الدكتور منذر الشاوي: الاستاذ والوزير والصديق.. قامة عراقية اخرى يغيبها الموت في الغربة اللعينة

                                            

                      د. سعد ناجي جواد

الدكتور منذر الشاوي: الاستاذ والوزير والصديق.. قامة عراقية اخرى يغيبها الموت في الغربة اللعينة

عند التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، (قبل ان تتحول الى كلية القانون والسياسة ثم كلية العلوم السياسية)، تشرفت بان اكون طالبا لدى مجموعة من الاساتذة الكبار، وظل بعضهم كبارا رغم تغير الظروف والاحوال. وكان الاستاذ الدكتور منذر ابراهيم الشاوي واحدا منهم. كنا في بعض الاحيان ننزعج من صرامته، بل كنا نعده من المغرورين، ولكنه كان يبهرنا بمحاضراته القيمة واسلوبه الشيق في القائها وبحرصه على الالتزام بالقيم الاكاديمية. ثم اكتشفنا ونحن نوشك على التخرج ان فيه طيبة كبيرة توازي علمه الغزير.

ولد الدكتور منذر في بغداد عام 1928، وبعد ان اكمل دراسته في كلية الحقوق عام 1951، سافر الى فرنسا لاكمال دراسته العليا حيث حصل على دكتوراة في العلوم السياسية والقانون العام عام 1956، وعلى دكتوراة ثانية في القانون الدستوري عام 1961، ونالت رسالته للدكتوراة الثانية جائزة افضل رسالة في ذلك الاختصاص تقدم لجامعة فرنسية انذاك. ثم عاد بعدها والتحق بقسم العلوم السياسية ثم كلية الحقوق استاذا، واستمر في عمله هذا الى عام 1974، وفي تلك الفترة تتلمذت على يديه.
انتقل الدكتور الشاوي بعد ذلك لكي يراس اللجنة العلمية الاكاديمية للدراسات الانسانية الملحقة بمكتب نائب رئيس الجمهورية، التي وضعت الخطط لتطوير الدراسات والمناهج الاكاديمية في كل الجامعات. واستطاعت هذه اللجنة من ان تضع مناهجا علمية متطورة ومواكبة للدراسات المشابهة لتلك التي تُدَرس في اغلب الجامعات الاجنبية المتقدمة. ولهذا وبسبب هذه الجهود، وجهود الاساتذة الرواد من جيله والجيل الذي سبقه والحيل الذي اتى بعدهم كانت الشهادة التي تمنحها الجامعات العراقية معترف بها من كل جامعات العالم الرصينة، وكانت الاقسام الدراسية سواء في الفرع العلمي او الادبي الانساني تتلقف الطلبة العراقيون لمعرفتها بمستواهم العالي. وعندما خدم كوزير للتعليم العالي تابع بصورة مباشرة اكثر هذا المسار. والانصاف يقتضي القول ان كل وزراء التعليم العالي الذين عاصرتهم اثناء خدمتي الجامعية، بالاضافة للدكتور الشاوي (المرحوم د. عصام عبد علي والسيد سمير الشيخلي ود. عبد الرزاق الهاشمي ود. همام عبد الخالق) كلهم كانوا يتمتعون بالحرص على اتباع نفس النهج.
في عام 1989 اتذكر انه طلبني لمقابلته عندما كان وزيرا، بعد ان علم باني قدمت طلبا للاستقالة من الوظيفة بسبب تعرضي لوشاية من احد السيئين، الذي كتب عني تقريرا كاذبا، ولأني انزعجت لان ادارة الجامعة عاقبتني وذلك الشخص بعقوبة واحدة على اساس اني (اسأت التصرف) عندما انتفضت لتكذيب الذي كتب عني ذلك التقرير. عندما قابلته قال لي بصرامة الاستاذ مع تلميذه (ما كان يجب ان تنحدر لمستواه)، فاجبت (لو ان الجامعة اخذت لي حقي منه لما فعلت ذلك)، ثم اضفت (على كل انا قدمت طلبا للاستقالة واريد من حضرتك ان توافق عليه). فابتسم (وهذه من النوادر) وقال لي (يبدو انك غير مرتاح في الكلية، في هذه الحالة وبما انك من الاساتذة الشباب الكفوئين والناجحين ساقوم، وحسب صلاحيتي، بتعميم اسمك على كل الجامعات العراقية وانتظر الردود منها حول مدى حاجتها لك كي انقلك لها)، فاجبته بهدوء (لكن في العراق توجد كلية علوم سياسية واحدة فقط وسوف لن يكون هناك من يحتاجني، والافضل ان توافق على طلبي)، فقال (هل تعتقد وانا الوزير المسؤول انني يمكن ان افرط باستاذ كفوء مثلك بهذه السهولة، حتى لو طلبتك جامعة اخرى لوظيفة ادارية سانقلك لها، فالافضل ان تعود لكليتك وطلبتك ولا تتاثر بمثل هذه الامور التافهة، واصلا وحسب علمي انك اخذت حقك بنفسك واكثر).
بعد الاحتلال، وعندما بدا الحديث عن النية لطرح دستور للعراق مكتوب في الخارج (2005) اتصلت به، (حيث انه اصر مثلي على عدم مغادرة العراق انذاك) كي اتشاور معه في الموضوع. واتفقنا على تشكيل لجنة (شعبية) برئاسته من المختصين لمتابعة ومناقشة ما كان يتسرب من احاديث عن محتويات الدستور الجديد، ( حيث ان اغلب بنوده لم يعلن عنها وظلت سرية الى ان تم التصويت والمصادقة عليه). وتوطدت علاقتي به اكثر في تلك المرحلة، وكنت ازوره او اتحدث اليه يوميا. ولم اجده غاضبا في حياتي كما وجدته في تلك الفترة، وخاصة عندما كنا نسمع عن محتويات هذا الدستور السيء. واقترحت عليه تنظيم محاضرة عامة حول الموضوع ووافق. وعندما كنا نعد العدة لذلك ونواصل اجتماعاتنا كلجنة مصغرة، تم القاء القبض عليه واحتجازه. وبوساطة وتدخل مباشر من شقيقه، استاذنا ايضا، المرحوم هشام الشاوي، والذي كان من ضمن الجهات المعارضة التي اتت من الخارج بعد الاحتلال، تم اطلاق سراحه واجباره على السفر خارج العراق، واخذ تعهد منه بعدم الخوض في اي نقاشات حول الدستور. وهكذا غادر العراق واستقر في الاردن حتى وافته المنية.
ظل تواصلي معه من خلال صديق مشترك، والذي كان ينقل لي تحياته واعجابه بما اكتب من مقالات كان الصديق ينقلها له. وعندما كتبت مقالتي (دستور العراق وثيقة مزورة) طلب من الصديق ان اتصل به واعطاني رقم هاتفه. واتصلت به للسلام، وبارك لي على المقال، ولم اطل عليه لمعرفتي بظروفه الصحية بسبب تقدم العمر، لكنه الح علي ان استمر في الكتابة.
خدم الدكتور منذر عضوا في المجمع العلمي العراقي، ووزيرا للعدل كواحد من اطول الوزراء خدمة في هذا المنصب (1974-1988)، ولعل اهم انجازاته في هذا المجال تاسيس المعهد القضائي العالي الذي اخذ على عاتقه تدريس وتدريب وتخريج القضاة. ثم اصبح وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي (1988-1991). ثم عاد وزيرا للعدل عام (2000) وحتى وقوع الاحتلال.
ساهم الدكتور منذر بكتابة الدستور الموقت وقانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان العراق (1974)، كما ساهم مع خبراء دستوريين عراقيين كبار في كتابة مسودة دستور دائم للعراق في عام (1990)، ولكن حرب 1991 التدميرية والحصار الظالم الذي فرض على العراق في تلك الفترة علق مسالة اقرار ذلك الدستور الذي كان ممتازا في اغلب جوانبه.
ستظل بصمات وانجازات الفقيد الاستاذ الدكتور منذر الشاوي في المجال القانوني والدستوري والدراسات الجامعية شاهد على كفاءته وقدراته وعلمه الغزير، والاهم على حبه للعراق.
اخر حادثة حدثت له مع النظام كانت تتمثل في الانتقادات والهجوم العنيف الذي شنه البعض على سفيرة العراق السابقة في الاردن التي قامت بزيارته اكراما لسنه ولمكانته العلمية، حتى وصل الامر الى مطالبة وزارة الخارجية للتحقيق معها، لتفقدها رمزا من رموز العراق الفكرية والاكاديمية.
رحم الله الاستاذ والاخ الكبير أبو النعمان، وغفر له وجعل مثواه الجنة، والهم اهله وذويه وطلبته ومحبيه الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع