من منارات شرطة العراق اللواء طارق متعب أحمد ومسيرة ٣٠ عاماً في ملاحقة الجريمة

               

من منارات شرطة العراق اللواء طارق متعب أحمد ومسيرة ٣٠ عاماً في ملاحقة الجريمة ،ضحايا وخفايا لجرائم غامضة وحوادث في ذاكرة رجل شرطة متميز

                 

اللواء المتقاعد/ طارق متعب أحمد من ضباط الشرطة الرائعين الذين تركوا بصمات خالدة في تاريخ الشرطة العراقية، وهو من مواليد مدينة الموصل العريقة (محلة باب المسجد)، وكان هو الأخ الخامس لأربعة أخوة ثلاثة منهم امتهنوا العسكرية، ووالدهم كان عسكريا من الذين ساهموا في حرب فلسطين 1948.

الالتحاق بكلية الشرطة:

  

رؤساء عرفاء الكلية حكمت موسى سلمان وطارق متعب 1964

دخل كلية الشرطة بالدورة 19 ضمن عدد 42 من المقبولين بالدورة، ويتذكر المقابلة الأولى له حين تقدم لكلية الشرطة حين دخل على لجنة المقابلة يقول: (حين دخلت على اللجنة التي كانت تضم ثلاثة ضباط على أكتافهم نجوم مضيئة بيضاء تتلألأ، وكنت أرتجف في داخلي وسألني أحدهم عن اسمي الكامل ومدينتي وعمل والدي، وأعقبه الثاني بسؤالي: "يا طارق لماذا تريد أن تكون بالشرطة"؟ فانطلق لساني أحدثه عن إعجابي بمركز الشرطة في محلتي، والذي أمرّ به يومياً، وإن الشرطة تكشف الجرائم وتقدم خدماتها للناس وللوطن، ولذلك أريد أن أخدم بلدي من خلال انتمائي لسلك الشرطة). (وسألني الآخر: "ما هي هواياتك يا طارق؟ "فأجبته "القراءة والرياضة"، وسألني: وماذا تقرأ؟ وبدأت أتحدث عن كتب طه حسين، والسباعي، وإحسان عبدالقدوس، والعقاد، وروايات الشيخ والبحر، ودكتور زيفاغو، وشارلوك هولمز.. وضحك أعضاء اللجنة من إجابتي، واختصرها الذي كان يجلس وسطهم قائلا: "بارك الله فيك يا طارق، إن شاء الله خير". وحين قرأ المذياع من إذاعة بغداد أسماء المقبولين في الدورة (19) وعددهم (42) طالباً، كان اسمي ضمن المقبولين، وكانت الفرحة عارمة ولا توصف أبداَ.

الزعيم أحمد محمد يحيى وزير الداخلية:

ويذكر اللواء طارق في مذكراته بالخير المرحوم الزعيم الركن أحمد محمد يحيى وزير الداخلية في عهد عبدالكريم قاسم، حيث يقول اللواء طارق: "لقد كان لوالدي رحمه الله الفضل الكبير في تحقيق امنيتي ورغبتي عندما غادر الموصل الى بغداد وطلب مقابلة وزير الداخلية آنذاك المرحوم الزعيم أحمد محمد يحيى لأنه كان آمراً لوالدي برتبة مقدم خلال مشاركتهما في حرب فلسطين 1948 حيث استقبله بترحاب وسأله عن أحواله وأولاده، فذكر له تقديمي لكلية الشرطة فأجابه الوزير "والله أنت تستحق كل شيء".

            

       الزعيم الركن احمد محمد يحيى وزير الداخلية

ورغم قلة عدد المقبولين بالدورة 19 وعددهم 42 طالبا، فقد كانت الدورة تضم نخبة رائعة متكونة من جميع النسيج العراقي، ومن كل محافظات العراق، فيهم العربي والكردي والتركماني ومن كل المذاهب دون ان ننتبه لمذهب أي منا فقد كنا طيلة سنوات الكلية الثلاث مثل عائلة واحدة اخوة حقا، يجمعنا سقف واحد في قاعة واحدة.
العمل في القوة السيارة:
ويتحدث عن تخرجه من الكلية، وتنسيب جميع خريجي الدورة الى آمرية قوة الشرطة السيارة وتوزيعهم على افواجها بموجب قرعة عادلة، وكان نصيبه اللواء الثاني في كركوك الفوج الخامس. ويتحدث عن الخبر الصادم الذي تلقاه بعد ثلاثة أشهر من تخرجه الا وهو وفاة والده يرحمه الله تعالى والذي أثَّرَ فيه كثيراً.

الملازم الثاني طارق متعب في القوة السيارة
يقول بعد سنتين من العمل في القوة السيارة، تم اختيار العشرة الأوائل من الدورة ليكونوا ضباطاً معلمين في كلية الشرطة. ولكونه الثاني في التسلسل على دفعته، فقد كان من ضمن المنقولين للكلية، وهناك زامل ضباطاً من نماذج مختارة وتعرف فيها على اساتذته القدامى وزملاء جدد في كلية الشرطة. وجميعهم من القامات الشرطية الكفؤة وكلهم نماذج في الرقي والانضباط والالتزام والمهنية. وقد شغل في الكلية منصبين: أولهما آمر فصيل معلم للطلاب، ومن حسن حظي أنا كاتب المقال هذا أن أكون ضمن الطالبة الذين كان السيد/ طارق متعب آمراً لفصيلهم، ثم من بعد أصبح ضابطا لتدريب الكلية. كانت فترة السنوات الثلاث من 1967 -1969) التي قضاها السيد طارق متعب كما يصفها من أجمل فترات حياته المهنية حيث اتاحت له الفرصة للتعرف على مئات من خريجي كلية الشرطة وكثير منهم صاروا قادة في الشرطة.

       

الملازم طارق متعب مع عدد من ضباط كلية الشرطة 1969

العمل في شرطة الكمارك:
بعد العمل في الكلية، تم نقل السيد طارق متعب ليشغل منصب معاون شرطة كمارك نينوى، وبدأت رحلة جديدة في مكافحة التهريب والتي استغرقت أكثر من خمس سنوات واستغل فرصة وجوده في الموصل ليلتحق بالدراسة المسائية في كلية الإدارة والاقتصاد المسائية (فرع الاقتصاد)، وتخرج بدرجة جيد جدا بمعدل 87% وتم قبوله في جامعة بغداد لنيل الماجستير الا ان نقله الى منصب مدير شرطة محافظة وهو برتبة مقدم منعه من تحقيق غايته في دراسة الماجستير.
شارك في دورة في معهد القادة لضباط الشرطة في القاهرة لمدة عام وقدم بحثا متميزا نال درجة الامتياز وكان بعنوان (التخطيط لمكافحة جرائم التهريب وأثره على التنمية). واستفاد فيه كثيرا من خلاصة تجربته في مكافحة التهريب ودراسته لعلم الاقتصاد.
المناصب القيادية التي شغلها:
شغل اللواء طارق متعب المناصب القيادية التالية:
• منصب مدير شرطة مكافحة الاجرام في الموصل لمدة ثلاث سنوات.
• مدير شرطة محافظة السليمانية: سنتان ونصف برتبة مقدم 1981.
• مدير شرطة محافظة كركوك اربع سنوات برتبة عقيد عام 1983.
• معاون مدير الشرطة العام للإدارة: برتبة عميد 1987.
• مدير شرطة محافظة نينوى: سنتان ونصف برتبة عميد 1988
• مدير شرطة محافظة أربيل: سنة واحدة برتبة لواء.
• مدير شرطة محافظة دهوك: عشرة أشهر برتبة لواء.
• مدير شرطة محافظة بغداد برتبة لواء 1991 الى 1993
• المشرف العام على مديريتي شرطة محافظة بغداد الكرخ والرصافة 1993
• علماً أنه صدر مرسوم جمهوري بتعيينه مديراً عاما للجنسية: الا انه لم يلتحق بالمنصب نظرا لإحالته على التقاعد.
التكريمات التي نالها خلال خدمته في جهاز الشرطة:
• 13 قدم ممتاز.
• 144 كتاب شكر وتقدير.
• 6 أنواط.
الأبحاث التي انجزها:
انجز اللواء طارق متعب العديد من البحوث ومن أبرزها:
• التخطيط لمكافحة التهريب وأثره على التنمية في العراق.
• تأثير الامن على الحالة الاقتصادية.
• الاستراتيجية في الشرطة والعقيدة الأمنية.
• جهاز الشرطة بين الواقع والطموح.
• التخطيط السليم لمكافحة الجريمة.
• بحث في عمليات الشرطة.
• الجريمة المنظمة في المنظور القريب.
• السلاح العشائري بين التوازن والفوضى.
• حماية الملاعب الرياضية في بغداد.
• استخدام رجل الشرطة للسلاح في الدفاع عن النفس.
• خطط كشف الجرائم المهمة: جرائم الراي العام.
• الجهاز الحاضر الغائب.
• جهاز تقليدي.. ام جهاز حديث؟

    

في مؤتمر وبجانبه كل من وكيل وزارة الداخلية ومدير الشرطة العام
العمل في بغداد العاصمة:

وكتب السيد اللواء في مذكراته:
(أن تعمل قائداً لشرطة العاصمة بغداد وفي ظرف استثنائي يمر به العراق وهو يغلي من شماله الى جنوبه بعد غزو الكويت، وتدمير الجيش من قبل قوات التحالف وعلى رأسها أمريكا، لم يكن بالأمر الهيّن، حيث كل شيء في البلد هو استثنائي فهنا الكل يصدر الأوامر بمن فيهم من يتصدر الموقف من أقارب الرئيس صدام حسين واولاد عمه ودائرة المقربين اليه وأعضاء القيادات الحزبية العليا. وهنا في بغداد يصل كل شيء بسهولة الى من يحكم البلاد، وكان عليك ان تعمل بسرعة وتجتهد بلا أخطاء، وأن تعلم كل شيء، ولن يبرر لك أنك التحقت بالمنصب جديداً، أو أنك لا تعرف بأطراف بغداد الممتدة أفقيا على مساحة تقدر بـ 4000 كم 2، والتي تحتوي ملايين البشر، منهم القدامى من أهل بغداد، ومنهم من قدموا من خارجها، وكما كان العمل استثنائيا كان وزير الداخلية كذلك فهو الفريق علي حسن المجيد ابن عم الرئيس، وأحد أعمدة ما جرى في العراق من أحداث بعد غزو الكويت، وهو يمتلك صلاحيات رئيس الجمهورية، وعضو في القيادة القطرية لحزب البعث، ويمكن اعتباره الرجل الاني المؤثر في العراق، إضافة لعشرات المهام والمناصب التي كان يقوم بها ولذا لم أره ولم ألتقيه ابداً إلا في اجتماع عام واحد عقد في قاعة البيان بوزارة الداخلية، وتحدث فيه عن الوضع الأمني في العراق... وقد لمست طيلة فترة عملي، أن وزير الداخلية لا يتدخل في الأمور الصغيرة، ولا حتى عن تفاصيل عمل جهاز الشرطة غلا في الإنذارات التي كانت تحصل مرات ومرات خلال الأسبوع الواحد، وكان عملي يستغرق مني أكثر من 16 ساعة عمل باليوم وامكث في الدائرة أكثر أيام الأسبوع، وقد لفت نظري خلال تلك الفترة انخفاضا ملموسا في عدد الجرائم الجنائية في بغداد ويبدو ان الصدمة وإجراءات القوة قد جعلت بعض المجرمين ينصرفون عن الجريمة في بغداد آنذاك.. وفي أوائل تشرين الثاني 1991 سمعنا أن علي حسن المجيد قد أصبح وزيرا للدفاع، وانه تم تعيين أخ الرئيس صدا حسين من أمه وطبان إبراهيم الحسن وزيرا للداخلية، ولم تستمر خدمتي مع الأول في بغداد الا بضعة أشهر...).

   

يجلس بين اثنين من ابناء دورته المرحوم اللواء اسد العيساوي واللواء كامل النداوي

إحالته على التقاعد:

بعد كل هذه الخدمة المتميزة، في جهاز الشرطة والتي تقلد فيها مناصب حساسة ومهمة، تمت احالته الى التقاعد في سن مبكرة وبرتبة لواء ظلما وتعسفا وسناتي لقصة ذلك فيما يلي.
(أنا وليلى والتاريخ):
تحت هذا العنوان كتب اللواء طارق متعب في مذكراته يروي قصة احالته للتقاعد ظلما وعدوانا وبمزاجية شخصية وهذه مقتطفات مما قاله:
((لم يكن يخطر على بالي يوماً أن حياتي الوظيفية في الشرطة سوف تنتهي بنهاية الفنانة الشهيدة ليلى العطار- المدير العام لدائرة الفنون والفنانة التشكيلية المعروفة والقريبة من أغلب مسؤولي الدولة الكبار.. فعندما أغمضت الفنانة ليلى العطار فقد أغمضوا خدمتي التي زادت على الثلاثين عاما متنقلا بين مختلف محافظات العراق.. فقد كانت ليلة 26 حزيران 1993 عندما وقع العدوان الأمريكي على العراق (عدوان الرجعة كما أطلق عليه بالإعلام حينها) وبعد منتصف الليل وعلمت ان قصفا بالصواريخ الامريكية بعيدة المدى استهدف بناية المخابرات العامة التي كان دار الفنانة ليلى قريبا منها، كانت الساعة تتجاوز الواحدة بعد منتصف الليل ولم انتظر وصول سائقي بل قمت بقيادة سيارتي المدنية وتوجهت لمبنى المخابرات بالمنصور، وعندما اردت الدخول للمبنى فقد اعتذر الحراس بمنع أي شخص حتى وان كان مدير شرطة بغداد، فأكملت السير باتجاه مديرية شرطة المنصور القريبة من محل الحادث والتقيت بالعقيد شوكت الطعان فاصطحبته مع عدد من الافراد من خلال شارع الاميرات الى الجهة الخلفية لبناية المخابرات ولاحظت استهدافها بالقصف، كما تبين ان عددا من الدور المجاورة لمبنى المخابرات قد تعرضت للدمار نتيجة القصف الصاروخي.. وان أحد الدور كان قد دمر بالكامل وهو دار الفنانة ليلى العطار يرحمها الله ودورا أخرى بالمنطقة)..

                  


في الساعة الثامنة التقيت محافظ بغداد السيد خليل إبراهيم في مقر عمله واعطيته تفاصيل الموقف، وفي العاشرة التقيت في مقر الوزارة بالمرحوم اللواء يونس سليمان الوكيل الأمني ومدير الشرطة العام واعطيته تفاصيل الموقف والإجراءات التي قمنا بها وعدت الى موقع مديرية شرطة بغداد وبعد ساعة تبلغنا بقرار الوزير بإحالتي انا واللواء يونس والعميد كامل التكريتي مدير مكتب وزير الداخلية.. وبعدها تم توقيفي في انضباط الشرطة وكتبوا الى الرئاسة بطلب احالتي على التقاعد الا ان الرئاسة ردت بطلب بيان أسباب إحالة اللواء طارق الى التقاعد بالرغم من انه من الضباط المتميزين.. واستشاط الوزير من رد الرئاسة وكان بعض الأصدقاء قد اقترح علىَّ ان اعتذر من الوزير وطبان.. الا انني رفضت قطعيا واجبته "اعتذر عن أي شيء؟ أنا من يجب ان يعتذروا عن توقيفه.. وكتب الوزير ردا غريبا على استفسار ديوان الرئاسة "يحال الى التقاعد لتخاذله وجبنه").. (كنت حينها في حالة نفسية متعبة وصعبة جدا الى ان صدر المرسوم الجمهوري بداية عام 1994 بإحالتي الى التقاعد.. لعدم كفاءتي.. وهذا يعني انني كنت ثلاثين عاما كفؤا وفجأة اكتشف الوزير أنى لم أكن كفؤا؟!!)..
(هكذا ختمت حياتي الوظيفية عام 1994 بصدمة كبيرة (حبس مع احالتي الى التقاعد لعدم الكفاءة؟؟)، رغم أنى خلال مدة عملي في بغداد كنت أتوقع كل شيء، كمدير شرطة في العاصمة الكبيرة التي لا يعرفها الا من عمل بهذا المنصب، حيث عليك ان تعرف عنها كل شيء شوارعها ومحلاتها المهمة وشواخصها وشخصياتها، وان تتعامل مع مسؤولي الدولة بل حتى مع امزجتهم أحيانا، وتفاصيل سكانها الأصليين والوافدين، والتي كنت يوما أجوب فيها من مكان لآخر عند منتصف الليل من كل يوم واطلع على ما يدور في خبايا هذه العاصمة الكبيرة حجما وتعداداً، والتي أحببتها من قلبي وأحببت طيبة أهلها وتسامحهم وتعاونهم فخدمتهم بكل إمكانياتي وطاقاتي وفق مبادئي وقيم الشرف والالتزام والأخلاق)..

        

في احدى الفعاليات الرياضية على ملعب الشرطة 1992

جرائم الغزالية أوائل التسعينات
حدثت سلسلة من جرائم القتل في منطقة الغزالية ببغداد أوائل التسعينات، أثارت الرأي العام وأصبحت تحسب في عداد (جرائم رأي عام) لانشغال الناس بها واحداثها القلق والرعب بين العوائل.
تحدث السيد اللواء طارق متعب (بصفته كان مدير شرطة محافظة بغداد) في وقتها عن تلك الجرائم، بالقول (لا يوجد زمان لم يتخلله وقوع جرائم، كما لا يوجد مكان يخلو من وقوع جريمة ما، فالجريمة سلوك منحرف يتولد في أي مجتمع، ومرض خطير في البنيان الاجتماعي، وعمل سلبي يؤذي المجتمع والدولة، ولذلك تنص الدولة على تجريم تلك الأفعال الجرمية من خلال القوانين. فلا غرابة أن تقع جريمة قتل في منطقة معينة قد تكون غامضة او بشعة في ارتكابها، وان تقع على عائلة كاملة آمنة في دارها، ويكون ضحاياها أطفال ونساء، فهذا مما يثير الناس ويجعل الجريمة محط أنظار المسؤولين والناس في المنطقة. وحتى في المدينة، حيث تسري الشائعات كالنار في الهشيم، وقد يتخذ البعض فيها دون تروٍ ذريعة لتحليل الخطأ لتحقيق مآرب قد تكون سياسية أيضاً. فكيف إذا ما وقعت مثل هذه الجريمة وسبقتها جريمة أخرى مماثلة بنفس المنطقة، ثم تعقبها أخرى.. هذه الجرائم تسمى "جرائم رأي عام" وتهتم بها الشرطة كثيراً، وتحاول منع تكرارها من حيث كشفها بأقصى سرعة، ومن جهة أخرى كرد فعل واقعي وعملي لكل الأقاويل. وهذا ما حدث بالضبط في منطقة الغزالية في العاصمة عندما حدثت ثلاث جرائم كلها جرائم قتل، بشعة وذهب ضحية كل منها عائلة بأكملها وبصورة غامضة).

  

في مؤتمر بالشرطة العامة مع وكيل الوزارة مدير الشرطة العام عبدالمحسن خليل واللواء اكرم المشهداني معاون مدير الشرطة العام للحركات
(وتعتبر الغزالية ضاحية قريبة من ضواحي بغداد ومن الأحياء الحديثة، دورها تضم مختلف شرائح المجتمع ومن الطبقة الوسطى، وبعضهم من الأغنياء، وكانت تعتبر من الأحياء الهادئة والمستقرة وفيها مركز للشرطة يتوسط الحي).
وعندما وقعت جريمة القتل الأولى على دار سكني فيها لم تكن تثير التساؤلات بين الناس سيما وان الجريمة اقترنت بجريمة السرقة، ولكن حين وقعت جريمة أخرى بعد مرور أسابيع من الجريمة الأولى، أدى إلى إثارة قلق الناس،).
وقد استطاعت اللجنة التحقيقية التي تشكلت للتحقيق في القضية الثانية من كشف الجريمة واسبابها، خلال مدة ثلاثة أيام فقط. وتبين عدم وجود علاقة بين الجريمتين.
ولغرض بث الطمأنينة في نفوس الناس فقد تم عرض الحادثتين من خلال التلفزيون مع شرح مفصل وكان الوقع جيدا على الناس.
ولكن في أيلول من عام 1992 حدثت جريمة ثالثة غامضة وذهب ضحيتها عائلة مكونة من سبعة أفراد. وتم تشكيل فريق عمل تحقيقي لكشف هذه الجريمة، وفعلا تم كشفها في وقت قياسي، وأيضا تم عرضها من خلال التلفزيون وأحيل المتهمون للمحكمة كما تم تصوير صدور الحكم على الجناة في ساحة المحكمة.
وتم البحث في أسباب تلك الجرائم والتعمق في دراسة عواملها، وأسباب شيوع استغلال الصفة الأمنية باعتبارها الطريق الاسهل لدخول دور الضحايا لخوف الناس من تلك الأجهزة وبالرغم من التحذيرات الإعلامية المستمرة للمواطنين بعدم السماح بدخول دورهم الا بأمر قضائي وبحضور الجيران ومختار المنطقة.

  

في مؤتمر بالشرطة العامة مع وكيل الوزارة مدير الشرطة العام عبدالمحسن خليل واللواء اكرم المشهداني معاون مدير الشرطة العام للحركات

ويضيف السيد اللواء طارق متعب: (ولأننا نكتب للتاريخ وننصف الحقيقة كما هي وكما عايشناها آنذاك، نؤكد على حقيقة لم تتغير هي انه لم يكن لأية جريمة علاقة بالسياسة ولم يكن للدولة أي يد فيها كما قد يشاع أحيانا). (كما نشهد بانه لا أحد قد تدخل في مجريات التحقيق من اية جهة كانت بل كان اهتمام المسؤولين في اعلى المستويات ومن ضمنهم وزير الداخلية كانوا في غاية الحرص على كشف تلك الجرائم واسبابها ومعرفة التفاصيل عن مرتكبيها الذين لم يكن بينهم سياسي واحد وانه تم إحالة القضايا للمحاكم المدنية العادية وجرت المحاكمات بشكل علني وبحضور ذوي الضحايا وجيرانهم بالمنطقة).
وقد عرض السيد اللواء طارق متعب في مذكراته تفاصيل تلك الجرائم وجرائم أخرى عديدة تمكن من كشفها وربما نعود اليها في المستقبل القريب لأنها تستحق ان تكون دروسا وروايات بوليسية حقيقية.

              

في نادي الشرطة الرياضي يتابع شؤون نادي الشرطة وبجانبه دوكلص عزيز

وتحدث اللواء طارق متعب عن تجربته في الانفتاح على المواطنين ودعوتهم لحضور ندوات مفتوحة من اجل الاستماع الى آرائهم عن عمل جهاز الشرطة، وفي اللقاء الأول حضر أكثر من 150 شخصا من مختلف فئات الشعب بينهم الأستاذ الجامعي والبائع والعامل والمعلم والطالب والطبيب والمتقاعد وتحدثوا بكل صراحة عن مشاكلهم ومعاناتهم وافكارهم ومقترحاتهم.
تحدث اللواء طارق عن اشتغاله وعلاقته بوزراء الداخلية منذ المرحوم سعدون شاكر (1978-1986) مرورا بسمير الشيخلي (1986-1991) ثم علي حسن المجيد (1991-1992) وأخيرا وطبان إبراهيم الحسن (1992-1994) آخر وزير عاصره السيد اللواء، وكان على تماس مباشر معه. فقد تحدث عن الخطة التي طبقها الوزير وسميت باسمه (خطة وطبان) وأول إجراءاتها شطر بغداد الى مديريتين بعد ان كانت بغداد على مدى سبعين عاما صارت مديريتان (كرخ ورصافة)، كما تضمنت الخطة ان تلحق بكل مديرية محافظة جميع فروع الشرطة (من كهرباء وسكك ونفط وحراسات ولكن الخطة لم يكتب لها النجاح.

                                         

فرق الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل تفتش مقر مديرية شرطة بغداد:

(فوجئت في صباح أحد الأيام عام 1992 بدخول لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل التابعة للأمم المتحدة حيث وضعوا صحنا للأقمار الصناعية في فناء المديرية وأجهزة أخرى، وقام المفتشون بتفتيش جميع ارجاء المديرية بما فيها الاضابير والمكاتب، ومشاجب السلاح، وقاعات المنام، وكنا نراقبهم ونحن نكتم غيضنا من تصرفاتهم، وفتشوا مكتبي وغرفة النوم الملحقة به، وفتشوا نفاضات السجاير واعقابها، وفتشوا حتى اشرطة كاسيت في مكتبي تحتوي أغنيات ام كلثوم.. التي كنت استمع اليها في أوقات فراغي، وغادروا المديرية بعد ثلاثة ساعات).

  

في مؤتمر بالشرطة العامة مع وكيل الوزارة مدير الشرطة العام عبدالمحسن خليل واللواء اكرم المشهداني معاون مدير الشرطة العام للحركات

سجل الحوادث اليومية:
من التقاليد الموروثة في جهاز الشرطة هي اصدار إدارة الحركات في كل مديرية شرطة محافظة تقريرا يوميا يطلق عليه (التقرير اليومي) وتذكر فيه جميع الحوادث المسجلة في مراكز الشرطة مهما كانت بسيطة، من المخالفات والجنح والجنايات وكان من المستحيل على مدير المحافظة ان يقرا جميع تفاصيل التقرير اليومي الذي يحتوي مئات الحوادث، لذلك كان مدير الحركات يقوم بالتأشير بخطوط حمراء على اهم الحوادث التي تستدعي اطلاع المدير الأعلى عليها. وكان هناك قسم للإحصاء يقوم بتصنيف الحوادث شهريا ومقارنتها مع الأشهر السابقة، كما يؤشر مناطق حدوثها وساعاتها ونسبة المكتشف من الجرائم المسجلة.
ذكريات محافظة السليمانية:
تم اختيار الرائد طارق متعب ليكون مدير شرطة محافظة السليمانية عام 1981 بعد أخفق ثلاثة مدراء من النجاح في ادارتها، وقد التحق بها وفي اول يوم توجه لديوان المحافظة لمقابلة المحافظ السيد جعفر عبدالكريم البرزنجي. يروي القصة فيقول:

                                 

                  السيد جعفر عبدالكريم البرزنجي

((في عصر ذلك اليوم توجهت إلى ديوان محافظة السليمانية القريب من مديرية الشرطة، واستقبلني المحافظ السيد جعفر عبدالكريم البرزنجي، وكنت أختلس النظر إليه وهو يحدق بي وكان في نفسه حديثاً يكتمه.. ولقد صرّحَ الرجل بما يكتمه بعد تسعة أشهر من التحاقي، عندما زارنا السيد اللواء عبدالخالق عبدالعزيز مدير الشرطة العام، وقام بزيارة المحافظ وبحضور المسؤول الحزبي للمحافظة السيد نجم العراقي، وعدد من كبار المسؤولين.. حيث بادر بالقول:
- أنا أشكرك يا أبو مازن (يقصد اللواء عبدالخالق عبدالعزيز) على الهدية التي أرسلتها لنا!!

  

     اللواء عبدالخالق عبدالعزيز مدير الشرطة العام

فاستغرب المدير العام، لكن المحافظ استمر بحديثه قائلا:
- عندما حضر المقدم طارق مدير الشرطة للسلام علَيَّ في مكتبي أول يوم من التحاقه، كنت أنظر إليه، وأحدّث نفسي: (كيف يا أبو مازن تختار هذا الشاب الصغير لإدارة هذه المحافظة المهمة، وأنت تعلم أن ثلاثة مدراء سبقوه لم يصمدوا كلهم إلا بضعة أشهر؟))
ويستطرد السيد اللواء طارق بالحديث عن واقع الشرطة في محافظة السليمانية عند استلامه منصبه هناك، وكيف كانت هناك حالة من عدم الثقة بأداء الشرطة في السليمانية من جانب الجيش والحزب، وكيف انه سعى لتحسين صورة الشرطة من خلال اتخاذ إجراءات إدارية وضبطية وإنسانية أدت مفعولها في تحسين العلاقة بين الشرطة والأجهزة الأخرى في المحافظة.

               

مدير الشرطة العام اللواء عبدالمحسن خليل يتفقد مديرية شرطة محافظة السليمانية ويبدو الى يساره السيد طارق متعب مدير شرطة المحافظة

وعن الحالة الامنية في المحافظة يتحدث السيد اللواء طارق قائلا:
((في داخل المدينة كان الوضع العام هادئاً، ومؤسسات الدولة ودوائرها تقوم بواجباتها على أكمل وجه نهاراً، في كل المدينة، إلا أن الوضع ليلا كان يتغيَّر حيث تفقد السلطة سيطرتها على كل المدينة باستثناء بعض الشوارع الرئيسية، وكانت مفارز المسلحين تتسلسل ليلا الى المدينة وتقوم بعملياتها المرسومة لها، وقد تصطدم ببعض المفارز والكمائن فتبدأ المصادمة (أو الحفلة الليلية كما كنا نسميها)، اما خارج المدينة فقد كان حزب الاتحاد الوطني (جماعة جلال) هم المسيطرون على الوضع فيها من خلال مفارزهم المسلحة.
وكانت جامعة السليمانية قد أغلقت من قبل السلطة المركزية مما ولّدَ استياءً عاماً لدى الطلبة واهليهم، رغم ان الجامعة كان قد أنفق عليها الكثير من الأموال.
وبدأت أعمل على تغيير وضع الشرطة في المحافظة، وأن أفعل شيئاً مغايراً يعيد الهيبة لجهاز شرطة المحافظة، ولكي أكون قدوة للضباط والمنتسبين، فقد جئت بأهلي وأولادي ليسكنوا معي في الدار المخصصة لمدير شرطة المحافظة، وسجلت أولادي في المدرسة الابتدائية، واعتدت على الضباط الكرد في تولي المهام الأمنية بالمحافظة، وخلال أشهر قليلة بدأت ثمار التغيير واضحة، وعادت الثقة لجهاز الشرطة.. وعملت على التغيير في صميم اسبقيات الواجبات، ولم يعد عمل الشرطة عسكريا فقط، بل اضفت وبعناية واجبات الشرطة في خدمة المواطن وتنفيذ القوانين، وكان العمل المهني هو الأول. ومن الأمور التي ساعدتني على نحقق نجاح الشرطة هو خلق حالة من الانسجام الواضح بين الضباط الاكراد والعرب، من خلال عدم التفريق بينهم إلا من خلال الكفاءة المهنية في الواجب، وحرصت على احضر مساء كل يوم الى المديرية، واستطعت اقناع المحافظ بتخصيص بناية مناسبة لتكون نادياً لضباط ومفوضي المديرية، كما خصص مدير الشرطة العام مبلغا مناسبا كنثرية تصرف لمعاونة المحتاجين والمعوزين. كما حرصت على تعزيز علاقة الشرطة بالجيش من خلال توثيق الصلات الأخوية مع الفرقة العسكرية المتواجدة في مدينة السليمانية، وكذلك مع الأجهزة الأمنية في المحافظة. لقد كانت تجربة إدارتي لمحافظة السليمانية مهمة جدا علمتني النجاح في إدارة مديريات الشرطة في المحافظات التي شغلت قيادة ادارتها فيما بعد (الموصل، كركوك دهوك واربيل).
في أحد الأيام خرجت تظاهرة طلابية نسوية، من احدى ثانويات السليمانية، وكانت تهتف ضد الدولة طلبت من شرطة النجدة تطويق المطقة، وحضرت بنفسي والتقيت بالمتظاهرات ولكوني لا اعرف الكردية فقد استعنت بضابط كردي ليترجم كلامي للمتظاهرات، حيث نصحتهن بالعودة للمدرسة لأن هذه التظاهرة ليست في صالحهن حيث يمكن ان يتعرضن للقوة المفرطة من جانب القوات الأمنية، وفعلا عادت الطالبات الى المدرسة وعدت لدائرتي وأبلغت السيد المحافظ بإجراءاتي وقد فرح الرجل وشكرني على حكمة التصرف. ولكن المفاجأة بعد يومين وردت برقية مباشرة من بغداد تطلب التحقيق معي لعدم استخدامي القوة في تفريق التظاهرة التي تبين أنها كانت تهتف ضد الرئيس والحزب والثورة!!! ولكن المحافظ وقف معي وافهمهم ان مدير الشرطة قام بأداء واجبه وقام بالإجراء الصحيح وسافر المحافظ الى بغداد واقنع المسؤولين بسحب برقيتهم السابقة ووردت برقية لاحقة بإلغاء مضمون البرقية الأولى.
العمل في محافظة كركوك من 1983 الى 1987.
وبعد سنتين ونصف من العمل في السليمانية فقد تم نقلي مديرا لشرطة محافظة كركوك. وكركوك تختلف عن السليمانية ففي حين ان السليمانية سكانها غالبا هم الكرد، اما في مدينة كركوك فيسكنها خليط من الكرد والتركمان والعرب والمسيحيين، وكانوا يتعايشون في وئام ومحبة، كما تعايش آباؤهم وأجدادهم في كركوك التآخي والسلام. أما في اقضية ونواحي كركوك فقد كان يسكن كلا منها أبناء قومية واحدة، ففي جمجمال يسكنها الكرد، وفي الحويجة يسكنها العرب، وفي طوزخورماتو يسكن التركمان، وفي اقضية التون كوبري والرياض وداقوق كان يسكن خليط من الكرد والتركمان. وكان الجميع على صلات وترابط وانسجام ومصاهرة وأمان وسلام حتى دخلت السياسة ففعلت فعلها التفريقي للأسف.
كنت قد تركت كركوك قبل ستة عشر عاما حيث عملت فيها في القوة السيارة بعد تخرجي من كلية الشرطة، ولاحظت بعد عودتي اليها (برتبة عقيد) مقدار التقدم العمراني الحاصل في كركوك،
وتحدث السيد اللواء بصراحة وألم عن عملية الترحيل والتغيير الديمغرافي في كركوك، فقد أثبتت عمليات الترحيل أنها عملية عقيمة وأنها عملية سياسية لتغيير الواقع، فقد كان يمنح الوافد قطعة ارض مع منحة (عشرة آلاف دينار) وتم نقلهم وظيفيا الى كركوك وسكنوا مع عوائلهم في مناطق حددتها الدولة، مع شرط نقل نفوسهم من محافظاتهم الى سجلات كركوك، ومرة أخرة يثبت الزمن أن عمليات التغيير الديمغرافي لا تجدي نفعاً، ما دام المواطن لا يشعر بالانتماء الى الأرض، المدينة وفد إليها طلبا للعيش والسكن.
في كركوك جرائم هزت الرأي العام:
في كركوك وقعت سلسلة من جرائم القتل خلال شهر تموز، وبدأت الشائعات تملأ كركوك والناس في قلق وخوف، سيما وان المدينة معروفة بهدوئها ولم يسبق ان حصلت سلسلة من الجرائم بهذه الكيفية، ودعوت لعقد اجتماع لضباط المديرية ومفوضي التحقيق فيها، ممن وقعت الجرائم ضمن مناطق عملهم، ووضعنا خارطة كبيرة لمدينة كركوك أشرنا فيها على أماكن وقوع الجرائم جغرافيا، واستمعت لتحليلات ضباط المناطق وضباط التحقيق عن تصوراتهم بشأن سلسلة الجرائم هذه، واعددنا خططا تضمنت تحقيق هدفين رئيسين هما:
خطة وقائية: بإعادة توزيع وانتشار الدوريات وبموجب خطة فرعية تفصيلية دقيقة وتقسيم المدينة الى قواطع.
اما الهدف الثاني فكان هو كشف الجرائم التي وقعت في المدينة ووجوب التوصل الى الجناة، وتضمنت الخطة تشكيل فريق عمل يتولى التحقيق في الجرائم واستحصال موافقة السلطة القضائية في المحافظة على تجميع القضايا التحقيقية وتنسيب أكثر من قاضي للعمل مع الفرقة التحقيقية.
وبعد تجميع المعلومات والتحرك على ارباب السوابق، تمكنت اللجنة خلال أسبوع واحد من كشف أكثر من جريمة والقبض على المجرمين ولكن اتضح انه لا توجد صلة بين الجرائم:
الأولى هي جريمة قتل رجل مسن وزوجته خنقاً، وكان للقتيلين أولاد مهاجرون خارج البلاد، ويرسلون مبالغ لوالديهما، وكان أحد الأولاد طلب من والده شراء دار له ليسكنه عند عودته الى كركوك، وكان الوالد يراجع مكاتب الدلالية بحثا عن الدار المناسب وكان يتحدث امام الموجودين بالمكتب العقاري ان نقوده جاهزة لشراء الدار بالنقد فوراً. وقد التقط أحد عمال الخدمة بمكتب العقار هذه المعلومة وسرَّبَها لأصدقائه من الجنود الهاربين العاطلين عن العمل حيث أرشدهم الى دار المذكور. وعند عودة الرجل المسن ليلا وفتحه باب داره دخل اثنان منهم خلفه مباشرة وطالبوه ان يسلمهم النقود التي يرسلها ولده له، فامتنع عن ذلك، فما كان من الشخصين الا تن قاما بخنقه بواسطة حبل كما قتلوا زوجته العجوز، وفتشوا الدار ووجدوا مبلغا من المال موجودا في خزانة الملابس (الكنتور)، وتم التوصل الى عامل الخدمة في مكتب العقار وبمواجهته بالأدلة اعترف بالجريمة بمشاركة أحد أصدقائه وتم القبض عليهما واجراء كشف الدلالة واحيلا للمحكمة ونالا جزائهما العادل.
الثانية: هي جريمة قتل امرأة عجوز تسكن لوحدها في دار قديم في أحد الأزقة المتفرعة عن سوق شعبي، اتضح لفريق التحقيق ان اختها كانت تتردد اليها هي وزوجها العاطل عن العمل، وكان يتصور أنها تحتفظ بمصوغات ذهبية ومبالغ من الأموال، واستغل قيامه بالتردد اليها لوحده لقضاء بعض حوائجها، فقام بقتلها بسكين المطبخ، وفتش دارها ولم يعثر الا على سوار واحد من الذهب مع مبلغ ضئيل سرقهما وخرج من الدار. وقد اعترف المذكور أنه باع السوار الذهب الى أحد الصاغة، وتأكد فعلا ذلك بكشف الدلالة وأحيل للقضاء ونال جزاءه العادل.
الثالثة: جريمة قتل أحد التجار في محله لبيع الاقمشة في شارع تجاري، وسط أسواق كركوك، عمره يتجاوز الخمسين عاما، وبالكشف على الحادث تبين ان مجرات المنضدة في محله قد سرقت والنقود التي فيها، ولم يتوصل مركز الشرطة للفاعل او الفاعلين حيث لم يترك الجاني أي أثر في محل الجريمة. وقام فريق العمل المتشكل للتحقيق بالجرائم، من القبض على المشتبه فيه وهو جندي هارب يبلغ من العمر 25 عاماً.
كلمة لابد منها تطبيق القانون بروحه لا بنصه:
كتب اللواء طارق متعب: ((لو حاكمني القانون في الدول المتقدمة على اجتهادي في بعض القضايا التي كنت اتخذ فيها قراراتي، لأصدر حكماً قاسياً عليَّ، ولو اطلع بعض المواطنين في بعض هذه الدول لِما اجتهدت فيه من قرارات مخالفة لنص بعض القوانين، لوصفوني بأني قد أصلح لأيّ عمل إلاّ أن أكون منفذاً ومشرفاً على تطبيق القانون. ولو حاكمني القانون العراقي لَما أنصفني في النص، لأنني كنت مخالفاً واضحاً له، ولست مخولاً بالاجتهاد في النص! ولكن.. لو حاكمني المنصفون، أو حاكمني أغلب مجتمعنا بتقاليده وأعرافه ونظرته في واقع حياتنا لتفهموا كل قرار اجتهدت فيه وخاصة في بعض القضايا الهامة، بل لصفق لي الكثير منهم لكل قرار جرئ اتخذته، وأنا خالي الوفاض في مخالفتي لنص قانوني أو امر مستعجل لم أقتنع فيه في سبيل إنصاف مظلوم أو الستر على عائلة شريفة من عوائل مجتمعنا المحافظ.. انني أجزم أن روح القانون هو الهدف الذي يسعى إلى حقن الدماء وإشاعة الهدوء والامن والسلام.. وان سبب الاختلاف هو عدم تفهم بعض المجتمعات لأعراف وتقاليد وعادات مجتمعات أخرى مما يجعلهم عاجزين عن تفهم اجتهادي كمسؤول ينفذ القوانين في مجتمع يبدو متناقضاً أحيانا فيرضى لغيره ما لا يقبله على نفسه، كما انه لا يغفر الخطايا لضحاياه!!)).
العمل مديراً لشرطة محافظة نينوى:
عاد اللواء طارق عام 1988 ليعمل مديرا لشرطة المحافظة التي ولد وتربى وترعرع ودرس فيها، ويعرف كل شيء عن أهلها ومحلاتها وشوارعها، وهي مدينة كبار الساسة والوزراء والسفراء والعلماء والفلاسفة والادباء والمفكرين والأطباء والمهندسين ممن تخرجوا منها، فقد تخرج من جامعتها المشاهير من الساسة والوزراء وقادة الجيش والشرطة، واهل الموصل يعشقون العمل في الجيش والشرطة لذلك لا تجد بيتا في الموصل يخلو من ضابط من افراده او من اقربائه.

   

في الموصل كل من المحافظ طاهر العاني ومدير الشرطة العام محسن خليل ومدير شرطة المحافظة طارق متعب

جريمة رأي عام هزت الموصل:
استخبرت الشرطة من الدكتور (ك) باختفاء شقيقه منذ أسبوعين ولم يعثروا عليه، وتبين ان زوجة المفقود سجلت بلاغا في أحد مراكز الشرطة بخروجه من الدار وعدم عودته، وبجمع المعلومات من المنطقة تبين ان الرجل المفقود قد استبدل مكان اقامته اكثر من مرة، بناء على طلب الجيران منه ان يغادر المنطقة، والسبب يعود الى سوء سلوك زوجته التي لها علاقة مشبوهة مع شخص يدعى (س) يرتاد دارها في غياب زوجها. وباستدعائها وتدوين اقوالها أصرت على انه مفقود، ولدى انتقال هيئة التحقيق للكشف على المنزل لوحظ وجود غرفة مقفلة وبسؤالها عنها ادّعت انها متروكة من فترة طويلة، فتم كسر الباب وبالتفتيش عثر على بقعة دم صغيرة متيبسة على أرضية الغرفة وبسؤال الزوجة عن البقعة تلعثمت ولكنها انهارت واعترفت بتفاصيل جريمة قتل زوجها بمشاركة عشيقها، حيث ادخلته الدار، اثناء نوم زوجها فقام المذكوران بقتل المجني عليه بالسكين وبعد يومين قام بتقطيع الجثة وحملها في كيسين، وذهب بسيارته ورماها في النهر. وقد بذل غواصو النجدة جهودا كبيرة في العثور على الجثة المقطعة من أسفل النهر، واعرف المجرمان بجريمتهما وانتشرت أصداء الجريمة بين الناس ونشرت الصحف اخبارا عنها، وقررت محكمة الجنايات الحكم على المجرمين بالإعدام شنقا حتى الموت.. وقد أدى كشف هذه الجريمة الى انحسار في حركة الجريمة بالمحافظة مما يدلل بان كشف الجرائم الغامضة يسهم في انخفاض معدلات ارتكاب الجرائم.
رجال تركوا بصمات في ذاكرة الشرطة:
تحدث السيد اللواء طارق متعب في ختام مذكراته عن الشخصيات التي عرفها خلال خدمته البالغة ثلاثون عاما فقد ذكر عددا من الوزراء ومدراء الشرطة العامين والضباط الذين زاملهم:
الوزير سعدون شاكر (يرحمه الله):
((كنت في عهده مديرا لمكافحة الاجرام في نينوى ولم أكن على اتصال به ولكنني كنت المس فيه رجلا قياديا في الحزب وفي وزارة الداخلية التي قادها أكثر من خمس سنوات، وكان يعتمد على كفاءات الشرطة من القادة في إدارة الجهاز، وتميز انه لا يتدخل في التفاصيل الدقيقة لعمل الشرطة.)).

       

الوزير سمير الشيخلي:

((عضو كبير في قيادة الحزب، وقد التحق بمنصبه متحمسا للعمل مستهدفا احداث نقلة نوعية في جهاز الشرطة ولذا كان يطلع على العمل الميداني للجهاز بأدق تفاصيله، ويبدو ان هذا الرجل كان يقرأ كثيراً عن نماذج القيادة والإدارة في أجهزة الشرطة، ويحاول تطبيقها. اضافة لمبادراته الشخصية وأهدافه التي كان يريد تحقيقها، الا ان واقع الجهاز وامكانياته المحدودة كانت تحول دون ذلك. وجدت الرجل قيادي من نوع متميز وصريح لدرجة الخشية من لسانه، مما جعل كل الجهاز يواصل العمل ليل نهار لتنفيذ الواجبات وتوجيهات الوزير. وكان متابعا حريصا للجريمة وتفاصيلها واحصاءاتها، وهو خريج بكالوريوس إحصاء، فحققت الشرطة في عهده إنجازات جيدة في الحد من الجريمة وكشفها، وكان يكرم المتميزين بل يتصل بهم شخصيا للثناء عليهم ويتابع أي جريمة مهمة في جميع انحاء العراق).
السيد محفوظ محمد عمر بك العباسي (يرحمه الله):
((هو اول مدير شرطة اعمل معه في بدايات عملي في سلك الشرطة، وقد كان قدوة من خلال تعامله الميداني والأخلاقي مع الناس، وفي تأدية واجباته كمدير لشرطة الكمارك ويتميز بالصدق والتواضع والهدوء وكان يفتح ابوابه لاستقبال المراجعين وكان شجاعا في اتخاذ القرار

                                                

اللواء طه الشيخلي (يرحمه الله) فقد كتب عنه الاتي:
((كنت ولا زلت اعتبر هذا الرجل هو الاب الروحي لرجال الشرطة في العراق، وكنت معجبا بشخصيته منذ دخلت كلية الشرطة، وكان يحاضر علينا مادة "المعلومات المسلكية"، كان يلقيها من خلال خبراته وتجاربه في المسلك)).
اللواء عبدالخالق عبدالعزيز:
كتب اللواء طارق عنه الاتي: ((رجل مجرب وانسان يسمع اكثر مما يتكلم، ويحبه الكل، قائدا يمنح من يعمل معه حرية العمل، وهو من اختارني مديرا لشرطة محافظة السليمانية وانا برتبة مقدم، مما اعطاني دعما كبيرا في المحافظة المهمة والساخنة بالأحداث الكبيرة بعد تغيير ثلاثة مدراء لها خلال اقل من عام، كان اللواء أبو مازن رجل هادئ الطباع متدرج في وظيفته ومحترما من الكل، وعلى جميع مستويات الدولة، وفي عهده تم تشريع قانون خدمة قوى الامن الداخلي الذي نقل الشرطة نقلة نوعية)).

                                

اللواء عبدالمحسن خليل الطائي:
((عرفته آمرا لسرية الطلاب في كلية الشرطة العراقية عندما رشحني من غير معرفة سابقة للعمل كمعلم تدريب وآمر فصيل في الكلية، وانا برتبة ملازم، وكان يزورني أينما نقلت حتى أصبح مديرا عاما للشرطة عام 1984 وانا مدير شرطة محافظة كركوك فطلب مني ان أكون معاونا له للإدارة، وبالفعل أصبحت معاونا لمدير الشرطة العام للإدارة وانا برتبة عميد، وفي عهد اللواء محسن سجلت الشرطة العراقية إنجازات متميزة في مكافحة الجريمة وكشفها، بالرغم من ظروف الحرب مع إيران وتقليص عدد الشرطة لدعم المجهود الحربي. ان اللواء أبو علاء جمع الكفاءة والقيادة وحب من عمل معه وكان مدافعا عنيدا عن جهاز الشرطة، وفيا ومحبا للخير.)).

    

اللواء يونس سليمان يرحمه الله:
((عرفته آمر فصيل في كلية الشرطة ثم مساعدا لعميد الكلية، وكنت من اشد المعجبين به في انضباطه واناقته، ثم تدرج في الرتب والمناصب حتى شغل منصب مدير الجنسية العام، وكان متميزا في اختصاصه ثم أصبح وكيلا امنيا لوزارة الداخلية فضلا عن منصب مدير الشرطة العام)).

   

وكتب عن اللواء الدكتور أكرم عبدالرزاق المشهداني:
كتب عنه السيد اللواء طارق متعب الآتي:
((عرفته طالباً في كلية الشرطة، آمرا لفصيله، وكان متميزاً بذكائه وهدوءه، وزاملته في مراكز قيادية في الشرطة فما شغل منصبا إلا وترك بصمة فيه من الخبرة والكفاءة. فهو رجل أكاديمي من الطراز النادر وقامة بارزة من رواد الشرطة العراقية، وكان يشغل منصب معاون مدير الشرطة العام للحركات، ثم مديرا لشرطة بغداد الرصافة، ثم معاونا للمدير العام للبحث والتطوير، وآخر منصب له عميداً لكلية الشرطة، التي ادارها بحكمة وهدوء وتخرج على يديه آلافاً من ضباط الشرطة، ومن صفاته الشخصية الخلق الكريم والتواضع والحياء والوفاء وحب الخير للجميع. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق تم توقيفه مع مجموعة من ضباط الشرطة، بتهمة باطلة أثّرَت عليه نفسياً فغادر العراق وقلبه فيه، ولا زال مستمرا في عطائه بالبحوث والدراسات العلمية.

           

اللواء حاتم على الخلف:
((زاملته ونحن برتبة ملازم في كلية الشرطة وكان أقرب الناس لي ولم نفترق أبداً حتى بعد نقلي من بغداد، فكنا على اتصال دائم، وصار عميدا لكلية الشرطة ثم مديرا عاما للدفاع المدني كان رجلا يتمتع بالكفاءة والحنكة والشخصية القوية وحب الخير والنزاهة والوفاء والرجولة)).
اللواء سوريان توفيق حسين:
((كان ضابطا متميزا في كلية الشرطة ابتدأ امر فصيل وانتهى عميدا للكلية، وكانت له بصمات واضحة على تطويرها وصار رئيسا لاتحاد كرة القدم، ولا يكاد أحدا من جيل الضباط القدامى لا يعرف من هو (سوري) الرجل الكفوء اللامع وشغل أيضا منصب مدير شرطة نينوى ومدير شرطة بغداد الرصافة وهو بحق قامة شرطوية بارزة في تاريخ الشرطة العراقية)).

                 

العميد رياض هاني بهار:
((عمل معي برتبة ملازم في شرطة كركوك فوجدت لديه تميزا منفردا وذكاء حاداً، ورغبة في تطوير العمل علميا فمنحته ثقتي في العمل واشترك في اغلب حوادث كشف قضايا الراي العام، وعمل مديراً للتسجيل الجنائي في بغداد، وانجز الكثير بإمكاناته المتواضعة وكنت وما زلت اعتبره صديقا وفيا ولا زال يقدم الكثير من العطاء في كتاباته كمحلل امني وينشر مقالاته في مختلف وسائل الاعلام. ومن صفاته المحبة والصدق وحب الخير والرجولة والوفاء)).
وقد قَدّمَ للكتاب الأخ اللواء عبدالمحسن خليل محمد بالآتي:
((إن كتاب الأخ اللواء طارق متعب هو عصارة خبراته وجهوده وانجازاته التي حققها خلال سنوات عمله، وبالأخص عمله القيادي في المحافظات التي أدارها بكفاءة واقتدار يشهد له بها المحافظون الذين عمل معهم، وكبار مسؤولي الدولة ووزارة الداخلية.. مسيرة ناصعة ومشرقة ومشرفة تلك هي المسيرة الوظيفية للأخ أبي زياد يستحق أن يفخر بها وتفخر بها عائبته وأحبابه، بل ويفخر بها الوطن وجهاز الشرطة، مسيرة اتسمت بالإبداع والتميز والإنجازات، متمنيا للأخ طارق كل التوفيق في مواصلة مسيرة الابداع وتأليف كتب أخرى التي توثق مسيرة جهاز الشرطة وانجازاته لنتكون توثيقا تاريخيا وعبرة للأجيال تحكي قصص الشجاعة والصبر والايثار والابداع.. مع أطيب تمنياتي بالتوفيق)).

                

ختاما فان كتاب مذكرات وذكريات الاخ اللواء طارق متعب ومسيرة حياته الوظيفية المتميزة على مدى ثلاثين علما والتي ذكر فصولا منها في مذكراته (ضحايا وخفايا: جرائم غامضة وحوددث في ذاكرة رجل شرطة) سيرة عطرة تستحق المجد.. سيرة لضابط افنى شبابه في خدمة الوطن وحفظ الامن وملاحقة الجريمة وكشفها. وكانت له انجازات رائعة وثقها في كتابه الرائع وسنعود في حلقات قادمة باذن الله لننشر بعضا من قصص الجرائم الهامة الغامضة (جرائم الراي العام) التي تمكن اللواء طارق بنباهته وذكائه وحرصه من كشف غموضها. انها سيرة مشرقة ومشرفة تحياتنا للاخ اللواء طارق متعب اطال الله في عمره ومنحه الصحة والعافية.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

885 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع