د. علي محمد فخرو
ما جرى وما يجري بعد قيام ثورات وحراكات الربيع العربي يحتاج إلى تمحيص وفهم لا ينحصر في نطاق السياسة، وإنما يتعداه إلى حقول أخرى. إن الغالبية الساحقة من الكتابات والمناظرات تركز على العوامل السياسية في محاولاتها لفهم أسباب التعثرات أو الانحرافات أو الاخفاقات التي حدثت في هذا القطر العربي أو ذاك.
ولكن ماذا يقول علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق في شأن الوضع العربي الذي يموج مداً وصعوداً لينقلب بعد حين إلى جذر وهبوط؟ ذلك أن تفسيرات من مثل التدخل الأجنبي أو التنافر الصهيوني أو تدفق مال البترول العربي لهذه الجهة أو تلك لا تستطيع لوحدها تفسير ما يحدث، وبالتالي تحتاج إلى ما يذب إلى الأعماق ويتخطى الظواهر.
في البدء يجب التأكيد على أنه لا يوجد شيء اسمه شعوب طيبة عاقلة وأخرى شريرة مجنونة، وبالتالي فإن ما يصيب الشعوب هو بسبب عوامل ذاتية، من نواقص وعاهات، أو امتيازات وفضائل، متأصلة في هذا الشعب أو ذاك. الشعوب، تماماً مثل الأفراد، تولد على الفطرة، والفطرة تقوم في الأساس على الخير وتنبذ الشر.
وبالتالي فإن محاولات تفسير ما يحدث من خلال تواجد عوامل ذاتية سلبية في الإنسان العربي وفي المجتمع العربي هي محاولات عنصرية بدأها المستعمرون وبعض المستشرقين وسار على خطاها، مع الأسف بعض المستغربين المستشرقين العرب. نحن لسنا أمام شعب يختلف عن بقية الشعوب ولا إنسان عربي يختلف عن بقية البشر.
إذن، أين تكمن المشكلة؟ دعنا نؤجل الجواب ولنبدأ بأن ألوف الأبحاث والتجارب المعملية في علمي النفس والاجتماع قد أظهرت، بالنسبة للأفراد كما للجماعات، بأن ما يحدث للفرد كما للجماعة هو حصيلة تفاعل بين ثلاثة عناصر المكونات الذاتية للأفراد أو الجماعات، والظروف المحيطة بالفرد أو الجماعة، والنظام الذي يخلق الظروف أو يبقيها أو يستعملها للتأثير على الأفراد والجماعات. علم النفس أظهر ذلك بالنسبة للأفراد وعلم الاجتماع أظهره بالنسبة للجماعات ومنهم الشعوب.
بالنسبة للشعب العربي لا يوجد أي مبرر للاعتقاد بأن مكوناته الذاتية، كجزء من البشرية، تختلف عن الآخرين. إذن بالقضية تتركز في عنصري الظروف المحيطة به والنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي يخلق تلك الظروف الآن، والذي خلقها عبر التاريخ الطويل لهذه الأمة.
للكاتب ايرك هوفر مقولة بالغة الدلالة «عندما تتراوح القوة مع الخوف الدائم الطويل المدى فانها تصبح غير قابلة للقهر»، هذا الأمر ينطبق على الوضع العربي. فعبر تاريخ طويل كان النظام العربي سلطوي استبدادي ترافق مع خوف مركب من السلطة من جهة ومن تبعات الحرية من جهة أخرى. لقد عاش الشعب العربي، منذ الملك العضوض، في سجن كبير يديره حراس استبداديون من خلال أنظمة بطش وترهيب وإفساد، ما كان له إلا أن يقود إلى تشويه عقل ونفس وروح الإنسان العربي.
لكي ندرك عظم معنى المصيبة الاجتماعية والنفسية التي حلت بالجماعات والأفراد العرب من جراء نظام الاستبداد، إذن دعنا نستذكر بأن العديد من التجارب المخبرية التي أجراها علماء النفس والاجتماع على متطوعين، أظهرت بأن وضع هؤلاء المتطوعين في أجواء السيطرة والاستبتداد، وبالتالي في الخوف الدائم، ولفترات قصيرة جداً، قادت إلى نتائج تدميرية نفسية واجتماعية بين صفوف أولئك المتطوعين.
لقد تغير أولئك المتطوعون، الذين كانوا عاديين وأسوياء ومتزنين في تصرفاتهم، ليصبحوا بشراً مختلفين بصورة جذرية. فالذين كانت عندهم كرامة أصبحوا خنوعين، والذين كان لديهم كبرياء الاستقلال الشخصي أصبحوا سلبيين يعتمدون على القوي الآخر، الجميع استقالت في داخلهم الأنفة والعزة ورضوا بأن يكونوا تابعين للظروف وبالأخص للنظام، أي للقوة الخفية التي تدير الظروف.
إذا كان ذلك التغير قد تم خلال فترة قصيرة تحت ظروف مختبرية مؤقتة، فكيف يكون التأثير والتغيير إذا كان نتيجة قرون من القهر والاستبداد والظلم؟ أي تغييرات كبرى قد حفرت في عقل ونفس وروح الشعب العربي عبر القرون؟ أي تشويهات قد تجذرت لتجعل تعامل الشعب العربي مع ثورات وحراكات ربيعة تعاملاً مليئاً بالثغرات والعلل؟
سنحاول الإجابة على ذلك في مقال قادم.
707 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع