حدثني الاستاذ صلاح عبد الحميد العاني عن ذكرياته وشجونه من احداث وذكريات قد اصطبغت بلون الحسرة والندم وتلونت بلون الآهات والألم قائلا:
في صيف عام 1942 جاءت طائفة من المجتمع العراقي تسمى الكاولية الذين لا وطن لهم ولا ارض ينتمون اليها, بل يتجولون في كافة البلدان والأمصار ويمتهنون الرقص والغناء ووسائط نقلهم في ذلك والوقت الخيول والحمير.وفي العام المذكور وصلوا الى منطقة (حديثة) ونصبوا خيامهم خارج المدينة ثم هيأ لهم ابناء المنطقة ساحة كبيرة على شاطئ نهر الفرات وتحديدا مقابل مديرية الناحية لغرض عرض اعمالهم الفنية. وقام المتنفذون والمحبون لهؤلاء الكاولية بوضع الافرشة على شكل دائرة كبيرة قطرها عشرون مترا والناس قد جلسوا على شكل دائري ومنع دخول او اصطحاب الاطفال. وفي الجانب الآخر من الدائرة يقف الجوق الموسيقي المؤلف من الرجال والنساء وقارعي الطبول وناقري الدفوف ونافخي المزامير والمغنين وغيرهم. اما في وسط هذه الدائرة الفنية فكانت الراقصات يرقصن وفي ايديهن قطع نحاسية يضعنها في اصابعهن تصدر صوتا رخيما عند الطرق عليها وتسمى الجنبارات. والعادة عند رقص هؤلاء الفتيات كان لباسهن محتشما ويغطي كافة اجسامهن لكن هذه الملابس كانت جذابة ورقيقة وذات الوان زاهية ومغرية وكانت هؤلاء الراقصات يغطّين رؤوسهن بقطة قماش من الحرير يتلاءم مع اللون الذي يلبسنه والعادة الجارية في ذلك الوقت اذا اراد احد الرجال الجالسين ان يستدعي احدى هؤلاء الراقصات الفاتنات برقصهن والجذابات بعفويتهن لتجلس بجانبه من اجل الشهرة والتندر يقوم برفع غطاء الوجه لقاء مبلغ عشرين فلسا وعند سقوط غطاء الوجه من على رأسها تأخذ الراقصة مبلغ العشرين فلسا وتنطلق فورا الى حلبة الرقص لتكمل رقصها هناك علما ان هؤلاء الراقصات كن يضعن غطاء الوجه بطريقة فنية وساحرة فبمجرد لمسه يسقط من على رأسها وتنهض من فورها. وكانت مدينة حديثة محتلة من قبل الانكليز كما هي سائر مدن العراق وكانت القوات البريطانية قد انتشرت بكثافة في هذه المنطقة بسبب الاحوال السياسية العاصفة التي يمر بها البلد في ذلك الوقت. وكان الجيش البريطاني يحتل نصف العالم وقد انخرط في داخله جنود من كافة الجنسيات ومن كل مستعمرات بريطانيا العظمى. فمنهم الهنود ومنهم الباكستانيون وكذلك جنوب شرق آسيا وسنغافورة وجنوب افريقيا وكندا واستراليا. وذات يوم كنت صغيرا وتحديدا في الصف الخامس الابتدائي ذهبت مع بقية اقراني الى هذه الحفلة المقامة للكاولية ووقفنا جانبا متخفين ومبتعدين عن انظار معلمينا وأساتذتنا خوفا من العقاب الشديد ولكني تفاجأت واندهشت وشدني ما كانت تتغنى بة مطربة الكاولية حيث كانت تصدح بكلمات وعبارات تعزز الروح الوطنية وتعزز المشاعر وتلهب النفوس وتبث روح الحماس على جميع المشاهدين والمستمعين وقد علق في ذهني الى يومنا هذا هذه الكلمات من اغنية كانت تتغنى بها. والحفلة كما قلنا هي عام 1942 اي بعد وفاة المرحوم الملك غازي رحمه الله وأخذت تنشد وتقول:
اگعد يا غازي وشوف طببو وطنه سوجر وكركه وسيخ ما هم مثلنه
حيث كانت كلمات هذه الاغنية تنزل في قلوبنا كالسهم وتحاكي مشاعرنا وتتلمس احاسيسنا بقوة. والحقيقة اني اخذت افكر بهذه الفتاة الكاولية والتي لا وطن لها كانت تشعر بشعور وطني وحماس قومي لا مثيل له وتكره الانكليز ووجود المستعمر في بلدها وكذلك فقد كنت معجبا لحديثها وأغنياتها الى يومنا هذا وعلى مر السنين احدث اصدقائي وزملائي بهذه الواقعة وأقارنها بما يحدث من اقوال وأفعال الساسة اذناب المستعمر. فقد كان المرحوم الملك غازي يكره الانكليز بشدة ويبث الروح الوطنية في المجتمع العراقي من خلال انشاء اذاعة في قصر الملح في ابو غريب تبث الاغاني الوطنية الحماسية وتوجه الشعب الى حيث الاستقلال والشموخ. وكانت هذه المطربة تتحاور مع جلالته بصفته قائد الثوار والمجاهدين وقائد الرجال الغيارى وتقول له استيقظ من قبرك يا غازي وشاهد (سوجر) وتعني الجندي الانكليزي و(كركة) وتعني الجندي الهندي و(والسيخ) وتعني الجندي الهندي من ديانة اخرى لأنهم قد احتلوا البلاد وعاثوا في الارض الفساد وأنهم ليسوا مثلنا من عادات وتقاليد وشجاعة وكرم وأخلاق, هذا ما كانت تتغنى به راقصات ومغنيات الكاولية في ذلك الوقت.. وهذا ما يتغنى به مطربونا اليوم من اغنيات هابطة ورخيصة لا قيمة لها سوى الابتذال والسقوط والانحلال.
943 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع