
أ. د. نزار الربيعي
مفهوم العدل بين الفكر اليوناني والفكر الاسلامي
يُعدّ مفهوم العدل من أعمق المفاهيم الفكرية وأكثرها حضورًا في تاريخ الفلسفة الإنسانية، إذ ارتبط منذ بدايات التفكير الفلسفي بمحاولة فهم النظام الكوني وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية على أسس تضمن التوازن والاستقرار. وقد شغل العدل مكانة مركزية في الفكر اليوناني القديم، كما احتل منزلة جوهرية في الفكر الإسلامي، إلا أن اختلاف المنطلقات العقدية والمعرفية بين الفكرين أسهم في تباين الرؤية إلى طبيعة العدل ومصادره وغاياته. وبينما انطلق الفكر اليوناني من العقل بوصفه الأداة الأساسية لإدراك العدل وتنظيم المجتمع، ارتكز الفكر الإسلامي على الوحي الإلهي بوصفه المرجعية العليا التي تضبط مفهوم العدل وتمنحه بعدًا أخلاقيًا وروحيًا شاملًا.
في الفكر اليوناني، ارتبط العدل بفكرة النظام والانسجام، حيث نظر الفلاسفة إلى الكون بوصفه بناءً منظمًا تحكمه قوانين عقلية ثابتة. وانعكس هذا التصور على فهمهم للعدل باعتباره تحقيقًا للتوازن بين قوى النفس الإنسانية وبين أفراد المجتمع. فالعدل لا يتحقق إلا عندما يؤدي كل فرد وظيفته الطبيعية دون تجاوز أو تعدٍ على وظائف الآخرين. ومن هنا ارتبط العدل بالفضيلة، وعدّ أساسًا للاستقامة الأخلاقية وللاستقرار السياسي في المدينة.
وقد نظر الفكر اليوناني إلى العدل بوصفه قيمة اجتماعية تهدف إلى تحقيق الخير العام، وليس مجرد مصلحة فردية. فالفرد العادل هو من يلتزم بالقانون ويحترم النظام العام، لأن ذلك يحقق مصلحة الجماعة ككل. كما ميّز الفلاسفة اليونان بين أنماط مختلفة من العدل، كالعـدل التوزيعي الذي يقوم على توزيع المنافع والأعباء بحسب الاستحقاق والكفاءة، والعدل التصحيحي الذي يعالج ما ينشأ من ظلم أو خلل في العلاقات بين الأفراد. وقد أسهم هذا التمييز في تطوير الفكر القانوني والسياسي، وربط العدل بالمساواة النسبية لا المطلقة.
وفي مقابل ذلك، يقوم مفهوم العدل في الفكر الإسلامي على أساس عقدي وتشريعي، إذ يُعد العدل من القيم العليا التي جاء بها الوحي الإلهي، وجعلها مبدأً حاكمًا لجميع شؤون الحياة. فالعدل في الإسلام ليس نتاجًا للتوافق الاجتماعي أو للاجتهاد العقلي وحده، بل هو أمر إلهي ملزم، يرتبط بالإيمان بالله وبالمسؤولية الأخلاقية للإنسان. ويُنظر إلى العدل بوصفه صفة من صفات الله، وواجبًا شرعيًا على الإنسان في أقواله وأفعاله.
ويمتاز التصور الإسلامي للعدل بشموليته واتساع مجاله، إذ يشمل جميع مجالات الحياة، من العبادة إلى المعاملات، ومن العلاقات الفردية إلى النظام السياسي. فالعدل مع النفس يتمثل في تهذيبها وضبط أهوائها، والعدل مع الآخرين يقوم على الإنصاف واحترام الحقوق، حتى في حالات الخلاف والعداوة. كما يؤكد الفكر الإسلامي على أن العدل لا يرتبط بالقوة أو المنفعة، بل بالحق، وهو ما يمنحه بعدًا أخلاقيًا ثابتًا لا يتغير بتغير الظروف.
كما يرتبط العدل في الفكر الإسلامي بمفهوم المسؤولية والمحاسبة، إذ يؤمن الإسلام بأن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وسيُحاسب عليها في الدنيا والآخرة. وهذا البعد الأخروي يضفي على العدل طابعًا روحيًا عميقًا، ويجعله التزامًا داخليًا ينبع من الضمير والإيمان، وليس مجرد التزام خارجي يفرضه القانون أو السلطة. ومن هنا يتجاوز العدل في الإسلام الإطار القانوني ليصبح قيمة أخلاقية شاملة.
وعند المقارنة بين الفكرين، يتضح أن الفكر اليوناني قد أسس مفهوم العدل على العقل والنظام الطبيعي، وربطه بتنظيم المدينة وتحقيق الانسجام الاجتماعي، في حين أن الفكر الإسلامي قد أسس العدل على الوحي الإلهي، وربطه بالإيمان والأخلاق والمسؤولية الفردية والجماعية. وعلى الرغم من هذا الاختلاف في المنطلقات، فإن هناك نقاط التقاء بين الفكرين، أبرزها اعتبار العدل أساس الاستقرار الاجتماعي، وضرورة لتحقيق الخير العام.
وفي الختام، يمكن القول إن مفهوم العدل يمثل محورًا مشتركًا بين الفكر اليوناني والفكر الإسلامي، إلا أن اختلاف الخلفيات الفلسفية والعقدية أضفى على هذا المفهوم أبعادًا متعددة ومتباينة. فقد أسهم الفكر اليوناني في بناء تصور عقلاني للعدل بوصفه نظامًا يحقق الانسجام والتوازن، بينما قدّم الفكر الإسلامي تصورًا شاملًا للعدل بوصفه قيمة إلهية وأخلاقية تحكم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره. ويظل العدل، في كلا الفكرين، شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار وبناء مجتمع متوازن يسوده الحق والإنصاف.

1026 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع