د.عمر الكبيسي
الأستاذ الدكتورعبد اللطيف البدري في ذمة الله
تأبين ومسيرة
لا يحتاج عبد اللطيف البدري إلى تكنيته بالأستاذ أو الدكتور أو الجراح أو المؤرخ لتقديمه أو توصيفه للقارئ وانا انعيه وانقل خبر وفاته ،فالبدري أين ما ذكر أو حل أو عمل أو بحث أو كتب أو درس أو عالج أو تنصب أو تحدث أو حاضر ، بدر يغطي بإطلالته على النجوم المتلئلئة في السماء الصافية وهو الضوء الخافت الناعس الهادئ والساكن في أجواء العصف والإعصار الجارف كما عرفته بعد حين. هو الأول والألمع في الجراحة وهو الأول والأبدع في البحث الطبي بل مؤسسه وهو المرجع والحكمة في كل مأزق أو أزمة أو حالة مستعصية التشخيص في زمانه وهو المرجع في لغات المعرفة والفلسفة ومبادئ الطب من زمن سومر وأكد وهو الذي حصد لثلاثة عقود من الزمن كرسي القيادة في رئاسة أقسام الجراحة وعمادة كليات الطب ومؤسسات البحث والتعليم الطبي ورئاسة الجامعات و الإستيزار في يرعان شبابه في العراق ومن ثم بعد تقاعده في الخليج والأردن وهو الزائر المتفرج على كل مستجد وحديث في كل مراكز البحث والتدريب في كل حدب وصوب في أوج عطاءه وشهرته .
عام 1963 دخلت كلية الطب وكان البدري عميدا لها وقضى بمنصبه ثلاثة أعوام في الزمن المتأجج بالصراعات السياسية في كلية الطب من تظاهرات وإعتصامات وإضرابات وصدامات كان فيها لا يغادر غرفة العمادة ولا يقف على مشهد ومسرح الأحداث
لكنه من خلال معاونيه الذين احسن انتقاءئها كان الحل والضبط والحاكم الناهي خلف الجدران . لم التق البدري وجها لوجه طيلة سنوات الدراسة ولم يحدث انه امتحنني يوما وانا شخصيا لم اسمع له محاضرة في قاعة التدريس ولم اكن من حصته في ردهات الجراحة او صالات العمليات ، فالبدري بعد عام 1963 كان قد غادر الجراحة والتدريس وتفرغ للعمادة والادارة والوزارة والسياسة بعدها ولم التقي البدري في العراق وكان اول لقاء شخصي به في ليفربول عام 1975 في انكلترا خلال زيارته لرئيس قسم الجراحة في المستشفى الجامعي وقدمني الاستاذ شيلد اليه كطبيب عراقي متدرب في المستشفى ، انتفض البدري المتالق بالهندام والمقام فرحا وفخورا بإطراء الأستاذ بحرصي وتفوقي . وبعد عودتي الى العراق كان البدري قد غادر الى دولة الامارات ومن ثم الى الاردن .
في يوم من أيام عام 1988 على ما اذكر مررت كان المرحوم د. يوسف النعمان معي متجهين الى مستشفى الرشيد العسكري في استشارة لأحد المسئولين الراقدين بسبب جراحة في الصدر ، أسرني الدكتور النعمان انه بالأمس التقى الرئيس الراحل صدام حسين وترجاه بشان السماح بعودة البدري الى العراق بسبب معاناته من الوحدة والغربة بعد إجراء التداخل الجراحي لترقيع الشرايين في القلب له وصعوبة وضعه الصحي ومعاناة زوجته الأستاذه د. لميعة البدري ببقائها لوحدها في العراق وصعوبات سفرها اليه وان الرئيس قد وافق على عودة البدري الى العراق ليعيش آخر أيامه (كما قال في حينها ) معززا في العراق بين ذويه وعائلته ومحبيه بعد رحلة عناء طويل من الاغتراب الذي جناه من خلال نشاطه السياسي فترة حكم آل عارف علما أن البدري كان من ضمن أول خلية بعثية تظم خمسة أساتذة أكاديميين في أواخر العهد الملكي منهم عمار الراوي و سعاد خليل البستاني وعبد الكريم هاني ومحمد المشاط كما ذكر لي الفقيد رحمه الله ،وفعلا عاد البدري الى العراق وتعرفت عن قرب عليه فوجدت فيه دماثة الخلق ووقادة الحكمة ورصانة المنطق والحديث بنعومة وأدب وهدوء وتعلقت به اشد التعلق كتعلقه بي وشاء القدر ان يتوفي يوسف النعمان بنفس العام الذي عاد فيه البدري الى العراق وهو في اوج صحته ونشاطه بمرض لم يمهله طويلا وليبقى بعده البدري الذي كان يحرص د. يوسف النعمان على ان لا يتوفى في الخارج بعده بثلاثين عاما وان تتوفي زوجته الدكتورة لميعة البدري رحمها الله بعقد ونصف من الزمن والأستاذة الدكتوره لميعة البدري شريكة حياته وقربيته وزميلته في الكلية الطبية رافقت مسيرته الطبية والعلمية والسياسية وشاركته بهذه المسيرة بما فيها من إنجازات ومسرات ومنغصات ومعاناة لغاية رحيلها وهو يتابع أحداث وتطورات مرضها الطويل ومضاعفاته لغاية وفاتها في عمان .
توثقت صلتي بالبدري وهو يعيش وحدانيته وكانت لقاءاتنا تتكرر في بيته وفي مركز صدام لجراحة القلب حيث كنت اشرف على متابعة حالته وحالة الدكتوره لميعة لسنوات وبالرغم من قساوة المرض وصراعاته الطويلة مع القلب والكلى والهموم لم ينقطع البدري عن البحث والكتابة في تاريخ اللغات القديمة وقراءة الالواح الأثارية المسمارية والأشورية والأكدية ونبش ما تطرقت به في الطب القديم والحكمة والمعرفة فيما طور استخدامه للحاسبة والكومبيوتر و ولعه بها و وجد في استخدام الحاسوب والبرمجة خير بديل عن السفر والترحال لبقاءه على اتصال بالمعرفة واحوال العالم وما يدور بهذا الكون الواسع من احداث وانجازات واحوال وهو جالس في مكتبه بداره الواسعة في حي العدل .
لم يبخل البدري في مساعدتي عند تسلمي إدارة مركز صدام بعيدا عن الأضواء ولم يقبل بتثبيته كعضو مجلس إدارة رسميا بتقديم نصحه وإرشاداته ولا أنسى موقفه معي حين كنا فريقا نكافح الجراثيم والبكتريا في أزمة التلوث وأيامها العصيبة في المركز.
ارتبك البدري بمفاجئة الاحتلال ولم يكن يصدق ما حدث ، أذكر جيدا أن حرصه كان أن لا يمس المجمع العلمي العراقي أو أعضائه ومكتبته ومخطوطاته بضرر ولم يكن من بين من يستنجد به إلا الدكتور أياد علاوي السياسي القادم مع الاحتلال بعدئذ وتلميذه ومسئول البعث في الكلية حينما كان البدري أستاذا وعميدا لها ، كما اقلقه وضع مدينة سامراء ففتح بيته هناك لتهدئة المدينة والتشاور مع أعيانها .
زارني رحمه الله برفقة الدكتور عبد الكريم هاني صباح احد الجمع بعد ما يقارب اربعة اشهر على حدوث الاحتلال طلب مني ان نذهب الى احد مخيمات النازحين من الفلوجة ونوفر لهم ماء صالح للشرب و وسائل طبخ وفعلا كانا يحملان معهم مضخات ماء وأنابيب ومستلزمات ، تصوروا شخصيتين بمستوى أكاديمي عال كل منهما كان وزيرا سابقا لم يكن بإمكانهم بوجود الاحتلال من فعل شئ أكثر من تقديم خدمة للمتضررين من النازحين في مخيمات بغداد وهذا باعتقادهما أقل ما يمكن فعله في تلك الظروف ولعل مشاركتهما قبل ذلك والتطوع في فرق العون الطبي إبان نكبة احتلال فلسطين كانت امتدادا لما فكروا بفعله إبان نكبة احتلال العراق، وبمثل هذا الإحباط تصور البدري واقتنع أن بالإمكان من خلال المشاركة بالعملية السياسية ان يجنب البلاد كارثة كان يتوقعها مستندا بعدئذ لدعم أهله في سامراء وصلاح الدين فرشحه الدكتور أياد علاوي لمقعد في مجلس النواب ولكنه حين أدرك من خلال موقعه هذا انه غير قادر على فعل شئ التزم السكوت والانقطاع واعتذر عن ترأس أول جلسة لافتتاح البرلمان كونه أكبر الأعضاء سناً والتزم بطروحات الدكتور أياد علاوي وتقديم المشورة له وعدم الخروج عن مواقف قائمته وبقى على اتصال مباشر به حتى نهاية دورته، كنت واحدا من كثير من معارفه من الذين تحدثوا معه بقوة مرارا وتكرار عن عدم جدوى استمراره في عملية سياسية بائسة وأمام أطباء وزملاء وكانت إجابته أما السكوت او التبرير بمشاركة العديد من رفاقه بالبرلمان بنفس الاقتناع واعتبر وجوده ضمن التوافق والعراقية في حينها لا يخلو من فائدة لم شملها ورفدها بالمشورة، وهكذا حسبت على البدري هفوة حكيم باهضة الثمن بنظر الآخرين الذين لم يتمنوا له هذه المشاركة.
في العقدين الأخيرين من عمره كان رحمه وديعا لا يعرف الغضب مستمع جيد متسامح ومطيع سواء في القضايا العامة او الخاصة التي تتعلق بصحته وعلاجه فيما كانت ذاكرته القادحة تتلاشى حتى أصبح من الصعب عليه الاستمرار بكتابة مذكراته التي اقتنع مؤخرا بأهمية كتابتها ونشرها ولدي قسم من فصول مسودات هذه المذكرات .
في حياته المهنية والإدارية كان البدري صلبا في المواقف ومتمسكا بما يطرح ورغم انه كان يكلف الدكتور نزار الشاوي والدكتور سعدون خليفة بامتصاص زخم العمل بالكلية ، لكنه كان مركزيا ومهتما جدا بأن تنفذ تعليماته . من المواقف الحادة التي تمسك بأهمية تمريرها هو إصراره على بقاء المستشفيات التعليمية تابعة لوزارة التعليم العالي والتي كان الدكتور عزت مصطفى حريصا على إلحاقها بوزارة الصحة وكذلك تشريع قانون التفرغ الطبي الذي انجز بعد نقله الى وزارة التعليم العالي كما كان شديد الولع والتشجيع على دراسات البحث العلمي والطبي اين ما عمل . له بحوثه الطبية واللغوية والتاريخية وتاريخ الطب وعلم المصطلحات وله كتب مطبوعة في هذه المجالات ستظل إرثا واقداً لأجيال من بعده .
في لقاء في بغداد وفي أمسية في داري نهاية عام 2003 بعد الاحتلال جمعت عددا من الرموز الطبية حضرها الدكتور البدري وعزت مصطفى وتحسين معله وعبد الكريم هاني وفرحان باقر وسعد الوتري ومحمد علي خليل تم التطرق لأحداث مسيرة الطب في العراق واستعيدت ذكريات من هذه المسيرة الطويلة ، تم الحديث عن مرحلة التفرغ الطبي والحاق المستشفيات التعليمية والدراسات العليا والعلاقة مع الأنظمة الحاكمة والمسئولين ،تم التطرق لحادثة اغتيال الزعيم المرحوم عبد الكريم قاسم وذكر تحسين معله دوره في حينها وكيف ان تحسين معله التقى الدكتور البدري صباح اليوم الذي اعقب عملية الإغتيال ورافقه الى الوكر الذي تواجد فيه منفذي العملية وقام البدري بفحص المختفي سمير عزيز النجم المصاب بنزف في صدره بسبب المحاولة ثم فحص بعدها فحص المختفي في حينها صدام حسين حيث كان مصابا بطلق ناري سطحي في ساقه كان قد أخرجه صدام في تلك الليلة بيده و وجد انه لا يحتاج الى أي تداخل في حينها ، والذي حدث ان الرئيس المرحوم صدام بقى يكتب ويذكر ان عبد اللطيف البدري تحجج عند مفاتحته واعتذر عن معالجة المصابين بالحادث ، وقد شكلَّت هذه الحادثة عقدة غبن لدى البدري في حياته مع انه لم يحاول الرد على ما وثقه الرئيس المرحوم صدام حولها حتى في روايته ( زبيبه والملك )، جرى هذا الحديث بحضور الدكتور تحسين معله رحمه الله قبل وفاته وأكد ان البدري لم يعتذر ولم يتردد أبدا حين فوتح وذهب معه الى الوكر وأدى واجبه وقد وجدت من المناسب ذكرها الآن للتاريخ.
خلَّف الدكتور البدري ولدين سمى احدهم (رفل) وهو جراح اختصاصي يعمل في أميركا والسعودية حاليا وسمى الآخر (لهب) وهو مهندس بقي مع عائلته الوفيه يرعى والده وصراعه مع المرض منذ عقدين من الزمن في بغداد وهنا في عمان وله من كلا الولدين احفاد كان البدري مولع بمتابعة دراستهم وتعليمهم . أثارت تسمية (لهب) في حينها جدلا ولماذا لهب ولماذا اختار ان يكون أبا لهب المذموم في القرآن . سألته مرة عن ذلك فقال : لماذا انا ادعوك ( أبو أيمن ولا ادعوك عمر) وأيمن هو اسم ابني الأكبر ، أليس في ذلك تقديرا اكبر لك ، قلت بالتأكيد ، فقال رحمه الله أن ذكر أبو لهب في القرآن جاء تقديرا له حين لم يذكره بإسمه فما الضير بكنية أبو لهب الواردة في القرآن؟ وعلى هذا التأصيل كان البدري يفسر الكثير من بلاغات اللغة وكلماتها .
البدري كان وفيا لزملاءه وأصدقاءه لا يذكرهم إلا بخير حتى مع أولئك الذين وشوا به وأدخل بسببهم السجن قبل انقلاب عام 1963 وخروجه من السجن في يوم الإنقلاب . لم يكن يحمل ضغينة على أحد مع أنه كان صلبا وشديدا في المواقف والأحداث التي واجهته في حياته السياسية ومنها موقفه بجانب الرئيس الراحل المرحوم عبد الرحمن عارف حيث كان الرئيس في زيارة رسمية أثناء حدوث انقلاب رئيس الوزراء الطيار عارف عبد الرزاق الذي استوزره في حينها بحكومته فقرر السفر اليه ومرافقته بالعودة مرورا بالقاهرة وما رافق هذا المرور من مخاطر في حينها .
اليوم برحيل عبد اللطيف البدري رحمه الله تطوى صفحة ومسيرة رجل وعالم وجراح ومؤرخ له بصماته في تاريخ الأسرة الطبية العراقية ومسيرتها ودرس نافع لأطباء امتهنوا الطب وتبنوا قضايا الأمة سياسيا وتأريخيا حاله كحال كثير من لوامع الطب ورجالاته الذين مارسوا السياسة فوفقوا مثل مهاتير محمد وآخرون جلبت لهم السياسة الهموم والمعاناة مثل البدري وتحسين معله والاتاسي وزعين والبيطار ومجيد الرافعي وجورج حبش وجيفارا وغيرهم .
كانت هذه نبذة عن شخصية الاستاذ الدكتور عبد اللطيف البدري في يوم وفاته وهو يتجاوز الثانية والتسعين من عمره تجاوزت اعراف التابين التي تتطرق للسيرة الذاتية والمهنية والتي سبقني على ذكرها الكثير من معارفه ، لكنها تابين وخواطر لما تركته معرفتي به والتي توثقت من خلال ربع قرن من الزمان اطلعت من خلالها على الكثير من اسرار وطبيعة هذه الشخصية الفذة والمتميزة رحم الله الفقيد وشمله برعايته الواسعة واللهم ولديه وعائلته ومعارفه وذويه والاسرة الطبية العراقية والعربية بالصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون .
674 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع