بمناسبة ذكراه العاشرة الجواهري شاعر الجماهير بين الغربة والانتماء؛

                                             

                علاء الدين الأعرجي ..مفكر عربي من العراق

               

   

بمناسبة ذكراه العاشرة الجواهري شاعر الجماهير بين الغربة والانتماء؛

"أنا العراق ُ، لساني قلبُه ودمي فراتـُه، وكياني منه أشطافُ"

الجواهري

(أشطاف، تعني أجزاء)

طلب إليّ بعض الأصدقاء العرب (عرأقيين أو غير عراقيين) أن اكتب عن الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري ، بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته، بحكم معرفتي الشخصيه له ولأنني سبق وكتبت عنه عند وفاته قبل عشر سنوات، في صحيفة "القدس العربي" ، في 5/8/1997، تحت عنوان "أشعار وذكريات: الجواهري عاش غريبا ومات غريبا" . ومع أنه فعلا كان قد عاش حياته الطويلة التي قاربت المئة عام، متنقلا من بلد إلى آخر بسبب مواقفه السلبية عادة من معظم أنظمة الحكم في العراق العراقي

وقد ترددت طويلا قبل أن أخط الحروف الأولى لهذه المقالة: فماذا عساي أكتب عن شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري!؟ وأي جانب أتناول من شعره الغزير والمتشعب في جميع المناحي الحياتية؛ السياسية والعاطفية والفلسفية والإنسانية؟ ماذا عساي أكتب عن هذا الطود الشعري الشامخ وأمامي سبعة مجلدات من شعره، الذي أحتفظ له بذكريات عريقة ؛ مُرَّة وعميقة، لاسيما أثناء الأيام الحامية والدامية لوثبة الشعب العراقي في عام 1948 ، التي سنحتفل بذكراها الستين في مطلع السنة القادمة، حين كان صوته يعلو على أصوات الرصاص، فنتقحمه، وسلاحنا الحجارة والصراخ بسقوط المعاهدة ومعها حكومة صالح جبر:

تقحم لـُعنتَ أزيز الرَصاص، وجرب من الحظ ما يـُقسمُ

فإما إلى حيث تبدو الحياة لعيـنـيـك مـَكـْرُمة ً تـُغنمُ

وإما إلى جَـدَثٍ لم يكن ليفضُله بيـتـُك المُـظلمُ

فاستشهد، من بين مئات الشهداء الآخرين، جعفر مهدي الجواهري، شقيق الشاعر. فأنتج شاعرنا قصائد خالدة منها " يوم الشهيد" و"أخي جعفر" ثم " "أطبق دجىً ، أطبق ضبابُ!" وغيرها، مما سأشير إلي بعضها فيما بعد.

وماذا عساي أن أكتب عن شاعر فحل قيل عنه الكثير؛ ففضّله بعضهم على شوقي ومطران والرصافي والزهاوي، وقيل أنه أكبر من أن يُدرس، وقال فريق من الجانب الآخر، أنه شاعر عباسي أخطأه الزمن، وقال عنه الباحث والناقد ابراهيم السامرائي أن شعره يمثل نمطا جواهريا جرى في طريقة أدبية خاصة وجدت قبولا واستحسانا لدى جمهور المتأدبين. وقال عنه جبرا ابراهيم جبرا أن مجموعة شعره تمثل ما يشبه المأساة الإغربقية. (انظر "علي عباس علوان".

ومن جهة ثانية فإننا نقيـَّم أهمية شعر الجواهري، ليس فقط من جهة قيمته الفنية كشاعر متميز، بل من حيث قيمته السياسية والاجتماعية التي أضافت إلى شعره أبعادا جديرة بالاعتبار . فهو يجسد ويسجل فترة قرن كامل من تاريخ العراق الحديث؛ منذ بداية تكوين الحكم الوطني في

العشرينيات، حين كان معاصرا ومراقبا دقيقا للسياسة و لشخصياتها من الطبقة الحاكمة العراقية، ليس كمراقب خارج عنها ، بل كراصد ساكن في صميمها ، وشاهد مباشر يلاحظ حركاتها وسكناتها حتى في غرفها المغلقة، لاسيما في الفترة التي كان يعمل فيها موظفا في البلاط الملكي أو سكرتيرا للملك فيصل الأول، حيث تعرف على أهم الشخصيات السياسية العراقية: الملك نفسه ورستم حيدر الذي أغتيل، ورئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، الذي انتحر متمزقا بين ما يريده الإنكليز وما يريده الشعب، كما تقول وصيته، ونوري السعيد المعروف بانحيازه للإنكليز وبعده الوصي عبد الإله، وغيرهم الكثير. هذه الشخصيات التي خلفت في نفسه انطباعات ومفاهيم مؤثرة في إنتاجه الشعري. ثم أضاف إلى تلك الخبرة العظيمة، فترات عمله كصحافي متمرس؛ معارض ومكافح. فكان دائما في صميم الأحداث السياسية والجيشانات الجماهيرية، ليس كمراقب عادي، وإنما كصاحب موقف معين ينحو في الغالب إلى تأييد الحركات الشعبية، فضلا عن نقده المجتمع ككل، ولقياداته السياسية والدينية خصوصا. ومع تقديري بمبدأ "الفن من أجل الفن"، وإصراري على أهمية عنصر المعاناة والصراع في القصيدة، اعترف بانحيازي، غالبا، للشعر الهادف، دون أن يكون ذلك على حساب القيمة الفنية للعمل الشعري وتناسق وتفاعل الشكل مع المضمون. وأرى أن الجواهري يسجل بحذاقة أوجاع وإشكاليات المجتمع العراقي، خصوصا والعربي عموما. فهو لا يثور فقط على القيادات السياسية في الكثير من شعره ، ولكنه يثور، في بعضه، على الجماهير العربية نفسها؛ القابعة، الخانعة والخاضعة للقهر والإذلال والجهل والفقر، والقابلة بمصيرها الكالح، فيقول في قصيدة طويلة، مثلا :

أطبق دجى أطبــِق ضبابُ، أطبق جهاما ً يا سحابُ

أطبق على متبلدين شكا خمولهمُ الذبابُ

لم يعرفوا لون َ السماء ِ لفرط ما انحنتْ الرقابُ

ولفرط ما ديستْ رؤوسهم ُ كما ديس الترابُ

أطبق على المِعزى يـُرادُ بها على الجوع احتلابُ

أطبق على هذي المسوخ تعاف عيشتها الكلابُ

قد يكون الغضب عاملا في تدبيج هذه القصيدة، ولكن الصور الشيقة والمعاني المفعمة بالإيحاءات الجمة لا تفارق معظم أبياتها .

وعلى صعيد آخر، نتساءل أليس هذا ما ينطبق على الشعوب العربية اليوم بوجه عام، القابعة والخانعة، وهي ترقب ماذا يفعل حكـّامه بمصائرهم ؟ لقد ديست رؤوسهم فعلا كما يداس التراب!!

بين الغربة والانتماء

- قالت" إنه خـُلق قبل زمانه وفي غير مكانه ".

- قلت" ربما، لكنني أعتقد أن الله يخلق بعض البشر في غير زمانهم ومكانهم تعمدا، لأن مجتمعهم بحاجة إليهم. فإنهم يُخلقون بـ"عقل فاعل" يظل يواكبهم ويغذيهم، بل يعذبهم ويشقيهم، بل قد يعاقبهم مجتمعهم عادة على تمردهم على "العقل المجتمعي" السائد . وهم يُخلقون كذلك خلافا لمعظم أعضاء ذلك المجتمع الذين لا يحملون إلا "عقلهم المنفعل"، ولا يتصرفون إلا بموجب مسلماته التي تعتبر ثابتة بل مقدسة احيانا. فهم يعيشون بانسجام وتوافق مع مجتمعهم الذي يجازيهم على ذلك أفضل الجزاء .

- قالت "ظِـلال" مقتبسة من والدها شعرا : "إنه عاش ابتكارا ً ------ ويعيشون اجترارا".

- قلت: هؤلاء يتعذبون لأنهم يعيشون ممزقين بين الغربة القاتلة والانتماء العنيف .

الغربة تعصف بهم ، وكأنهم من عوالم أخرى، ربما عوالم الجن، عوالم "وادي عبقر" موطن الجن عند العرب القدماء. (ومنه جاءت لفظة "عبقري"، نسبة إلى ذلك. ويبدو أن كلمة "جنيّ" انتقلت إلى اللغة اللاتينية ثم إلى اللغات الأوربية الأحدث ومنها الفرنسية والإنكليزية . فكلمة جيني genie الفرنسية تعني "جنيّ" كما تعني"عبقري". وكلمة genius أو genii ، الإنكليزية، تعني الروح الحارسة للشخص، كما تعني العبقري، أي المتميز ، المبرّز).

فقد عاش شاعرنا العبقري غريبا، ليس فقط حينما كان مسافرا أو لاجئا متنقلا بين براغ وسورية وبقية البلدان العربية ، بل عانى الغربة وهو يغتسل في مياه "دجلة الخير":

يا غريب الدار وجها ً ولسانا ً واقتدارا

أنت شئت البؤس نـُعمى ورُبى الجنات نارا

شئت أن تـُحرمَ من دنيا ترضتك مرارا

شئت أن تهوى الذي غيرك سماه انتحارا

لم تكن فذا ولا كان لك البؤس احتكارا

أنت من بؤس الملايين تـخيرت اختيارا

عبدوا دربك نهجا ً فتعمدتَ العـِثارا

يا غريب الدار منسيا وقد شع ادّكـارا *

ذنبه أن كان لا يُـلقي على النفس ستارا

زمنا حتى إذا الموت طواه فتوارى

واستبدت ظلمة القبر به عاد منارا

(* شع إدكارا ؛ أي شاع ذكره )

هذه الأبيات لا تعبر عن غربة الوطن بقدر ما تتفجر عن غربة الروح.

وأشير، بوجه خاص، إلى الصورة التي يثيرها الشاعر في ذهن القارئ أو السامع حين يقول"عبدوا دربك نهجا فتعمدت العثارا". لماذا "تعمد التعثر" فسقط أو كاد، مع أن الطربق كانت سالكة ومعبدة، بل فرشوا له السجادة الحمراء Red carpet ؟ الجواب؛ أنه كان يتعثر بما كان مخفيا تحت السجادة من عيوب تلك الطريق، بل من شقوق وفتوق وحُـفـَر ٍ . وقد استخدم الجواهري تعبير "تعمدت العثارا"، بالمعنى المجازي، إذ يقصد به هنا ، أنه، وهو سائر في هذه الطريق المعبدة والمفروشة، "تعمد التعثر" لينبه الحاضرين والناظرين والسامعين، بما يستشفه تحت السجادة من أدران وأحزان، بل من دماء وأشلاء. وهذا معنى جديد لا أظن أن أحدا من الشعراء قد سبقه إليه.

ويفسر الجواهري سبب غربته حتى في مجتمعه هو أن " ذنبه أن كان لا يُـلقي على النفس ستارا"، مما يعني أنه كان صريحا في شعره بل قاسيا على نفسه وعلى المجتمع الفاسد الذي يعيش فيه. وهنا يتجلى مفهوم الغربة بأقصى درجاتها.

وهو لذلك يكتب في مقدمة كتاب " ذكرياتي"( الذي أهدته إليَّ كريمته ّ "ظلال " مؤخرا) أنه أراد لكتابه ذاك أن يكون، كما يقول، "نموذجا للانكشاف وللتفتح على الحياة، وللصراع والعراك مع الطبيعة بل مع القدر نفسه، فضلا عن التقاليد والأعراف المألوفة والموروثة والمتخلفة" ويضيف " يداي أعانت يد الحادثات".(هكذا وردت في النص) أي أنه يكاد يساوي بين قوة يديه وقوة يد الحادثات. كما أنه يعني اكثر من ذلك، وهو أنه استطاع ليّ( بالتشديد) "يد الحادثات"، فهو يقول أن مذكراته هذه أنها تتحدث "بكل جرأة عن المراقي الصاعدة والمهاوي المنحدرة، التي شاءت لي نفسي، قبل الأقدار، أن تصعد إلى تلك أو تنحدر إلى هذه. . ." مما يدل على أنه يعتقد بقدرته على تغيير وتعديل القدر. خلافا للرأي السائد في "العقل المجتمعي" العربي والإسلامي، بوجه خاص، الميال عادة للاستسلام للقضاء والقدر.(انظر بحثي في "القضاء والقدر مقابل مسؤولية الإنسان ؛ من تجليات العقل المجتمعي" مجلة" صوت داهش" السنة 11، صيف 2005، ص23-39)

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع