّت عسكرة الحزن، وتحويله إلى عقيدة سيادية، لا تقبل الحياد، ولا تعترف بالاختلاف، ولا تترك هامشًا للفرد.
حين يُختزل العراق في لونٍ واحد، فإننا لا نفقد التنوع فقط، بل نفقد القدرة على البقاء. فحين تسيطر الطائفة على المجال العام، تتفكك الرابطة الوطنية، وتتحوّل الدولة إلى "جماعة دينية كبرى" تملك القانون، والإعلام، والشارع... وحتى الهواء.
هل هذه هي الحرية التي وُعدنا بها كبديل للحكم الشمولي؟
أن نستبدل حكومة الحزب الواحد بحكومة الحداد الواحد؟
أن تصبح وزاراتنا دوائر نعي، وأن تُقاس شرعيتنا بمدى مشاركتنا في طقس الحزن؟
إن العراق لن يُبنى بشعارات "يا حسين"، بل بإرادة تقول: "يا الله، كلنا مواطنون". لن ينهض ما دامت مؤسساته ترتدي ثوب النائحة، وما دام الفرح ممنوعًا، وما دام الدين يُستخدم قناعًا لإخضاع المختلف وترويض الأمل.
العراق بحاجة إلى فتح جديد، لا تقوده ميليشيات، بل إرادة حياة. تحرير لا يتم على أكتاف الزوار، بل على أكتاف المواطنة المتساوية. إنقاذ لا يتم من بوابات الطقوس، بل من قلب الدولة نفسها.
فإما أن نرفع الأعلام السوداء عن عيون الوطن،
أو نبقى ندفن اسمه تحت ركام اللطم الجماعي... جيلاً بعد جيل.
إما أن يكون العراق للجميع… أو لن يكون.
الحزن حين يُفرض، يفقد معناه. وما يُفرض باسم الطائفة، لا يبني وطنًا، بل يهدمه حجرًا حجرًا. فالدولة التي تخلع حيادها لترتدي السواد، تتخلى عن مواطنيها لصالح جماعة، وتحوّل الوطن من بيتٍ للجميع إلى مأتمٍ أبدي.
خلاص العراق يبدأ بنزع القناع الطائفي عن وجه الدولة،
وبردّ الفرح إلى موضعه الطبيعي في حياة الناس.
فلا حرية في ظل إكراه،
ولا مواطنة في ظل تقديس الحداد المطلق،
ولا دولة في ظل لونٍ واحدٍ يحتكر السماء والأرض.
العراق وطنُ التنوع، لا يمكن أن يُختزل في سردية واحدة،
ولا أن يُدفن إلى الأبد تحت كفنٍ لا يناسب الجميع.
إن ما يحدث ليس طقسًا دينيًا فحسب، بل طمسٌ متعمّد لهوية وطنٍ كان يُفترض أن يُبنى على التنوع، لا أن يُدفن تحت أحادية العزاء. العراق لن ينهض في ظل إكراهٍ عاطفي يُشرعن باسم الطائفة، ولا في ظل مؤسسات ترتدي السواد وتُنكر الفرح. خلاصه الحقيقي يبدأ من إعادة الاعتبار للمواطنة، وإعادة الحياة لروح الدولة، ودحر الطقوس القسرية من ساحة القرار العام.
فإن لم يُرفع الحداد المفروض عن جبين العراق، سيظل الوطن منفيًا في بلاده، وجراحه تنزف تحت راياتٍ لا تجمع... بل تُفرّق.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع