وقفة امام رحيل الفنان المبدع رافع الناصري

                                       

                             د.سّيار الجميل

     رافع الناصري وتشكيل المشاهد الكونية 1940 ـ 2013

  

فوجئت قبل ايام بحدث جلل تمثل برحيل الفنان العراقي الكبير الاستاذ رافع الناصري الذي اطلقت عليه زوجته الاديبة الشاعرة مي مظفر الخالدي بــ " رسام المشاهد الكونية ."

غاب عنا وهو في توهج عطائه .. وكنت اسمع اخباره ، واترقب جديده ، واستقصي عن صحته ، وكنت اسمع بأنه قد استقر في الاردن بعد رحلة اغتراب صعبة ، ولكنها ناجحة وموفقة مارسها في مساحة من الحرية الفكرية التي كان وكنّا نتشوق للحركة عليها ، وهو يعبر عن حالته اسوة بكل المثقفين والمبدعين العراقيين الذين تلألأت شموعهم في وطنهم وفي مهجرهم ، ولكنها انطفأت في ارض الله الواسعة بعد ان ضاقت بهم الارض والسماء على رحبها .. كانت لي مع الرجل بعض المراسلات مذ التقينا منذ زمن طويل ، وكم كنت اود ان التقي مرات اخرى هذا الفنان المثقف الذي عمل وكتب ورسم بصمت ، وهو يعيش مأساة العراق منذ الولادة حتى الرحيل .. لقد رحل عن عمر يناهز ال 73 يوم السبت 7 كانون الاول / ديسمبر في عمان ، الأردن.

ولد رافع في مدينة تكريت عام 1940 ، ودرس في معهد الفنون الجميلة في بغداد 1956 -1959 . والتحق بالأكاديمية المركزية في بكين بالصين 1959 - 1963 وتخصص في الغرافيك (= الحفر على الخشب ) . و في عام 1963 ،أقام أول معرض لأعماله في هونغ كونغ ، وبعد عودته إلى العراق، درّس في معهد الفنون الجميلة في بغداد. وكان فنّه في تلك الفترة واقعيا تشخيصيا مع مزاولة بارعة للانطباعيات .. لقد تثقف ببغداد بعد ان نمت موهبته في ظل فنانين كبارا ، وغدا الناصري احد اركان حركة الفن الحديث العربي .. تلك الحركة الحداثية التي تطورت في العراق منذ عقد الخمسينيات ، والتي وصلت الى اوج قوتها في السبعينيات بتأثير التأسيس القوي ، وكانت بغداد قد غدت مركزا للفن والثقافة المعاصرة ، وكانت مزدحمة باسماء كبار المثقفين والفنانين والمتخصصين والادباء والشعراء المبدعين . وكان رافع يتحرك مع ابناء جيله من الفنانين

العراقيين الشباب : ضياء العزاوي ، وشاكر حسن آل سعيد، و إسماعيل فتاح الترك ، وكاظم حيدر ، وغيرهم ممن زخرت أعمالهم عربيا في بيناليات الفن العربي الحديث .

كان رافع الناصري فنانا قديرا له خصائصه الابداعية وكانت له مشاركاته الزاخرة في معارض تمتد من بغداد الى الرباط .. او نحو امداء بعيدة في العالم .. وكان الناصري عضوا فعالا في جماعات ومجموعات فنية ، والتي اثراها برؤية جديدة منذ اكثر من اربعين سنة ، مرسخا جملة قيم عراقية جديدة في الفن التشكيلي الحديث ، وغدا مدرسة لجيل لاحق من الفنانين العراقيين ، وخصوصا في فن الغرافيك ..

ان الناصري مدين للثقافة المرئية التي عكست تراث العراق الزاخر ، فضلا عن التأثر بالموروثات العربية ، وكان نهجه واضحا في صنع الفن الذي يتقبل بشكل خاص ممارسات الثقافات و تجارب التخصصات المختلفة . كان قد بدأ حياته في الاطلاع على ممارسات الفن العالمي ، عندما كان طالبا في معهد الفنون الجميلة ببغداد في عام 1959 ، وكانت له تجربته الأكاديمية المركزية للفنون الجميلة في بكين الصين ، حتى العام 1963 ، كما سافر إلى البرتغال عام 1967 ، ودرس الحفر على النحاس في " غرافورا" لشبونة. اذ كان قد حصل على منحة دراسية من مؤسسة كولبنكيان لدراسة التشكيليات في عام 1969.

وبعد عودته إلى بغداد في 1969، أسس جماعة " الرؤية الجديدة " مع عدد من الفنانين المبدعين العراقيين، وشارك في تأسيس تجمّع " البعد الواحد " مع صديقنا الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد. ولقد أسس الناصري عام 1974 فرع الغرافيك في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وتولى رئاسته حتى عام 1989، الذي تفرغ فيه لعمله الفني بعد أن أنشأ " المحترف". ترك بغداد في عام 1991 مهاجرا دون عودة ، ودرّس في جامعة اليرموك بإربد في الأردن. وساهم في 1993 بتأسيس محترف الغرافيك في دارة الفنون في عمّان، وأشرف عليه عدة سنوات. . وفي 1997 ، انتقل الى المنامة ، كي يدرّس في جامعة البحرين ، وأصبح مديرا لمركز البحرين للفنون الجميلة والتراث. وأقام في المنامة عام 1999 معرضه المهم " عشر سنوات... ثلاثة أمكنة ". وهو يعبر فيه عن مثلث جغرافي خلال عشر سنوات من هجره بغداد نحو اقامته في عمّان ومن ثمّ انتقاليته الى المنامة ..

كان الناصري قد اكتشف منذ زمن بعيد جماليات الحرف العربي ، وأدخلها في تكوينات تجريدية، كما اكتشف الأكرليك ، واستعمله بدلاً عن الألوان الزيتية. واستفاد من تجربة لشبونة، واستند في منهجه

الدراسي في معهد الفنون الجميلة على النموذج الأوروبي والذي تدرب عليه طويلا ، وكان هو الفنان العراقي الوحيد الذي ربط بين الشرق والغرب ، وخصوصا عندما كان طالبا في بكين ، ولقد تأثر في لوحاته بأعمال أستاذه هوانغ يو يي التي كان لها تأثير دائم على ابداعه مما أدي به إلى استكشاف عالمه الذي تشكّل من أشكال الخط والكلمات ، مع عبارات كتبها الفنان ، ومن خلالها نال شهرة كبيرة .. وعندما عاد إلى العراق بعد دراسة وتجربة وسفر في أوروبا ، 1965-1969 . غدا الحرف العربي عنصرا رئيسيا في ابداعات الناصري ، فكان ان تميّز بصريا في لوحات رائعة ، تمّ استكشافها من قبل العديد من الفنانين العرب منذ الستينيات في القرن العشرين حتى يومنا هذا.

لقد نجح الناصري في مزجه بين ثقافته الادبية وابداعه التشكيلي وتحرك على مساحة جريئة حقق فيها عراقيا جذبا وشهرة بالرغم من كبته السياسي وآلامه الداخلية كما هو حال كل المثقفين العراقيين الحقيقيين من المستنيرين الاحرار ، ولقد وظف الناصري الشعر العربي في الرسم وتشكيلاته الجميلة ، بما في ذلك أعمال المتنبي وابن زيدون ، والجواهري ، ومحمود درويش، وايتيل عدنان و زوجته مي مظفر الخالدي . كان الشعر قد زاده الناصري جمالا من خلال تقديمه مخطوطا له سحره الاخاذ .. كان الشعر ملجأ للفنان المرهف بكل احاسيسه ، وقد اعتبرته منذ زمن بعيد مهربا للناصري ، الذي قضى جزءا كبيرا من حياته وهو يراقب تدمير وطنه من مكان بعيد اسوة بكل الذين هربوا من الجحيم نحو المجهول بحثا عن اية مساحة صغيرة من الحرية . وخصوصا في أعقاب حربي الخليج الاولى والثانية ..

كان رافع قد انتقل إلى عمان في الاردن برفقة زوجته الشاعرة والكاتبة مي مظفر الخالدي ، وكان يعمل محاضرا في جامعة اليرموك، وهي الجامعة التي كنت قد عملت فيها استاذا ابان التسعينيات من القرن العشرين رفقة بعض الاصدقاء العراقيين ، ومنهم الموسيقار الراحل فريد الله ويردي ، ود. عبد الصاحب علوش ، ود. لمياء الجلبي ، و د. عبد الستار العلي ، و د. عصام داود جبرائيل ، والسيدة ميسون ابو الحب ، و د. راشد الجومرد ، و د. مهند البياتي وغيرهم .

لقد ساهم الفنان الناصري بنشاط فعال في الساحة الفنية العربية المعاصرة من خلال أعماله المكتوبة على فن الجرافيك ، ونشر العديد من اعماله في المجلات العراقية والعربية الحديثة . وعرض الرجل طوال حياته المهنية أعماله في معارض فردية وجماعية ، وشارك في مهرجانات و بيناليات بما في ذلك متحف الفن الحديث ببغداد، ومتحف معهد العالم العربي بباريس؛ والمتحف البريطاني ، و المركز الثقافي العراقي في لندن ، ومتحف

برلين في المانيا ؛ والمتحف الوطني في نيقوسيا ، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة و دارة الفنون في عمان ، ومتحف البحرين الوطني في المنامة ، ومتحف الشارقة ، في الامارات ، وفي مهرجان أصيلة بالمغرب ، وفي بينالي الجرافيك الدولي في فردريك شتاد ؛ ، وفي صالة الجرافيك الدولي الذي ينعقد كل ثلاث سنوات في القاهرة .

أقام رافع الناصري عددا كبيراً من المعارض الخاصة. وشارك في معارض عربية في عواصم عربية وعالمية ونشر عددا من المحفظات الفنية {بورتفوليو}: تحولات الأفق 1980 ، ما بعد الأفق 1982 ، الخماسية الشرقية 1989 ، تحية إلى بغداد 1989 ، الخماسية الشرقية 2 1994 ، تحية إلى المتنبّي 2006 ، من تلك الأرض النائية 2007 ، مكتبة أضرمت بها النار 2007 ... ونشر كتابيه : " فن الغرافيك المعاصر" ، ، 1977 ، و" آفاق ومرايا : مقالات في الفن المعاصر" ، 2005.

رحم الله الفقيد الذي خسرناه .. وكل العزاء لعائلته الكريمة .. كل العزاء للمثقفين والمبدعين العراقيين الذين خسروا زميلا مبدعا .. كما خسره العراق .. سيبقى نجم رافع ساطعا بأعماله التشكيلية وارثه الابداعي الذي تركه بعده ، وهو يحمل كل فلسفته ورؤيته الانسانية للوطن وللكون والحياة ، وسيبقى ذكره يمتد في كل الافاق ..

فصلة من كتاب الدكتور سيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذكريات شاهد الرؤية

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل www.sayyaraljamil.com

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع