غادَرَنا مُبَكراً للتاريخ والعبرة / ح 16

                                                  

                                                                    مثنى عبيدة

                

      غادَرَنا مُبَكراً .. للتاريخ والعبرة / ح 16


                   

كثيرة هي الأشياء التي غادرت حياتنا مبكراً حتى إننا لم نستطع اللحاق بها من سرعتها ومرورها الخاطف الذي من الممكن جداً أن يبهرنا ويبهجنا أو أن يؤثر فينا سلباً ويترك أثراً لا يمحى على مر الأيام والأعوام .

في أعوام التسعينيات التي ذقنا مرارتها وصعوبة أحداثها وما خلفته من آثار على كافة الصعد في العراق شهدت هذه السنوات تقلبات اجتماعية اقتصادية كبيرة جداً أحدثت خراباً هائلاً في البنيان الأسري والمجتمعي لم يعهده هذا البنيان منذ عقود ٍ طويلة ، فقد تعامل الناس على أساس التقشف في كل شيء وتعودوا هذا الأمر وضاقت سبل الحياة الكريمة أمام الشرفاء والخيرين من أبناء العراق وسط تدني خطير وحاد في أخلاقيات ومبادئ وطنية وإنسانية تربى عليها العراقيون منذ الأزل .

   

كما وجدنا بان أوضاعنا المادية تسير نحو الهاوية حيث أصبح سعر صرف الدينار العراقي الذي كنا نباهي به أسواق العملات أصبح سعر صرفه مقابل الدولار ثلاثة آلاف دينار عراقي مقابل دولار واحد وانهارت العملة الوطنية ومعها أخذ السوق بالاشتعال وتصاعد الأسعار وغد توفير الغذاء للعائلة واحداً من أكبر التحديات التي تواجه الأسرة العراقية وفي هذه الإثناء العصيبة تتطلع الناس إلى أي شيء ينتشلها من هذا الواقع المزري وأيامه الكئيبة وهنا انطلقت بالونه كبيرة كانت ترعاها أيادي خفية للمجتمع العراقي لكنها معلومة في الحس الجمعي المكتوم بالخوف والقهر والجوع نعم ظهر محرر الاقتصاد الداخلي ومن سوف يزرع الابتسامة وينشر الخير في ربوع الوطن .

أنه المحتال الشهير صاحب أكبر عملية احتيال وقتذاك ( سامكو  ) الذي عم صيته الإرجاء وتناقلت أخباره الدوائر والمؤسسات والبيوت وأصبح الكثيرون يتسابقون إلى أن يبيعوا ما تبقى لهم من أجل وضع تعب العمر كله بين يدي هذا المحتال والذي وللعجب العجاب لم تلاحظ تحركاته وأنشطته كافة دوائر الدولة الأمنية والرسمية منها على وجه التحديد في بلدٍ كانت في الأنفاس معدودة والحركات تحصى وكل شيء تحت السيطرة من خلال أجهزة محلية في كل حارة وبيت وشارع وهي معلومة للجميع ولو أنها نفسها لم تسلم من الاحتيال من خلال مشاركة أعضاءها في هذه العملية الكبرى .

   

هكذا سار كل شيء تحت المنظار الكبير للعيون الساهرة حيث تم جمع مبالغ طائلة من العملة العراقية والمطبوعة في سويسرا والتي كانت عزيزة جداً على العجائز وكبار السن لأنهم ما جمعوها من مالٍ حرام ٍ أو سرقة جهد الآخرين أنما جمعت هذه المبالغ بالكد والتعب والصبر الجميل وقد حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا من أجل تأمين مستقبل الأولاد والبنات حتى أذا تم تفريغ ما في جيوب العراقيين والذين قام الكثير منهم ببيع بيته وممتلكاته أو أخذ أموال من أصدقاءه وصديقاته للمشاركة في هذه العملية الاحتيالية والتي أسهمت في تحطيم بيوت ٍ كثيرة من خلال الموت المفاجئ للبعض أو حوادث الطلاق وما جرته من مصائب لا تحصى وغيرها الكثير مما يتذكره كل من عاش تلك الصفحة السوداء المهم بعد كل ذلك وفي أمسية توهم من يتابع التلفاز بأنها ستكون سعيدة إذ بالصور تظهر على التلفاز لرجال الأمن وهم يداهمون غرف ممتلئة بالأموال وكأنها كانت مخبئة في الكهف أو في قعر بئر وليست في بيت من بيوت مرقمة ومعلومة لهم ، وهنا بداء الفصل المؤلم .. قضايا ومحاكم وقضاة وأشغال للرأي العام والخاص في قضية سامكو الذي تبخر أو ابتلعه الحوت أو سجن في غياهب السجن الذي لا يملك مفاتحيه إلا أولي الأمر وهكذا غادرنا حلم أوهمنا أنفسنا بتحقيقه وهنا أتكلم عن من تورط في هذه الخديعة الكبرى ( طبعاً لم نشترك بها ) .

   

تمضي الأيام لنشهد بداية لن يكون لها نهاية أنه فصل  مواسم الهجرة العراقية نحو المجهول حيث انتشرت وقتها عمليات الهروب الجماعية والمنظمة والفردية إلى بلاد المجهول المهم أن نهرب من هذا الوطن الذي ضاقت به سبل الحياة الكريمة وفعلاً ركب البحر من ركب وصعد الجبل من صعد وابتلعت الصحراء من تاه فيها وهكذا نودع أحباباً وأصدقاء وبعضهم يخرج سراً حتى دون وداع بحثاً عن أمل ٍ أو ركض ٌ خلف سراب وهكذا غادرنا الأحباب مبكرين قبل الأوان .

في خضم هذه المأساة الإنسانية غادرتنا الى رب ٍ كريم أرواح ٌ كريمة طيبة من الأعزاء سواءً كانوا أهل أو أصدقاء لم تنساهم الطرقات بعد ، كما غادرتنا قصص حب ٍ طاهرة بريئة لم تكتمل فصولها للكثير من العشاق الذين لم يستوعب أحلامهم وطنهم المفدى بالدماء وغادرتهم أيامهم والعشق والهيام وباتوا يحيون بالذكريات التي تأبى الفراق .

وقتها كنا نحيى مثل كل بيت عراقي يحاول التشبث ببقايا الأمل مستعيناً بالصبر وما تعلمه من معاني كريمة وجمل ، حاولت أن أعمل في وظائف بسيطة تلائم وضعي الصحي ولكن لم أستمر طويلاً بها حيث أغادرها مبكراً طائعاً أو مرغماً.

يعلم الجميع أو هكذا يـُصور لنا بان المرأة حريصة على أيام شبابها وعدم البوح بعمرها ولكن... للرجال هذا الشعور أيضاً حيث كنتُ أفكر باني سوف أقترب من سن الثلاثين عاماً وهو وقت كنت أتمنى أن أصله وأنا متزوج ولي أسرة وأطفال ولكن قدر الله تعالى أن أبلغه وأنا متنقل بين آسرة الشفاء وهكذا أحسست بان خطواتي ثقيلة بطيئة ليست تلك خطوات عهدتها في حياتي ولم أتمناها أن تكون مسيرة لأيام ٍ قادمات ِ هكذا أحسست بمرور أيام شبابي سريعة خاطفة لم أحيها مثل بقية الشباب حتى إني بدأتُ وقتها أنسى أشياء كثيرة وكأني في عمر الهرم والشيخوخة وبقيتُ أدور بين رحى العناية والاهتمام دون أن أقدر أن أرعى أمي أو أحد ٍ من أهلي أو بقية الناس ، نعم كنت ُ جزءً من جيل ٍ سرقت الحرب وأهوالها أجمل أيام العمر ولم نعش شبابنا وغزتنا جيوش الشيب والتجاعيد مبكرة لتعلن وبالضربة القاضية مغادرة الشباب للشباب مبكراً ، وبدأنا نسمع كلمة يا عم من فضلك تنحى عن الطريق ونلتفت ونحن نتصور بأن من يخاطبونه شيخاً كبيراً وإذا بهم يشيرون إلينا ويا لها من مفارقة حينما نعلم بان من خاطبنا بكلمة ( عمو ) هو في عمرنا تقريباً وهنا صدمة أخرى تضاف لتذكرنا بأن جيلنا قد شاخ قد الأوان وبأن من يسبقنا بثلاثين عاماً أو أكثر يتصور إننا في عمره ويحدثنا عن الملك فيصل الأول وغازي وفيصل الثاني رحمهم الله وكأنك كنت تحيى سنين حكمهم الزاهر . وما يعلم من يحدثك بأنك وفي حرب 1973 كنت َطفل تلهو مع الأطفال أو تستقبل الأبطال وعيونك البريئة تبحث عن جواب .....   

في أعوام التسعينيات من القرن المنصرم تعرفتُ على مجموعة طيبة من الإخوة والأصدقاء يتقدمهم أخ وصديق سيكون له أطيب الأثر في حياتي أنه صديقي وأخي عبد الستار موسى سليمان ( أبا خالد ) * والذي كان عنواناً للأخوة والصداقة الحقة لما يمتلكه من مزايا كرم ٍ وطيبة قلب كطفل ٍ صغير ومواقف رجولية تليق بالفرسان .
نخوة وغيرة عراقية تليق بالاصلاء والطيبين من أهل هذا البلد المعطاء ، لقد حاول
و مجموعة من الأصدقاء تأسيس مشروع صغير لكي نستفيد منه وهو مشروع حفظ تقاوي البطاطا في برادات مخصصة لهذا الغرض ثم زراعتها في الموسم الزراعي القادم وفعلاً جمعنا كأصدقاء مبالغ كبيرة وقتها ووضعنا كل تعب السنين في هذا المشروع والذي كنت اقترضت مبلغه من أمي الحبيبة والتي لم تبخل علي بشيء طلبته كل ذلك لكي ترفع من روحي المعنوية نتيجة الضربات والانتكاسات الخطيرة طوال عمري الذي مضى . ( رغم عدم معرفتي بالزراعة وأصولها والفلاحة وخبرتها )... بل قل وأقولها اليوم بصراحة تامة عدم معرفتي وقلة خبرتي بأشياء كثيرة جداً وكيف تأتي الخبرة وأنا وفي عز الشباب وفتوته واكتساب الخبرة والعمل كنت نزيل المستشفيات ولا أستطيع ولا أقو  على حملي جسدي وليس حمل مطرقة أو فأس ، نعم أعترف ألان بان خبرة شاب بعمر المراهقة أو الفتوة أفضل من خبرتي بالكثير الكثير من شؤون الحياة وغالباً ما يتم إيهامي أو خداعي لكوني لا زلت أتعامل كما يسموننا والكثير الكثير من العراقيين  بالمثاليات والأخلاق والقيم التي يبدو أنها أيضاً يـُريدونها ويعملون على أن تغادرنا مبكراً ... وهنا أعلن أيماني وتمسكي بكل شيء طيب كريم تعلمته من هذه القيم حتى لو خسرت...  وضحك علي من ضحك وهو يتوهم بأنه استغلني ولكني أقول له ولغيره بأنك أن ضحكت على الطيبين اليوم.. كن واثقاً أنهم مرتاحي الضمير أما أنت ففي عذاب مقيم وأسألك يا من تضحك على هؤلاء الطيبين بعد أن يصحوا ضميرك كيف ستعتذر لهم وقد غادر بعضهم الدنيا والكثير منهم قد غربته السنين ؟؟؟
نعم هذه القيم والمبادئ تربى عليها العراقيون بمختلف مشاربهم وأطيافهم ودياناتهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية هم أنا وأنت وأنتم أيها الاصلاء الذين نعرف ماذا يعني أن تكون إنسان .... إنسان.. ولا نزكي على الله أحد .

كانت عيون العراقيين ترنوا الى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة علها تصدر قراراً ينقذ الشعب من الجوع والحرمان ويطعم الأفواه التي أغـُلقت وتعلمت الصمت رغم الجراح والهمس الذي يكاد يفتك بالأرواح خصوصاً وأنها قد عرفت بان القرار لن يصدر من بغداد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، حتى وصلنا الى عام 1996 ليعلن العراق موافقته على تصدير النفط مقابل الغذاء وهنا عمت الفرحة الإرجاء وتصور الناس بأنها نهاية للإحزان والأوجاع وسوف تردنا مأكولات مغطاة وبضائع مغذية تملأً الأسواق وفي خضم هذا الفرح انهارت سوق العملات أيضاً وعمت الفوضى التجارية السوق وضربت البيوت بصدمة جديدة حيث أصبح كل شيء قيمته المادية مختلفة عما سبقها من اتفاقات وأسعار وخسرنا مبالغ البطاطا التي لم تزرع بعد وخسرنا وخسرت عائلات كثيرة ( طبع العملة الورقية دون غطاء وتسليم العملة المطبوعة في سويسرا للسلطات ) ومعاملاتها التجارية اليومية في أسواق البسطات التي ظهرت كمصدر رزق يومي للعائلات وهكذا غادرنا مبكراً حلم أخر ليحل مكانه حلم جديد ظهر انه لن يكون إلا طوق سيحكم الرقاب والعراق .
وسط كل تلك التقلبات ضاعت أحلام كثيرة وغادرت من غير رجعة أيام ٌ عديدة جميلة لن يكون لها من عودة حميدة وبينما يتساقط الشعر وينتشر عالم الصلع وتتساقط أسنان وقلاع كريمة عزيزة ...

نجد أنفسنا وقدر غادرنا مبكرين حياة كانت تبدو لنا سعيدة والحقيقة أنها أيضا غادرتنا سريعة جداً حيث دخلنا بعدها نفقاً مظلماً لم نرى في نهايته ضوءً لا لقمرٍ أو مولدة تشتغل طوال النهر ....

هكذا هي الرحلة السريعة والمحجوزة تذاكرها للعراقي الأصيل ... المغادرة المبكرة دون عودة مستقرة آمنة وحياة طبيعية هانئة مثل بقية البشر.
 
هو الشهيد ( عبد الستار موسى سليمان ) رحمه الله الذي غادرنا مبكراً وقد كتبت ُ قصيدة رثاء له عنوانها ( فقيد ُ المواقف ِ).   
وللحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى

 

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع