بين قفه الشعائر وفقه الحياة 1 - 2

                                     

                    د. محمد عياش الكبيسي

الشعائر هي العلامات الدينية الظاهرة مكانية أو زمانية أو سلوكية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، ونحو هذا ألفاظ الأذان وصلاة الجماعة والتلبية والتكبير، وكذلك الطواف والسعي ورمي الجمار وإشعار الهدي الخ، وما زال المسلمون يظهرون قدرا كبيرا من الحرص والتنافس الطيب في أداء هذه الشعائر وتعظيمها وهو -لا شك- دليل الإيمان والتقوى، يقول القرآن الكريم: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، ومن مظاهر هذا التنافس كثرة المساجد والتي غالبا ما تكون من أموال الناس وليست من مال الدولة ولا الجمعيات أو المؤسسات، وقد وصل التنافس إلى حد البذخ وربما الإسراف، ومثل هذا الإقبال الشديد على الحج والعمرة رغم التكاليف الباهظة مما جعل الحكومة السعودية تقوم بتقليص العدد رغم مشاريعها المتتالية في توسعة الحرمين الشريفين وأماكن النسك الأخرى، إن هذه المظاهر كلها من حيث الأصل مظاهر إيجابية ينبغي ترسيخها وترشيدها والبناء عليها خاصة أنها تمثل صمام الأمان للحفاظ على هوية الأمة في ظرف نرى فيه أن هذه الهوية تتعرض للتشويش أو الاستئصال من قبل الحركات والمشاريع المشبوهة شرقية وغربية.
لقد جعل الإسلام هذه الشعائر سهلة الفهم والتصور ولا تتطلب نظريات مركبة ولا معقدة، فبإمكان المسلمين على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأعمارهم ومستوياتهم الثقافية أن يمارسوها ويعظموها ويلتفوا حولها، ولا شك أن هذا كله مقصود ومنسجم مع حكمة الشارع ورسالة الإسلام العالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وربما يكون من الخطأ الفادح تثبيط المسلمين عن هذه الروح الشعائرية بدعوى أن المال الذي ينفق على الفقراء أو طلبة العلم أو المشاريع التنموية والتربوية أولى، وهذا وإن كان صحيحا من حيث الفقه لكنه ليس صحيحا من حيث التربية، فقلوب العباد تهوي إلى هذه المشاعر والشعائر بفطرتها وتدينها الصافي (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، وحينما تريد من الناس أن يوازنوا بين هذا وبين الواجبات وأفعال البر الأخرى فإنه يتطلب وعيا دقيقا ونظرة شاملة ولا تكفي الفتاوى والعبارات المقتضبة، وحينما لا يصل الوعي إلى هذه الدرجة فإن قدرا من التردد سيسطر على مشاعر الناس وهو كفيل بإضعاف الحماس والتنافس في الأولى دون القدرة على الوصول إلى مستوى الفعل والبذل في الثانية، وهو ما ذكره الكثير من العلماء في مسألة تحلية المصحف بالذهب والفضة مع وجود الحاجات والواجبات الأخرى.
ومع ما للشعائر في الإسلام من مكانة سامقة، إلا أن الإسلام في أصله رسالة أكبر وأرفع وأعم من الشعائر، إذ هو الرحمة الشاملة لكل العالمين في الدنيا والآخرة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وهذا يتطلب أن يكون الإسلام منهج حياة شاملا بكل تفاصيلها وتعقيداتها، والقرآن نص على هذا المفهوم فقال مثلا وهو يبيّن مسألة القصاص: (وَلَكُمْ فِي الْقَصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، فالحياة الآمنة المطمئنة من أهم مقاصد الشرع، ولذلك امتن الله على أهل مكة فقال (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وجعل المساهمة في إنقاذ الحياة من أعظم القربات كما جعل المساهمة في إتلافها من أعظم الآثام (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).
إن المتمعن في آيات القرآن الكريم يكاد يجزم أن الآيات التي ساقها القرآن للحديث عن الحياة الإنسانية فردا وأسرة ومجتمعا ودولة وأمة قد أخذت القسط الأكبر من آيات القرآن، وأما آيات الشعائر فلا تكاد تجد لها نسبة واضحة مع هذه الآيات، وهذا يتناغم مع طبيعة هذا الدين والذي يتميز عن بقية الأديان بأنه دين نظام وحياة وليس دين طقوس وكهوف وكهنوت، وليست الدنيا عنده في الطريق المعاكس للآخرة وإنما هي محطة على طريق الآخرة ومقدمة لها، والنجاح فيها مؤذن بنجاح الآخرة والعكس بالعكس (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ أَعْمَى).
وقد استنبط العلماء من هذه الآيات والأحاديث النبوية المبينة لها ما سمي بفقه المعاملات، وهو الفقه المعني بشؤون الحياة، ثم انبثق من هذا الفقه ما سمي بالنظم الإسلامية كالنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام التربوي، ولم تكن هذه النظم مجرد نظريات أو اجتهادات شخصية بل كان تجربة ثرية وناجحة أنتجت دولة وحضارة يحق لها أن تتوج بلقب العصر الذهبي في التاريخ البشري كله، ولم تكن هذه التجربة محدودة الزمان والمكان بل كانت ممتدة من الحجاز إلى دمشق وبغداد والإسكندرية والزيتونة وغرناطة ومراكش وسمرقند وبخارى واسطنبول وعلى مدى زمني يزيد على الألف سنة!
والإسلام بهذه التجربة الفريدة غرس منظومة قيمية جديدة تضبط السلوك البشري في شبكته العلائقية الممتدة ما بين عالم الغيب إلى عالم الشهادة لتصل إلى أدق التفاصيل مع الفقير واليتيم والجار والرحم والصديق والبعيد الخ (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) ، و(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، وقد اتسعت هذه المنظومة لتشمل المخالفين لنا في الدين والمعتقد ممن يكذّبون بمحمد ويكفرون بالقرآن (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي أَحْسَنُ)، بل هناك الكثير من الآيات والأحاديث التي جاءت لتنظم علاقة الإنسان بالحيوان والنبات والجماد.
لقد كانت صورة المسلم التي اختزنتها الذاكرة البشرية في تاريخها الطويل أنه ذلك الإنسان النظيف في ثيابه (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) والطاهر في جسده (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) والصادق في لسانه والأمين في يده والرحيم في قلبه والمبدع في فكره والناجح في زراعته وصناعته وتجارته والمنتصر في معاركه، وبهذا دخل الناس في دين الله أفواجا.
أما الشعائر فلم تكن سوى العلامات الفارقة التي تزيّن هذه النجاحات المتنوعة والواسعة وتميّز أصحابها بهويتهم وخصوصيتهم، إنها أشبه بشعارات الجند وراياتهم وحركاتهم المنضبطة وبزاتهم العسكرية التي تفرقهم عن الآخرين، وهذه ضرورة في كل جيش ولكنها لا تصنع النصر إلا بوجود الإعداد العلمي والمعنوي والمادي والجسدي.
لقد انطلق الصحابة الفاتحون -رضي الله عنهم- في شرق الأرض وغربها فكانوا بالفعل البديل الأفضل عن كل تلك الإمبراطوريات العتيقة والعتيدة، وقد تمكنوا بالفعل من تطوير الحياة الإنسانية في كل مجالاتها حتى الطب والفلك والعمران، وقد تمكنوا من اختراع نظم إدارية وسياسية مكنتهم من بسط هيمنة الدولة وقوانينها على أغلب الأرض المسكونة في ذلك التاريخ. أما اليوم فربما تكون مساجدنا أكثر بكثير من مساجد الأولين وأعظم زينة وبهرجا، وكذلك المؤسسات المخصصة لنشر القرآن الكريم ورَقيا وإليكترونيا كتابة وصوتا وصورة، وقل مثل هذا في أعداد الحجاج والمعتمرين والمعتكفين والراكعين والساجدين، وحتى في أعداد الشيوخ والوعاظ والخطباء، بكل تأكيد ليس هذا هو ما ينقص الأمة اليوم

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع