أيام زمان الجزء التاسع / الحرس الليلي ـ الچرخچي

      

      أيام زمان الجزء التاسع /الحرس الليلي ـ الچرخچي

   

                                                     

الچرخچي كلمة تركية استخدمت في اللهجة العراقية، وتعني الحارس الليلي، و(جَرَخ) يعني مدور أو دورة، والاسم جاء من دورانه في الأزقة، أي الدوار الذي يدور بين البيوت في الأزقة والشوارع وهي من(الچرخ)، ويكون اسمه الصحيح كرخ، ومنها مدينة بغداد المدورة أي كرخ بغداد.
ويسمى أحيانا النوبجي، ويعني الذي يأتي بالنوبة، أي بوقت معين أو فترة عمل محددة، وأصله من: 'نوبة جي'، والحراسة الليلية تكون بالتناوب الذي قد يكون في الليل نوبة، من غياب الشمس الى نصف الليل، ونوبة ثانيه يبدا واجبها من نصف الليل الى الصبح، فتكون نوبتين وقد تكون النوبات على حراسة الليل يوم على نوبة ويوم أخر على نوبة ثانيه، وفي ذلك تشرح البغدادية حالها مع حبيبها وكيف تم منعها من الوصول إليه ومشاهدته حيث تندب حظها بقولها "وشلون أشوف هواي داروا عليه سور والقفل من فولاذ والنوبجي يدور"
وتقصد كيف تشاهد حبيبها اذا عملوا سوراً عليه على شكل دائرة، ووضعوا على موضع قفله من الفولاذ ولم يكنفوا بذلك بل أن (النوبچي) يدور حول المكان المقفول الذي يضم الحبيب.
كما يسمونه في جنوب العراق بالبصوانجي أو البصوان، وأحياناً (الوحاش) لأنه يخرج في وحشة الليل. الچرخچي هو الحرس الليلي الذي يبدا عمله منذ المساء، وعندما يستلم منه الشخص المناوب وفي الساعة السادسة صباحا يسمى (مصبحچي ) ويستلم بدوره البندقية (التفگة) والعتاد عندما يقوم بالواجب.
فالچرخچي الذي يتولى الدوران ليلاً بين البيوت للمحافظة عليها من السرقة، وعلى ما فيها ليلاً فهو الخفر أو الخافر الليلي أو الحرس الليلي، وكذلك (البصونچي) اللفظة التركية التي تعني الحارس الليلي واصلها يعود لاسم
(البصاصون) في تاريخ بغداد، الذي يتولون الحراسة ويخبرون عما يحصل فهم أشبه بالمخابرات والاستخبارات،
وخصصت هنا للحراسة والخفارة الليلية، والعسس من (العس) التفتيش أو السير ليلاً، ولازالت أطلال بناية العسس بعد معسكر أبي غريب في الطريق الى الفلوجة، فقد كانت دائرتهم هناك وهم الحرس والخفر الليلي والحرس الليلي تاريخ في الموروث الشعبي البغدادي، بل وسائر مدن محافظات العراق. فالحارس الليلي (الچرخچي) مهنة شعبية تراثية اجتماعية سادت في معظم مدن العراق.
يرجع تاريخ تأسيس قوة الحراس الليليين في العراق، بداية القرن العشرين، ونهاية العهد العثماني، وفترة الإدارة الإنكليزية، ومدة في العهد الملكي، وهم المستخدمون في أعمال الحراسة في الشوارع والطرق والأسواق والمحلات داخل حدود بلديات المدن والقصبات من بيوت ومقاهي وخانات وأسواق، وبضائع وسواها من السرقة، وفقدانها ليلا من اختصاص الخفر الليلي.
في عهد الاحتلال البريطاني استحدث الحرس الليلي مع تشكيلات الشرطة في بداياتها، وقد تم تسميتهم في قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في سنة 1918 بالخفراء العموميين، وفي عام 1924 صدر قانون ضريبة الحراس الليلين المرقم 225، والتي تنص على تخويل أمانة العاصمة ومجالس البلديات، بوضع أحكام فيما يتعلق بوظائف الحراس الليليين ورواتبهم.
في الذاكرة العراقية عموماً أيام التماسك الاجتماعي، والتآلف الحميم الذي كانت تعيشه الأحياء السكنية، كان (الچرخچي) يشكل واحداً من أهم أركانها، يوم كان رمزاً للأمان والطمأنينة في نفوس أبناء المحلة، بل كان واحداً منهم، يحفظ أمنهم وسلامتهم ويحرس منازلهم، ويجول في الأزقة والأسواق يحمي الناس والممتلكات، ويشيع الطمأنينة في قلوبهم بصفارته أو بصوته الجهوري، وهو ينادي على أحد البيوت ينبهم على إقفال بابهم التي نسوا إقفالها، أو كان يناديهم لفتح بابهم لأحد أفرادهم، وهو عائد متأخرا بعد منتصف الليل من العمل أو من سهرة سمر معينة.
تبدأ الحراسة في الوقت المحدد بالتجول في المنطقة، التي تكون أحيانا محلة واحده أو اكثر ، ويجب أن يؤدى الواجب بالملابس الخاكية، إذ لا بد من الحارس شراء بنطلون خاكي وسترة ذات أزرار نحاسيه وارتداء حذاء الخدمة والذي يسمى( البسطال) مع العصا التي تسمى( دونكي) واسمها هذا جاء من عصا الإنجليزي، الذي حينما يضرب شخصاً بعصاه يقول له شتيمة ( دونكي) أي حمار .

                                     

عصا الحارس بجب أن تكون فيها حلقه جلديه كمقبض لها، ويجب إن تكون العصا مرصعه بمسامير، ويجب على الحارس يتمنطق بالخنجر وصافرة جيب سترته، مشدودة بقيطان يعلق في كتفه الأيمن، وعلبة من الجلد لوضع الإطلاقات الخمسة، ومعطف إذا كان الموسم شتاء، وبذلك يتكامل الزي الرسمي للحارس الليلي. ففي هذه الهيئة يجعله جاهزاً لكل المواقف، التي يمكن أن يشاهدها ويحسمها لصالحه كما أن هذه الألبسة والمستلزمات تدخل الخوف في قلب من يفكر بالسرقة، أو ارتكاب غير المشروع فيعزف عما في فكره من مشاريع جريمة.
وعادة يوجد في مركز الشرطة غرفة مخصصه للحراس الليليين، هنالك ورقة مكتوب عليها بعض الوصايا والأوامر، منها عدم جواز اصطحاب الأسلحة الى البيوت، ويجب تسليمها الى مركز الشرطة، ولا يجوز إعطاء السلاح لشخص أخر، حتى ولو كان لغرض إيصاله، ولا يحوز إنابة الغير في القيام بالواجب، وعدم قيام الحارس بواجب حارس أخر بدون موافقة مركز الشرطة.
تحدث قضايا وحوادث وأمور في ليلة الواجب كثيره، لطبيعة عمل الحارس الليلي ومهمته التي يؤديها، وقد انقرض هذا النوع من الخدمة، وانتهى هذا الشكل من الواجب منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أهل المناطق خارج المدن الكبيرة عندما يأتون لزيارة قريب لهم في المدينة، ويسهرون ليلا لأجل سماع صافرات الحراس الليليين، وكانوا يستمتعون بسماع الصفير وصوت الحراس يتنادون فيما بينهم، واحدهم يعرف نفسه للأخر برقمه وبصوته العالي لكيلا يتم اختراقهم، أو انتحال صفتهم من الأخرين.
منذ تأسيس دولة العراق الحديثة (1921) تم ربط الحراس الليليين بمراكز الشرطة، وكانت مهمتهم إعانة الشرطة بحفظ الأمن ومنع وقوع السرقات في مناطق عملهم، وكانوا ويلبسون العقال واليشماغ ويضعون علامة الشرطة على العقال، إضافة إلى ملابس الخاكي، وتم تزويد كل منهم برقم معدني يرمز له ويحمله على صدره. وغالباً ما كان يتم تعيين الشرطة المتقاعدين بوظيفة حارس، ليلي بسبب خبرتهم ومعرفتهم الأمنية والقدرة على استخدام السلاح أن تطلب الأمر، وكان لا يقبل تعيين حارس إلا إذا تجاوز الأربعين من العمر. ومن يرغب في التعين كحارس ليلي إضافة لعمله النهاري رغم ما تتطلبه من مشقة وسهر وكمكسب إضافي، عليه أن يقدم عريضة إلى مدير الحراس ويحمل الشروط المطلوبة: سلامته من الأمراض والعاهات، حسن السلوك وحيازته على الجنسية العراقية بالولادة أو بالتجنس بها بعد مرور خمس سنوات. وعدم خضوعه لخدمة العلم الجندية، وأن يكون على دراية كافية باستخدام السلاح الناري، واذا حصلت الموافقة يرتبط بمركز الشرطة ( قوللغ ) وكان الأجر اليومي للحارس في حينها 45 فلسا أي براتب لا يتجاوز الدينار والثلاثمائة فلسا ويستلمه من مدير الحراس في غرفة داخل القشلة، و توزع الرواتب على الحراس في بداية كل شهر، وبعد التعين يتسلم من عريف الشرطة شارة الشرطة (النجمة الخماسية) ويضعها على العگال والرقم وقطعة نحاسية دائرية برقم الحرس يضعوها على الصدر ويستلم صافرة وتفگة (بندقية) من النوع القديم ذات الزناد الشلخ (الترباس) ومن البنادق التركية القديمة أو الإنكليزية مع خمس إطلاقات (فشگات).

                

الحارس الليلي وهو بملابسه الخاكية، وعقاله الذي يحمل النجمة الخماسية النحاسية (علامة الشرطة)، وعلى صدره شارة مكتوب عليها رقمه، ويعلق البندقية الإنكليزية، وهو يسير في المحلة يتلفت يمينا ويساراً يراقب المنازل ويتأكد من إقفال أبواب البيوت والدكاكين، ويرد بصفارته على صوت صفارة دورية أفراد الشرطة المكلفة بمراقبة الحراس الأهليين.
وأخر الليل يستقبل (الجرخجي) عادة العائدين ليلا من العمل، أو السكارى الذين تلفظهم حانات الخمر والملاهي الليلية، بأصواتهم العالية غير المهذبة وأغانيهم المبتذلة، حيث يتولى هذا الرجل الأمين الساهر على راحة المواطنين، إيصالهم الى بيوتهم.
وعادة في كل سنة وفي صبيحة أول ا يام الأعياد يزور (الجرخجي) أهالي المحلة ليقدم لهم التهاني بمناسبة العيد حيث تبادر عوائل المحلة بالمقابل تقديم العيدية له مع (كليجة العيد).
تحفظ أسلحة الحراس نهارا في مشجب السلاح في المركز (القلّغ)، أو المخفر التابعين إليه، وتوزع عليهم قبل غروب الشمس، من قبل عريف دوريات المركز أو العريف الخفر، ويفتش بدوره على الأسلحة والعتاد، قبل أرسالهم الى الواجبات المعنية لهم، ويدون في سجل المركز اليومي أسماء الذين حضروا، وتسلموا سلاحهم وعتادهم، كما يشرح في السجل الغائبين، ثم يتسلم العريف نفسه أو من يخلفه تلك الأسلحة بعد انتهاء الحراس من واجباتهم صباحاً، مع تدوين ما قد لحق بالسلاح أو العتاد، من ضرر أو نقص في السجل المذكور ، وأجراء التحقيق حالا مع الحارس الذي يسبب ضرراً أو عارضاً بسلاحه أو نقص بعتاده.
والناطور كان الأكثر شيوعاً والى حد قريب في بغداد، للدلالة على الحرس الليلي والخفارة الليلية ومنها (النطاره) أي الحراسة والخفارة لحراسة عادة أكوام الحنطة والشعير، عندما تغزوها الطيور، فيقال ناطور بيدر الحنطة ناطور بيدر الشعير وناطور المنطقة أي حارسها الليلي.
وهناك الكير من الحكايات الطريفة مع الإكرامية التي كانت تعرض للحراس في حالة إلقائهم القبض على لص أو مهرب. ففي أحد الأيام من عام 1925 أخبر أحد الأصدقاء حارس محلة بان هناك أشخاصا يهربون الخمور وخاصة (عرك هبهب) إلى كربلاء. وقد جلس الحارس في الساعة الثالثة والنصف قبل الفجر يرصد المنطقة جيدا. حتى رصد أشخاصا يتحركون من جهة أحد البساتين القريبة من المحلة فأطلق رصاصته و(كبسهم) فوجدت معهم حمارين محملين بأكياس مملوءة بالتبن وفي وسطها قناني الخمور. أخذهم إلى مركز المدينة وكان في حينها مأمور الخفر آنذاك وكان أمله الكبير أن يحصل على إكرامية، إلا أن المهربين قدموا رشوة (دسمة) الأمر الذي جعلهم يستدعون الحارس
المسكين ويهددونه ويطلبون منه ألا يتهم الناس بالباطل،
واضح أن أعمالا كهذه ما كانت تلحق الضرر بالحرس فقط، بل بمجموع الناس والواقع أن صورا كثيرة أتعس كانت تحدث أيام كانت زمرة رجعية تتحكم في رقاب الناس، مستخدمة شتى الأساليب غير المشروعة. وأخيرا يتهيأ لمن يلتقي مع الحارس الليلي. يجده متعبا بعض الشيء. يذكره بالشتاء فيذكرني بالمطر المسائي النازل فوقه وهو يتنقل بين الأزقة. وبالصيف فيذكرني بعذوبة النوم عند الفجر. وتظل ذكراه بأشياء كثيرة.
وهناك حكاية يرويها الجرخجي أو الحارس الليلي عباس صالح العقبي الذي كان يتولى الحراسة ليلاً في محلة كنكيجة حيث يقع قصر سليمة باشا الطرفة التالية "كانت نوبتي في الحراسة في احدى الليالي تبدأ بعد منتصف الليل ويقع قصر سليمة ضمن حراستي وكان هناك يهودي كبير السن يدعى أبو نسيم يخرج مبكراً من الكنيس اليهودي في تلك المحلة ويمر ببيوت اليهود ويناديهم بأسمائهم واحداً واحداً (شاؤول، خضوري، أنور، أبو منشي، لاوي اقعد) ويستدير إلى الجانب الآخر من (العكد) لينادي أسماء أخرى (حسقيل، أبو الياهو، شوميل، ساسون، موشي، زعرور، اقعد صلاة الصبح مليحة ومليح من يصلي الصبح).
وكنت أعرفه جيداً إلا أنى استغربت تلك الليلة خروج امرأة من قصر سليمة في هذا الوقت المتأخر لتمشي خلف (أبو نسيم) وقد ارتبكت عندما رأتني فأسرعت بخطواتها عندها أثارت شكوكي وزادتني شكاً فخامة ملبسها، فلاحقتها ثم أطلقت صفرة قوية من صافرتي وطلبت منها أن تقف.
لحظتها فر أبو نسيم وتوقفت المرأة مرعوبة وحين دنوت منها أخبرتني أنها سليمة مراد المطربة، ولم أكن قد رأيتها من قبل لكني سمعت في الراديو صوتها مراراً فطالبتها بإظهار دفتر الجنسية وسألتها إلى أين تمضين في مثل هذه الساعة؟
فقالت إنها لا تحمل دفتر جنسيتها وإنها ذاهبة لوداع قريبة لها تحتضر وانه يمكنني مرافقتها إلى دار تلك القريبة والتأكد من صحة كلامها فقلت لها إنني لا أستطيع مغادرة منطقتي المسؤول عنها، عندها التفتت إلي وقالت اسمعني إذن واندفعت تغني (يا صياد السمك صيدلي بنية) فتذكرت صوتها في الإذاعة واعتذرت منها."
المصدر:
وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
مجلة صدى كربلاء

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

774 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع