بقلم المهندس/ أحمد فخري
رواية عندما تنزف الزهور- الجزء الاول
بغداد عام 1972
اقططعت زهور خرقة صغيرة من جلبابها وضغطت بها على انفها لتوقف النزيف الذي ما فتئ يقلقها منذ ان خرج آخر وحش آدمي عليها. مشت حافية القدمين بداخل الغرفة المظلمة اين احتجزت لـ 5 ، 6 ، 7 او ربما حتى 8 ايام. فقد توقف عداد الزمن عندها وصار كل ما ترمو اليه هو الخلاص من ذلك الجحيم المستعر الذي ابتلعها ليجعل دنياها تسقط في الهاوية. لماذا فعلت ما فعلت؟ لماذا هربت من قريتها؟ الم يكن الاجدر بها قبول الزواج من نجم الاعور لتبقي على شرفها بدلاً مما حل بها هنا في بغداد؟ الم تكن الآن في بيتها تعودها نساء القرية ليهنئوها على دخلتها بدلاً من العار الذي لحق بها ملوثاً شرفها بهذه الحجرة اللعينة. لقد دنسوا شرفها، اقتحموا جسدها، انتهكوا حرمته وسلبوا عذريتها لتصبح قذرة، آسنة، فاسدة لا تصلح للحياة. لم تعد زهور المدللة التي يعشقها اباها حين كان يجلب لها الهدايا كلما عاد من عمله. هدايا بالرغم من بخس قيمتها الا انها كانت كالجوائز الثمينة، تبقى عزيزة على قلبها. فاحيانا كان يأتي اليها ببعض البلحات عندما يحل موسم حصاد التمر فيضع بين يديها لفافة قماش موردة جميلة. كانت تعتبرها كنزاً نفيساً لأنها من الملك الذي تربع على عرش قلبها. ولما زُجّ به في السجن لاسباب تجهلها اصبحت زهور عرضة للكد والشقاء الذي كانت تُحَمّلها لها امها بما لا طاقة لها به بالرغم من صغر سنها. ولما بلغت الـ 20 قررت تزويجها من نجم الاعور كي "تنستر" ولماذا تنستر؟ هل كانت منكشفة حتى تنستر؟ اف يا امي لماذا فعلت ذلك؟ لماذا لم تسمحي بدخولي المدرسة مثل باقي الفتيات؟ هل كانوا افضل مني؟ هل كنتِ تريدين مني ان ابقى امية مثلكِ؟ والآن انظري ماذا حل بي، ذليلة، مكسورة مهزومة. والآن ما العمل؟ كيف ساخرج من هذا المستنقع الآسن؟ انا في غرفة صغيرة بلا شبابيك اكاد اختنق. ولو خرجت من هنا فكيف ساستطيع تحمل وزر العار الذي التف حول عنقي فيخنقني خنقاً؟ انا لم اعد نقية كما كنت في السابق. كيف ساواصل حياتي وماذا لو عثر علي رجال قريتنا؟ هل سيرجعوني للنيل فيرجموني هناك حتى الموت ام انهم سيوفرون على انفسهم عناء السفر فيقتلوني بمكاني هنا في بغداد؟.
وبينما هي تتجول ببطئ شديد بداخل الغرفة الحالكة البائسة دعست على شيء صلب آلم قدمها الايسر الحافي فصار ينزف هو الآخر. ربما كان مسماراً او قطعة زجاجية فهذا لا يهم الآن. عليها ان تجد مخرجاً لنفسها من حبسها اللعين وستعرف كيف تتعامل مع باقي المصائب تباعاً. فجأة سمعت صوت مفتاح الباب وهو يدور ليدخل عليها سجّانها الاصلع اللعين حاملاً معه قطعة خبز يابسة وصحناً معدنياً. نظر اليها وقال بكل فظاظة،
الرجل : هيا يا ساقطة، تناولي عشائك بالسم الهاري، وإن لم تفعلي فسوف اعود بعد قليل لآخذ الصحن فتبقين جائعة يا فاجرة.
"لقد قال عشائك وهذا يعني انه الليل. كنت اظنها فترة الظهيرة". وضع الصحن على الارض وعاد ليوصد الباب بالمفتاح من جديد. اقتربت من الصحن وتفحصته لتجد بداخله حساءاً بارداً بائساً تصدر منه رائحة زفر مثيرة للاشمئزاز. تناولته رغماً عنها فقط كي تمتلك الطاقة وتقوى على الهرب ولكن كيف ستهرب والى اين؟ هنا خطرت لها فكرة قد تنجيها. اجل قد تنجح هذه المرة بينما فشلت جميع محاولاتها السابقة بالفرار والتي ادت بالمزيد من الضرب والتعنيف. امسكت بالصحن المعدني الفارغ بعد ان شربت كل ما فيه كرهاً ورفعته للاعلى ثم ضربت به يدها اليسرى. آخ... اجل انه ثقيل ومؤلم للغاية لماذا يعملونه بهذا الوزن؟ قد يشج هذا الحارس المجنون فهو اقرع ولا يرتدي عقالاً كما يفعل رجال قريتنا. سوف أضربه بكل قوتي عندما يأتي ليأخذ صحنه الفارغ كما يفعل كل مرة. تمرنت على مسك الصحن من طرفيه وصارت تهوي به في الهواء بقوة وبسرعة كبيرة حتى شعرت انها بكامل استعدادها. ها قد اتى الحارس القذر، انها تسمع وقع اقدامه. وقفت خلف الباب تهيئ نفسها لتنفيذ خطتها. ولما دخل واصبحت صلعته تلمع امام عينيها، هوت بالصحن عليها بكل قوتها فسقط على الارض وهو يصرخ ويلعن ببذيئ الكلام. جثمت فوق ظهره ثم رفعت الصحن من جديد وصارت تكرر ضرباتها المتلاحقة على رأسه 5-6-7 ضربات حتى توقف عن الحراك وسال دمه على الارض. علمت وقتها ان النصر حليفها لانها تمكنت من سجانها. ساهرب الآن، هيا يا زهور تشجعي واهربي. خرجت من باب غرفتها مسرعة لتكتشف ان غرفة احتجازها كانت جزءاً من بيت صغير فيه القليل من الاثاث. حاولت فتح الباب الخارجي لتجده موصداً بقفل غليظ. رجعت الى الغرفة وانحنت على الرجل الاصلع الممدد على الارض وصارت تفتش جيوبه حتى عثرت على سلسلة فيها مفاتيح استلتها منه ثم رفعت الصحن من جديد وهوت به على رأسه مرة اخيرة كي تتأكد من انه لن يستيقظ ويطاردها. رجعت الى الباب الخارجي تعالجه طويلاً حتى انفتح معها ثم ازالت السلاسل الغليظة وخرجت الى خارج الدار. يا الهي، انه مكان مظلم مقفر بعيد عن كل شيء. اين انا يا ترى؟ هل هذه هي نهاية العالم التي كان يتحدث عنها ابي؟ اين انت يا ابي؟ ولماذا ادخلوك السجن؟ لماذا لا تأتي لتنقذني؟ انا زهور، اجل زهور ابنتك حبيبتك المدللة. الآن اريدك ان تنقذني. انا وحدي هنا قليلة الحيلة وبامس الحاجة الى إغاثتك.
خرجت زهور من البيت اللعين ومشت في طريق ترابي مظلم ثم طريقاً آخر يحاذي سوراً مرتفعاً. مشت لاكثر من ساعة كاملة حتى سمعت اصوات سيارات تمر من بعيد. تتبعت الصوت وسط الظلام حتى تبين لها انه شارع عام تمر منه المركبات. يا ترى هل اسلك الطريق الى اليمين ام الشمال؟ بقيت حائرة من امرها. بالآخر قررت ان تسلك الشمال وتتكل على الله. مشيت لاكثر من ساعة اخرى حتى دخلت حياً سكنياً فيه منازل متراصة، لكن احداً لم يكن في الشارع. ظلت تسير وتسير حتى كاد يغمى عليها من شدة العطش. "ماذا لو طرقت باب احد المنازل وطلبت منهم شربة ماء؟ سوف يعطوني الماء بالتأكيد، انهم سيعطوني اليس كذلك؟ الماء ليس غالي الثمن؟ ماذا لو كانوا قساة القلب؟ ماذا لو ارجعوني الى حبسي؟ إذا لم افعل ذلك فسوف يغمى عليّ من شدة العطش وسوف يتشقق لساني وشفاهي من الجفاف". طرقت باب احدى المنازل المتوسطة الحجم لا على التعيين ففتحت لها سيدة اربعينية تبدو عليها النعمة. قالت بهدوء وبصوت خافت،
السيدة : نعم؟ من انت؟ وماذا تريدين؟
زهور : ماء. اريد شربة ماء اثابك الله.
كان نور المصباح الكهربائي خافتاً ولم تتمكن التحقق من ملامحها بشكل جيد لكنها تغلبت على مخاوفها وقالت،
السيدة : ادخلي ودعيني اراك في النور.
خطت زهور بقدميها الحافيتين الى داخل الدار فاصبحت تحت المصباح الكهربائي مباشرةً. نظرت السيدة الى وجهها بوجل كبير وصاحت،
السيدة : يا للهــــــول، هل تعرضت لحادث سير؟ لماذا انت مغمورة بالدم؟ ماذا وقع لك يا فتاة؟
زهور : ماء، حفظك الله وسقاك من ماء زمزم. اريد شربة ماء سيدتي.
السيدة : اجل، اجل تفضلي، هيا ادخلي يا، يا، ما اسمك؟
زهور : اسمي زهور.
السيدة : ادخلي يا زهور. انا اسمي مديحة.
دخلت زهور الى البيت فهرعت السيدة مديحة الى المطبخ لترجع بعد قليل ومعها قنينة زجاجية وكأساً كبيراً صبت فيه الماء ومدته لزهور. شربت الكأس كله وقالت،
زهور : هل لي بكأس آخر سيدتي؟
اخذت مديحة الكأس من يدها وملأته من القنينة الباردة ثم اعطته لزهور ثانية قالت،
مديحة : يبدو انك لم تشربي الماء منذ وقت طويل. هل وقع لك حادث سير؟
شربت الماء كله ثم نظرت الى مديحة وتفحصتها جيداً ثم تذكرت ابوها عندما كان يقول، "استعينو على قضاء حوائجكم بالكتمان" قالت،
زهور : اجل كان حادثاً. ولم يأتي لاسعافي احد.
مديحة : اين وقع الحادث؟ أهو هنا في حارتنا، بشارعنا؟
زهور : كلا، كان بمكان بعيـــــــــــــد، بعيد جداً انه... انه...
هنا سقطت زهور مغشياً عليها. ارتعبت السيدة مديحة من ذلك الموقف وكانت تنوي الاتصال بسيارة اسعاف لكن صوتاً ما بداخلها كان يمنعها من فعل ذلك. لقد تعرضت الفتاة للخطر. دعها تقرر بنفسها. ساقوم بتضميد جراحها هنا. جرجرتها الى غرفة قريبة فيها سرير احادي ووضعتها فوقه بصعوبة ثم احضرت حقيبة فيها مستلزمات الاسعافات الاولية وراحت تعقم الجروح، الواحد تلو الآخر حتى فتحت زهور عينيها من جديد وقالت،
زهور : ابعديهم عني، ابعديهم عني، كفاكم ظلماً ارجوكم، لا اريد، لا اريد، لا تفعلوا بي هذا.
مديحة : اسمعي يا زهور، انت هنا بامان. ولكن من هم الذين اعتدوا عليك؟ أهي عصابة؟
زهور : اجل كانوا اربعة رجال، كلهم من النوع الذي ترينه بالافلام.
مديحة : ماذا تقصدين يا زهور؟ فسري لي ما حدث، فانا لا افهمك لان كلامك مبهم.
زهور : كانوا يرتدون بدلات نظيفة تفوح منهم روائح عطرة وكانوا يتناوبون علي ويفعلون فعلتهم.
مديحة : ماذا كانوا يفعلون؟ هل كانوا يضربونكِ؟
هزت زهور برأسها ثم نظرت بوجه مديحة وقالت،
زهور : كانوا يأخذوني، كانوا يأخذوني كانوا يأخذوني.
قالتها وهي تنفجر بالبكاء.
مديحة : يا الهي هذا شيء جلل لا يمكن تصديقه. ولكن كيف وقعت لك كل تلك الاصابات والكدمات إذاً؟
مسحت زهور دموعها وقالت،
زهور : كانوا يأتون الى البيت الذي احتجزوني فيه هم الاربعة سوية واحياناً يأتي واحدهم بمفرده. كان لديهم حارس يحرسني في غيابهم ليمارسوا معي عملهم المخزي. وعندما يكون الحارس بمفرده بالنهار كان يزودني بالطعام واحياناً يأخذني هو الآخر وإذا رفضته كان يضربني ضرباً مبرحاً. تركوا لي بالغرفة علبة معدنية فارغة اقضي بها حاجتي. كنت اعيش في جحيم، جحيم. وان رفضتهم او اعترضت عليهم كانوا هم ايضاً يوسعوني ضرباً وتجريحاً بشرفي وبكرامتي.
مديحة : لا يمكن تصديق ذلك. كيف يستطيع انسان ان يفعل ما فعلوه بك يا مسكينة؟ هؤلاء وحوش بشرية، سوف اتصل بالشرطة الآن فوراً وسوف اخذ لك حقك.
زهور : ارجوكِ لا تفعلي ذلك. اتوسل اليك سيدتي، انت سترميني بمخالب الضبع من جديد. فاحدهم كان ضابطاً بالشرطة. سوف يعيدني الى الحبس فيواصلوا الاعتداء علي من جديد. لا اريد العودة الى هناك. ارجوك سيدتي.
مديحة : ما هذا الكلام؟ ماذا تقولين يا زهور؟ مجموعة من رجال الشرطة يقومون بعمل مشين مثل هذا؟
زهور : لقد كان احدهم فقط من الشرطة، اما الباقين فلم يكونوا رجال شرطة. والآن اقول لك شكراً سيدتي لانك سقيتيني. سارحل الآن.
وقفت زهور كي ترحل فامسكت بها مديحة وقالت،
مديحة : اين ستذهبين الآن بمثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ الديك احد في بغداد؟
زهور : كلا، لكني لا اريد ان اثقل عليك اكثر من ذلك.
مديحة : اسمعي مني يا ابنتي. انا اعيش وحدي بهذا البيت الكبير. وسوف لن تثقلي علي بشيء. ابقي معي حتى طلوع النهار على الاقل.
زهور : ولماذا تعيشين وحدك؟ هل انت ارملة؟
مديحة : لا، انا لست ارملة. بل متزوجة، لكن زوجي قد تزوج عليّ زوجة ثانية لانني لم انجب له الاولاد. والآن هو يعيش مع زوجته الجديدة التي خلفت له ثلاثة اطفال والرابع بالطريق. اما انا فهو يزورني بين الحين والآخر فقط كي لا يلومه الناس.
زهور : ولماذا تقبلين بهذا الوضع؟ لماذا لا تتطلقي منه؟
مديحة : انه يتمنى لو انني اطلب الطلاق منه حتى يخلص من كلام الناس. وبما انني اصبحت بسن الاربعين، صار الاجدر بي ان امارس عملي وابقى ببيتي.
زهور : لو تأذنين لي بالسؤال، ماذا تعملين سيدتي؟
مديحة : انا اعمل كمحامية. وزوجي قاضي بالمحكمة.
مديحة : قاضي بالمحكمة ويفعل بك كل ذلك؟ يا له من انسان نذل.
مديحة : ماذا نفعل؟ انه شرع الله يا ابنتي. رضيت بقدري لانني لا انجب الاولاد.
زهور : ولماذا لا تبقى معك احدى اخواتك او اقاربك؟
مديحة : ليس لدي اخوات ولا اقارب في العراق كلهن توزعوا في كندا وبريطانيا والسويد.
زهور : يا حبيبتي يا سيدة مديحة. كم انت تكابدين.
بدأت الدموع تنهمر من عيني زهور. فنظرت اليها مديحة وقالت،
مديحة : عجبي عليك يا صغيرتي، تعرضت لكل ذلك الظلم والاغتصاب، وتبكين على حالي؟ كم انت حنونة حبيبتي!
زهور : ومتى يأتي لزيارتك بطل الابطال؟
مديحة : في بداية كل شهر. يجلس عندي لساعة او ساعتان حتى تهاتفه زوجته الثانية فيركض اليها كالطالب النجيب عندما يدق الجرس. والآن حبيبتي زهور، ادخلي الحمام واغسلي عنك كل همومك وسوف احضر لك بدلة نوم من عندي كي تنامي هنا. وغداً سيكون لنا حديث آخر.
زهور : شكراً لك واطال الله في عمرك سيدة مديحة.
مديحة : ارجوك نادني مديحة وحسب.
زهور : حسناً مديحة وانا اسمي زهور حسين.
مديحة : امر غريب حقاً. هناك مطربة عراقية تدعى زهور حسين. اتعرفينها؟
زهور : اجل اعرفها جيداً، والدي كان يحبها كثيراً وكان يطرب لاغانيها عندما تذاع بالراديو. ولما جئت الى الدنيا قرر ان يسميني زهور على اسمها، وبما ان والدي يدعى حسين العتبي، اصبحت انا زهور حسين العتبي.
مديحة : اسم جميل. والآن هيا يا زهور، خذي هذه الدشداشة والمنشفة وتوجهي الى الحمام فوراً فرائحتك بشعة لا تسر صديق ولا عدو. هيا قومي يا ابنتي.
دخلت زهور الى الحمام وراحت تزيل ملابسها من على جسدها الواهن. البعض من الملابس كانت ملتصقة بجسدها بسبب الدم الجاف من اثر الجروح فتسبب لها المزيد من الالآم. كابدت قليلاً حتى ازالتها جميعاً ثم وقفت تحت الدوش تنعم بمائه الساخن. نظرت الى الارض تحتها فرأت بركة من الدماء التي اختلطت مع الماء والطين لتحيط بقدميها المتسختين ثم تنجرف نحو البالوعة. امسكت صابونة وردية وراحت ترغو بها على الليفة فاقتحمت انفها روائح جميلة فواحة كعبير الورد. ابتسمت قليلاً رغم آلامها الجسدية والنفسية وراحت تدعك جسدها. ولما فرغت من حمامها خرجت لتجد كأساً من الحليب الساخن ينتظرها الى جانب قطعة خبز افرنجية لذيذة.
مديحة : تعالي يا زهور وتناولي الخبز مع الحليب. انه سيريحك وستتمكنين من النوم بشكل جيد.
جلست زهور وصارت تأكل الخبز وتشرب الحليب الساخن المحلى بالسكر فامتلأ صدرها دفئاً وامسكت بالكأس كي تغسله لكن مديحة منعتها من ذلك واخذته من يدها لتدخلها الغرفة ذات سرير الاحادي وطلبت منها ان تدخل الفراش لتغطيها ثم تطفئ النور عليها وتغلق الباب ورائها. لم تتمكن زهور من النوم بشكل رائق لان الكوابيس كانت تطاردها وتحوم حول رأسها لتبقيها قلقة اثناء الليل فتستيقظ وتتعوذ من الشيطان وتقرأ الآياة القرآنية كي تتغلب على الرعب الذي تلبسها. وفي صبيحة اليوم التالي طرقت مديحة الباب ودخلت كي توقظ ضيفتها قالت،
مديحة : صباح الخير زهور، تعالي الى المطبخ كي تتناولي افطارك يا ابنتي.
زهور : لا اعلم ماذا اقول! لقد غمرتني بكرمك وعطفك يا مديحة لكنني يجب ان ارحل الآن.
مديحة : اين ترحلين؟ اسمعي مني يا ابنتي، انا ذاهبة الى عملي الآن وسوف ارجع بعد الساعة الثانية ظهراً. هل تجيدين طهي الطعام؟
زهور : طبعاً، لقد تعلمت ذلك من امي ولكن ماذا تريديني ان اطبخ؟
مديحة : لا يهم، اي شيء تجدينه في الثلاجة. بامكاني ان اتناول اي شيء.
زهور : حسناً، تيسري انت الى عملك وستجدين طعاماً جاهزاً بعد الساعة الثانية.
ركبت مديحة سيارتها الـ (فوكسواگن رگة) وتوجهت بها الى مكتبها في الكرادة الشرقية. فتحت الباب وفتشت في خزانتها عن ملف قضية ما ثم عادت وخرجت من جديد قاصدة المحكمة. اما زهور فبدأت بتنظيف بيت مديحة بشكل كامل وشامل بكلا طابقيه ولما انتهت من ذلك دخلت المطبخ وفتحت الثلاجة فرأت البيتنجان، فتحت المجمدة لتجد لحوماً متنوعة مصنفة باكياس متعددة، اخرجت واحدة منها وبدأت بالطهي. وبينما كانت تنتظر الرز حتى ينضج اخرجت الطماطم والخس من الثلاجة وراحت تعد سلطة شهية. انتهت من كل ذلك وجلست في غرفة الاستقبال ونظرت الى الساعة المعلقة على الحائط فعلمت ان مديحة سوف تعود بعد قليل. وما هي الا دقائق وانفتح الباب ودخلت مديحة حاملة حقيبة جلدية رقيقة. حيت زهور وجلستا بالمطبخ يتناولان وجبة الغداء. اعجبت كثيراً بالطعام واثنت على طهي زهور. وبعد ان انتهت من الطعام غادرت المطبخ وجلست بغرفة الاستقبال فدخلت عليها زهور بصينية عليها قدحين من الشاي قدمتها لها فجلستا يشربان الشاي ويتحدثان سوية قالت،
مديحة : بما انك الآن في حالة نفسية احسن فلماذا لا تحكي لي ما حدث لك بالتفصيل من البداية وحتى النهاية. لاني كما تعلمين محامية وربما استطيع مساعدتك.
هنا بدأت زهور تقص عليها تفاصيل حياتها بداخل مدينتها (النيل) ثم كيف اقتيد والدها الى السجن، وقرار امها بتزويجها من نجم الاعور ثم هروبها من النيل بحافلة المنشأة الى بغداد وكيف سألت ضابط شرطة هناك عن الطريق، فاشار لها بيده ولما اولته ظهرها قام بوضع قطعة قماش مبلولة فوق انفها وفمها ليفقدها الوعي فتجد نفسها بعد ذلك بداخل ذلك السجن اللعين اين بدأ الرجال الاربعة يتناوبون على اغتصابها المرة تلو الاخرى. وكيف كان يغتصبها ذلك الحارس اللعين بالنهار في غياب الرجال الاربعة. بعدها شرحت كيف تمكنت من ضربه بالصحن المعدني وهربت من سجّانها.
كانت قصة زهور مثيرة للرهبة فقد وجدت مديحة دموعها تسيل بشكل تلقائي دون ان تدري. هنا وقفت وصرخت غاضبة باعلى صوتها،
مديحة : قسمــــــــاً برب العزة لاقف الى صفك وافضح اولئك السفلة المنحطين الفاسدين وسالف حبل المشنقة حول اعناقهم فرداً فرداً حتى وإن كانوا من افراد الشرطة. ساجعلهم يندمون على اليوم الذي ولدتهم فيه امهاتهم. ابقي معي يا ابنتي وسوف انتقم لك من تلك الزمرة الفاسدة التي تنخر بالمجتمع. اسمعي مني جيداً، بامكانك ان تبقي هنا طالما كنت ترغبين في ذلك فانت ضيفتي وساعتبرك بمثابة ابنتي التي لم انجبها.
زهور : اشكرك يا سيدة مديحة واعلمي انني ممتنة لك بكل ما تفعلين من اجلي لكني لا اريدك ان تعرضي نفسك للخطر من اجلي فقد يكون هؤلاء الرجال متنفذين وقد يتمكنوا من ايذائك وهذا شيء لا ارضاه على نفسي.
مديحة : يبدو انك نسيتِ انني محاربة بارعة. ومهنتي تحتم علي التعامل مع القتلة والمجرمين طوال الوقت. لا تقلقي من اجلي فسوف اقف ضدهم بحزم وسوف اقتص منهم. كوني على ثقة.
زهور : ربما من الاجدر بك ان تتحدثي مع زوجك بهذا الموضوع كي يقف الى صفك ويصبح حليفك لانه قاضي وقد يكون لديه توجيهات تنفعك.
مديحة : لا، زوجي جميل لا يخلط ما بين عمله وبين عملي، فقد سألته في السابق عن رأيه ببعض القضايا التي كنت اوكل بها فكان يجيبني دائماً بان اي تدخل منه سوف يقوض القضية لذلك كان يفضل عدم التدخل بقضاياي. وبمرور الزمن لم نعد نعمل بقاعة محكمة واحدة.
زهور : حسناً انت ادرى بشؤونك يا سيدة مديحة.
مديحة : بامكانك ان تناديني يا امي لانني محرومة من تلك الكلمة واتمنى لو اسمعها منك دائماً.
زهور : وانا فعلاً اشعر بحنين الامومة لديك يا امي.
مديحة : سوف نبدأ بحملتنا ابتداءاً من الغد. والآن اخبريني هل تتذكرين المنطقة التي كنت تُحْتَجَزين فيها؟
زهور : كلا، عندما هربت منها، كان الظلام حالكاً وقد مشيت بين الشوارع والازقة طويلاً دون ان اتعرف على شيء. فزيارة بغداد كانت حلمي الاكبر في طفولتي ولم اتمكن من زيارتها ابداً. لذلك فانا لا اعرف اماكنها وشوارعها وحواريها.
مديحة : طيب، عندما كنت محتجزة بذلك البيت المشؤوم، هل كنت تسمعين اصواتاً مميزة كاصوات سيارات او قطارات او شاحنات او اشياء أخرى من هذا القبيل؟
زهور : كلا، كان الصمت مطبقاً وكنت فقط اسمع اصوات الرجال عندما كانوا يأتون لكي يفعلوا فعلتهم. كانوا يجلسون ويستمعون الى اغاني وموسيقى بغرفة ثانية خارج غرفة احتجازي. وكانت رائحة الكحول تصدر من افواههم عندما يدخلون عليّ لكي...
مديحة : لعنهم الله، جاؤوا بك لينتهكوا شرفك ولكن، هل سمعت احداً منهم ينادي الآخر باي اسم؟
زهور : كلا، كانوا حذرين جداً من ذكر الاسماء.
مديحة : هل لاحظت اي علامات فارقة على اي واحد منهم؟
زهور : لا افهم ماذا تقصدين؟
مديحة : اقصد هل هناك اثر لجروح او حروق او خال او شامة او نطفة او وشم على بدن او وجه احدهم؟
زهور : الغرفة كانت قليلة الاضائة وفيها مصباح كهربائي واحد في السقف. يطفئونه وقت ممارسة الجنس وليس من السهل التعرف على تلك العلامات.
مديحة : ماذا عن نطقهم للكلمات؟ هل كان احدهم يكرر كلمات معينة او اقوال يكررها كثيراً؟
زهور : لا اذكر اي شيء من هذا القبيل الآن، سامحيني.
مديحة : لا عليك، على العموم، سنتحدث بهذا الامر فيما بعد لكنني الآن اريد ان اخبرك بشيء يجب ان لا تنفعلي او تنزعجي.
زهور : قولي يا امي فانا اتقبل منك كل شيء.
مديحة : ان الاعمال التي مارسوها معك قد تكون تسببت لك بامراض جنسية او تكونين قد حملت من احدهم. لذلك اريد ان اعرضك على طبيبة نسائية.
زهور : لكنني لم ازر اي طبيبة بحياتي سوى مرة واحدة اخذني فيها والدي الى عيادة طبية لغرض الطعام.
مديحة : ربما تقصدين التطعيم.
زهور : اجل، اجل، التطعيم.
مديحة : لكن الفحص هذا ضروري لمصلحتك يا ابنتي.
زهور : كما تشائين يا امي.
مديحة : سنذهب غداً الى صديقة لي اسمها دكتورة مادلين لاطلب منها كي تفحصك.
زهور : اسم غريب، هل هي اجنبية؟
مديحة : بالعكس هي عراقية اصيلة مثلنا تماماً لكنها من اخوتنا المسيحيين. ولهجتها موصلية بحتة.
زهور : حسناً، كما تشائين يا امي.
باليوم التالي ركبت زهور الى جانب مديحة التي راحت تقود سيارتها بشوارع بغداد فكان ذلك مشهداً مثيراً للاعجاب بالنسبة لزهور، سألتها،
مديحة : هذه هي المرة الاولى التي ترين فيها بغداد بوضح النهار، اليس كذلك؟
زهور : اجل، انها حقاً جميلة. وشوارعها عريضة تنبض بالحياة.
مديحة : سوف اوقف سيارتي بموقف السيارات هذاك ثم سنسير على اقدامنا حتى نصل العيادة.
دخلت مديحة العيادة تتبعها زهور فرحبت بها السكرتيرة واخبرتها بان الدكتورة ستكون متاحة بعد قليل. لذلك عليها الانتظار بالصالة. هناك رأت زهور سيدات حوامل مع اطفالهن وسيدات اخريات امسكن بالمجلات لقضاء الوقت. فراحت زهور تقلب واحدة من المجلات التي التقطتها من على الطاولة امامها لتشاهد بداخلها صور توضح الاعضاء التناسلية الانثوية فاحمر وجهها واغلقت المجلة لترجعها فوق الطاولة. بقيا ينتظران لاكثر من 30 دقيقة حتى نادت السكرتيرة اسم مديحة فدخلت السيدتان لتجدا الطبيبة واقفة خلف منضدتها وابتسامة عريضة ترتسم على وجهها، رحبت بهما واشارت لهما بالجلوس فبدأت مديحة تشرح لها ما وقع لزهور من اعتداء سافر فتستمع الدكتورة مادلين والحزن بادٍ على وجهها. هنا طلبت من زهور ان تنتقل الى سرير الفحص وتزيل جميع ملابسها. نظرت زهور بوجه مديحة وكانها تريد ان ترفض لكن مديحة اومأت لها برأسها والابتسامة مرسومة على شفتيها بمعنى كل شيء على ما يرام وان لا تخافي فاطاعت زهور الامر وتخلت عن جميع ملابسها. بدأت الدكتورة تفحصها فحصاً دقيقاً شاملاً حتى فرغت وطلبت منها ارتداء ملابسها والانتقال للجلوس على كرسي خاص لتأخذ منها عينة من الدم ثم رجعت الدكتورة وزهور وعادتا للجلوس في اماكنهم قالت،
الدكتورة مادلين : ساقوم بفحص الدم للتأكد من الحمل والامراض الجنسية المعدية. اما الكدمات فانها ستزول بمرور الزمن. إذا اردتما تقريراً رسمياً فالافضل أن اخذ صور للكدمات الآن قبل ان تتلاشى.
مديحة : اجل اريد منك ان تأخذي صور لتلك الكدمات وآثار العنف لو سمحت.
احضرت الطبيبة جهاز تصوير فوري متطور (پولارويد) وراحت تصور جميع الاماكن التي تركت آثاراً على جسد زهور. وعندما انتهت من التصوير قالت،
الدكتورة مادلين : سابعث لك بتقرير طبي شامل عند الانتهاء منه خلال يومين او ثلاثة.
مديحة : شكراً لك حبيبتي مادلين سوف اخذ منك وعداً بان تدلي باقوالك للنيابة العامة والمحكمة إن لزم الامر. والآن ساودعك لانني سوف ارجع بزهور للبيت ثم اعود الى المحكمة.
خرجت السيدتان من العيادة وعادتا الى مراب السيارات لتنطلق بهما السيارة الى المنزل حيث ترجلت زهور وودعت مديحة لتعود الى المحكمة. دخلت زهور من الباب الرئيسي للبيت واحكمت قفل الباب خلفها بالضبط كما طلبت منها مديحة ثم جلست في الصالة قليلاً تحاول استيعاب ما جرى لها بذلك اليوم المحرج لدى الطبيبة. فقد تلبسها خجل كبير عندما صارت الدكتورة تتفحص اعضاء جسدها السفلى التي لم يرها احد سوى امها عندما كانت طفلة صغيرة بالاضافة الى اولئك السفلة المنحطين وقت الاعتداء. بعدها وقفت وقررت ان تبدأ بتنظيف الدار ثم اعداد الطعام والاستمتاع بحمام ساخن فور الانتهاء من جميع المهام المنزلية. ولما فرغت من تنظيف كل غرف المنزل دخلت المطبخ وراحت تفتش بالبراد كي تختار مادة تعد منها الطعام. وفورما فتحت البراد سمعت جرس الباب يرن فارادت فتحه لكنها تذكرت ما اوصتها به مديحة، حين قالت، "لا تفتحي الباب لاي مخلوق كان قبل ان تتأكدي من شخصيته". اقتربت زهور من الباب لتسمع المزيد من رنين الجرس الذي صار يصم اذنيها. وقفت خلف الباب لا تنبس ببنت شفة. استمر رنين الجرس ففكرت ان الامر قد يكون مهماً للسيدة الكريمة التي آوتها ببيتها لذلك عليها ان تتحقق من الطارق. مشيت بخطى بطيئة وذهبت الى غرفة الاستقبال. القت نظرة من الشباك المطل على الباب الخارجي فرأت رجلاً طويل القامة يرتدي بدلة زرقاء غامقة مولياً ظهره اليها. بقيت تراقبه وهو يعيد الكرة بعد الاخرى فيضع سبابته على زر الجرس حتى جائت لحظة والتفت بوجهه صوبها لترى وجهه بوضوح حين التقت عيناهما، "يا الهي... مستحيل. انه هو، هذا هو، انه واحد من الذين اختطفوني، يا الهي كيف عرف مكاني؟ هل تمكن من تتبع اثري وجاء ليرجعني لذلك القن القذر؟ ولكن ما هذا؟ انا لم اترك اي اثر ورائي. كيف عرف مكاني؟ هل لمحني عندما ذهبت مع مديحة الى الطبيبة هذا الصباح؟ لقد كنت غير مبالية وانظر كالحمقاء من شباك سيارتها. ربما سيذبحني عندما يقف وجهاً لوجه امامي كي لا افضح سره. سابقى صامتة ولا اعمل اي حركة عله يرحل من طوع نفسه. يا ترى هل رآني عندما استدار برأسه؟ الله اعلم! بقي الرجل يضغط على زر الجرس طويلاً حتى اصابه الملل فحمل حقيبته التي كانت ملقاة على الارض ورحل. تنفست زهور الصعداء. لقد آن الاوان كي ارحل من هنا، فسوف يعود مع باقي الرجال الاشرار ويهاجمون الباب فيكسروه ويخطفونني من جديد لأعود مجدداً الى ذلك الجحيم الذي اعتقلوني فيه. انتظرت قليلاً حتى تأكدت من رحيله ثم مشت ببطئ شديد داخل البيت تسير على رؤوس اصابعها محاولة عدم اصدار اي أصوات. فربما يكون ما زال واقفاً خلف الباب يتحين الفرصة كي يثب عليها ويخنقها. دخلت صالة الاستقبال وصارت تبكي بحرقة. لماذا لا يعتقوني؟ هل هذا قدري مدى الحياة؟ هل ساظل طريدة شريدة لآخر ايام عمري ام انهم سيمسكون بي من جديد وربما سيكررون الاعتداء المشين على شرفي؟ ... كلا والف كلا، لن اذعن لظلمهم ولن ادعهم يمسكوا بي هذه المرة ساهرب اجل ساهرب من هنا ولكن الى اين؟ لا اعلم ولكن يجب علي الفرار. قررت زهور ان تنتظر قليلاً ثم ترحل من البيت. بدأت ترتدي بعض الملابس التي تسترها والحذاء الذي منحتها لها تلك السيدة الطيبة. فتحت الباب ببطئ شديد لتنظر من خلال فتحة صغيرة فلم ترى ذلك الخنزير. خرجت لتصبح بالشارع فعلمت ان الشارع خالٍ. مشيت بنفس الاتجاه الذي جائت منه اول مرة وصارت تتفحص وجوه المارة خوفاً من ان يعثر عليها الوحش الآدمي. ولما اصبحت بعيدة عن البيت شعرت بامان نسبي والقليل من الجوع فراحت تتفحص جيوبها لتجد بعض النقود التي تصدقت بها مديحة فاشترت كعكة (چرك) وراحت تأكلها. بقيت تسير طويلاً وتجلس على نواصي الطرقات كلما شعرت بالتعب. بهذه الاثناء رجعت مديحة الى بيتها ونادت على زهور لكن زهور لم تستجب. دخلت المطبخ فوجدت باب الثلاجة مفتوحاً والضوء يصدر منها فاغلقته. بحثت عنها بكل زاوية من زوايا البيت فلم تجدها. علمت وقتها ان امراً غير عادي قد طرأ للفتاة. اين انت يا ابنتي ولماذا خرجتِ؟ الم اقل لك ان تلزمي الدار ولا تغادريه ابداً مخافة ان يعثر عليك الاشرار؟ ما الذي وقع لك بغيابي؟ هل رأيت شيئاً اخافك؟ بقيت تحاول ان تستلهم جميع الاحتمالات. هل شاهدتِ صرصاراً او حشرة او حيواناً اخافها؟ هل، هل، هل، لم يبقى احتمالاً الا وطرحته لكن جواباً شافياً لم يخطر ببالها ابداً. وبينما هي تفكر بقلق كبير سمعت رنين الهاتف. رفعت السماعة واذا بها تسمع صوت زوجها يقول،
جميل : كيف حالك يا مديحة؟
مديحة : جميل؟ زوجي العزيز، اهذا انت؟
جميل : وهل كنت تنتظرين رجلاً آخر ليهاتفك؟
مديحة : لا ولكنني لم اعتد ان اتلقى منك اتصالات هاتفية. تفضل حبيبي ما المشكلة؟
جميل : لقد جئتك اليوم الى بيتك مع الساعة الواحدة ظهراً واردت ان آخذ منك ملف قضية (شلش النشال). دقيت جرس الباب مراراً وتكراراً لكنك لم تفتحي الباب. شعرت وقتها وكأنك بداخل البيت الا انك لم ترغبي بفتحِ الباب. لماذاً؟
مديحة : لا تكن شكاكاً يا جميل، هذا عيب عليك. أبعد كل تلك السنين وما زلت تشك بي؟ قلت لك انني كنت بالمحكمة. بامكانك ان تتصل بصديقك فهد وتسأله إن اردت. فانتم القضاة تشكون بكل شيء.
جميل : إذاً سامر بعد قليل لاخذ ملف شلش النشال.
مديحة : اهذا كل ما تريده مني؟ ملف شلش النشال فقط؟
جميل : وهل هناك شيء آخر غيره؟
مديحة : كلا. سلمتَ وسَلِمَتْ لي زياراتك المفاجئة. تعال فوراً لان علي ان أخرج لامر طارئ الى مكتبي.
جميل : ساكون عندك خلال ربع ساعة انتظريني.
اغلق الهاتف معها فصارت تفكر، إذاً، جاء جميل ودق جرس الباب لكن زهور لم تفتح له الباب. احسنت يا زهور براڨو عليك يا شطورة، فعلت مثلما طلبته منك يا فتاة ولكن لماذا خرجتِ من البيت بعد ان رحل؟ هل خفتِ منه يا صغيرتي؟ ولماذا تخافي منه؟ انه زوجي وهو قاضي محكمة يحكم بين الناس بالعدل؟ ربما صارت زهور تعاني من فوبيا الخوف المطبق من الرجال بعد كل ما اصابها. يجب علي ان اخرج لابحث عنها ولكن اين ساجدها يا ترى؟ فبغداد كبيرة جداً. وهي لا تملك الكثير من المال فاين ستتمكن من الذهاب؟ ربما هي جائعة او تعبة. سابحث عنها بعد ان يأتي جميل ويرحل.
لم تمضي سوى عشرة دقائق الا واوقف زوجها جميل سيارته امام الباب ليدخل ويحييها ببرود ثم يقول، اين الملف؟
سلمته الملف ودعته ليشرب قدحاً من الشاي لكنه قال بانه على عجل من امره ويجب عليه العودة الى بيته ليراجع الملف. ودعها ورجع لسيارته منطلقاً بها بعيداً.
ارتدت مديحة معطفها وخرجت تبحث عن زهور. سألت الدكان الاقرب الى منزلها فقال بانه لم يراها ابداً. بعدها سألت الكثير من المحال التجارية القريبة والبعيدة من دون فائدة. في الآخر شعرت بعطش شديد فقررت ان تشتري قنينة (تراوبي) لتطفئ بها ظمأها. اخذت القنينة الباردة ووقفت جانباً تشربها ثم تذكرت ان تسأل البائع عن زهور. وصفتها له فقال،
البائع : اجل كانت هنا فتاة شابة بهذه الاوصاف، جائت واشترت كعكة (چرك) لتجلس على الرصيف هذاك وتأكلها.
اشار باصبعه فنظرت مديحة لكن الرصيف كان خالياً. فسألته،
مديحة : ومتى كان ذلك؟
البائع : قبل حوالي نصف ساعة او ثلاثة ارباع الساعة.
مديحة : اتعرف اين ذهبت بعد ذلك؟
البائع : تناولت الكعكة ثم سارت بنفس الاتجاه.
مديحة : شكراً لك اخي.
يا الهي يجب ان اسير بذلك الاتجاه علني الحق بها. سارت مديحة بخطوات مسرعة وصارت تتفحص وجوه الناس يمين شمال عسى ان تعثر عليها ولكن دون جدوى. ولما عسعس الليل وحل الظلام فقدت الامل وقررت العودة الى بيتها. استدارت لترجع، فور استدارتها للخلف رأت زهور تسير بعيداً عنها فركضت اليها وصاحت باعلى صوتها، " زهـــــــــور زهـــــــــور توقفــــــــي ارجوك". التفتت زهور الى الخلف فرأت مديحة تجري صوبها فتوقفت وفتحت ذراعيها لتغمر الفتاة بوسط الرصيف امام المارة.
مديحة : لماذا خرجت يا زهور؟ لماذا خرجت يا حبيبتي؟ الم اطلب منك البقاء بالبيت؟ الم اقل لك ان ذلك خطر عليكِ؟ فقد يعثروا عليك ويرجعونك لذلك المعتقل البغيض.
زهور : لقد عثروا عليّ فعلاً يا امي. اليوم جاء احد الرجال الاشرار من الذين اغتصبوني وعذبوني مراراً وتكراراً ودق جرس بيتك. لا اعلم كيف توصل الى مكاني لكنه عرفه وحسب.
قهقت مديحة طويلاً وبصوت مرتفع ثم قالت،
مديحة : انت مخطئة يا مجنونة. انه ليس احد المجرمين. يبدو انك اصبحت تخافين من جميع الرجال واصبحت لا تميزي بينهم. هذا الرجل كان زوجي جميل انه قاضي بالمحكمة. جاء كي يأخذ ملف قضية قديمة لموكل ترافعت عنه منذ سنتين.
زهور : اقول لك انه هو يا مديحة هو بعينه انه هو انه هو.
مديحة : هل فتحت له الباب ونظرت بعينيه وتفحصت تقاطيع وجهه عن قرب؟
زهور : كلا، فقط نظرت اليه من شباك غرفة الاستقبال ورأيته بشكل واضح جداً.
مديحة : لا يا حبيبتي انت مخطئة. فزوجي بقدر ما هو انسان آلمني حين تزوج عليّ زوجة ثانية لكنه انسان صالح وطيب ومصلي. لا يمكن ان يكون شريراً كما تصفينه ابداً. ربما تكوني قد اشتبهت بشكله.
زهور : اقول لك انه هو بعينه. انا متأكدة من ذلك.
مديحة : لحظة واحدة. لدي صورة له في البيت ساعرضها عليك لتتأكدي من ان الذي جاء للدار لا يمكن ان يكون نفس الرجل الذي قام بالمساهمة بخطفك واغتصابك وتعنيفك. يا لك من فتاة مشوشة.
زهور : لكنني لا اريد العودة لدارك. انا خائفة، قد نرجع الى هناك فنجد الرجال الاربعة ينتظروننا امام الباب.
مديحة : لا تخافي، سوف لن يجرؤ احد على لمسّك طالما انت معي.
زهور : حسناً ولكنني متأكدة مما اقول.
مديحة : يا عمري، دعنا نعود للبيت وسأريك صورة لجميل فتتأكدين من ان الذي ساهم بايذائك هو شخص آخر وليس زوجي جميل، لا يمكن ان يكون جميل بهذا القدر من القذارة.
رجعت مديحة وزهور سيراً على الاقدام باتجاه البيت، ولما وصلا بداية الشارع الواقع فيه بيتها نظرت من بعيد وقالت،
مديحة : انظري، ليس هناك اثر للرجل. سوف ندخل البيت وستكونين بامان. هل يعقل ان اعرّضك للخطر بعد ان لجأت الي يا ابنتي؟
فتحت مديحة باب المنزل ودخلت لتتبعها زهور ببطئ شديد وبحذر مشوب بالريبة والحذر. ولما اصبحتا بالصالة قالت،
مديحة : ها؟ اين هو؟ استرخي يا زهور واجلسي فانا متأكدة من انك قد اشتبهت بشكله.
بدأت زهور تشك بما قالته مديحة وصارت تسترجع ذكرياتها لذلك الوحش الآدمي الذي كان يواقعها في المعتقل لتعود وتقارنه بشكل الرجل الذي كان واقفاً اليوم امام الباب يضغط على الجرس بالحاح فصارت تتافف وتقول،
زهور : والله انه هو بعينه، كيف يمكنني ان انسى وجهه البشع؟
مديحة : اسمعي مني يا زهور سوف اريك صورة...
بهذه الاثناء قاطع كلامها رنين الهاتف فرفعت السماعة لتتحدث مع زوجها حين سمعته يقول،
جميل : لقد راجعت الملف الذي اعطيتني اياه لكنه ناقص يا مديحة. هل تذكرين ان هناك تسجيل بداخله على شريط كاسيت باقوال المتهم المفصلة؟
مديحة : اجل اتذكر، سابحث لك عن الكاسيت وساتصل بك من جديد.
جميل : هاتفيني عندما تعثري عليه فانا احتاجه اليوم.
اغلقت سماعة الهاتف مع زوجها جميل واخبرت زهور بما دار بينها وبين زوجها فاصيبت زهور بهلع اكبر قالت،
زهور : سيأتي الى هنا ليأخذ الكاسيت سيراني، سيذبحني... يا الهي يجب عليّ ان اغادر فوراً. لن ابقى بنفس البيت مع هذا الوحش.
مديحة : يا زهور يا زهور اسمعي مني جيداً، بدلاً من ان اريك صورته فانه سوف يأتي الى هنا لتتأكدي منه بنفسك. يقول الله في كتابه العزيز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ). يأمرنا الله ان نتأكد 100% بما نشك به كي لا نظلم احداً باقوالنا وشكوكنا وافعالنا لذلك يجب علينا ان نتأكد ونتأكد ونتأكد. لذا، لدي فكرة ستعجبك كثيراً. ستختبئين بهذا المرحاض الصغير المحاذي لغرفة الاستقبال وتقفلين على نفسك بالمفتاح وسوف تستمعين لصوته عن قرب. وقتها ستتأكدين إن كان جميل هو نفسه الرجل الشرير ام لا. ما رأيك؟
زهور : ماذا لو اراد ان يستعمل المرحاض؟
مديحة : وقتها ساخبره بان المرحاض معطل وانا قمت باحكامه واني انتظر عامل الصيانة كي يأتي لاصلاحه.
زهور : ولو انني خائفة كثيراً مما تقولين لكنني لا اريدك ان تَشُكّي بكلامي. حسناً سافعل ما تطلبين مني وامري الى الله.
مديحة : ولكن انتبهي جيداً، يجب لا تصدري اي أصوات وانت بداخل المرحاض. لانك لو فعلت ذلك، فانه سيشك ان لدي عشيق يختبئ بالمرحاض وسوف يكسر الباب ويدخل عليك.
زهور : فهمت خطورة الموقف. سالتزم الصمت المطبق وسوف لن اتحرك ولن اصدر اي صوت ابداً.
وما هي الا بضع دقائق وسُمِعَ جرس الباب فركضت زهور الى المرحاض واحكمت الباب ورائها بالمفتاح. ولما تأكدت مديحة من ان كل شيء على ما يرام فتحت الباب لزوجها لتسمعه يقول،
جميل : اعطني الكاسيت يا مديحة ودعيني اعود للبيت.
مديحة : اهلاً جمولي، تفضل حبيبي ادخل فان لدي موضوع هام اريد ان اطرحه عليك.
دخل جميل وجلس في الصالة فتبعته مديحة وجلست على الاريكة امامه قالت،
مديحة : بالحقيقة والواقع اردتك ان تدخل كي اراك لانني اشتقت اليك كثيراً. فانت لم تعد تزورني الا إذا كان لديك شيء مهم تريده مني. لقد نسيتني بعد ان تزوجت من ست الحسن والجمال.
جميل : انا لم انساك مدّوحتي لكنني مشغول كثيراً بهذه الايام والقضايا تغمرني حتى فوق رأسي.
مديحة : هل اعمل لك قدحاً من الشاي؟
جميل : قلت لك انني على عجل. قولي ما عندك ودعيني ارجع للبيت لاستمع الى الكاسيت فغداً محاكمته.
مديحة : حسناً كما تريد، تفضل هذا هو الكاسيت ولكن تذكر ان ترجعه إلي بعد ان تستمع اليه كي اعيده الى مكانه.
جميل : سافعل ذلك، والآن عاشوا عيشة سعيدة. انا ذاهب الى بيتي.
مديحة : حسناً حبيبي، ولكن ارجو ان تزورني قريباً ولا تدعني اشتاق اليك كثيراً. اريد ان اطبخ لك الممبار الذي تحبه كثيراً.
جميل : سافعل، سافعل ولكن ليس اليوم.
وضع شريط الكاسيت بجيب سترته الداخلي وخرج فتبعته مديحة واغلقت الباب ورائه ثم توجهت الى المرحاض كي تتحدث الى زهور لانها كانت على يقين بانها على خطأ فلا يمكن ان يكون زوجها جميل شخصاً شريراً ابداً. فتحت الباب وقالت،
مديحة : الم اقلك لك انه ليس نفس الشخص الذي كان يحتجزك بالمعتقل؟
الا انها وجدت زهور سابحة بالدموع قالت،
زهور : انه هو، هو بعينه يا امي. نفس الصوت. حتى انه استعمل عبارته المعهودة (عاشوا عيشة سعيدة). كان كلما ينتهي من اغتصابي وينهظ من السرير يقولها وكأنه انجز مهمة يستحق الثناء عليها.
مديحة : حبيبتي زهور، جميع الناس بكلا الجنسين يستعملون هذه الجملة فهي عادة العراقيين جميعهم. حتى زوجي جميل عندما كان يمارس الجنس معي كان قول... كان يقول... هنا بدأ الامر يغطس بذهن مديحة من سياق كلامها عندما استرجعت ذكرياتها وصارت تستوعب ماذا تقول فقد كان حقاً يقولها لها هي الاخرى عندما يفرغ من مجامعتها. يا للهول لقد توقفت عن الكلام قليلاً ثم عادت وقالت،
مديحة : اسمعي مني جيداً،إذا اردنا ان نقطع الشك باليقين فعليك ان تنظري اليه وجهاً لوجه وتستمعي لكلامه مباشرة. لا صور ولا تخفي خلف ابواب المرحاض تنفع.
زهور : وكيف افعل ذلك؟ إن كنت بداخل المرحاض والباب محكم عليّ بالمفتاح وجسدي كان يهتز كسعفة النخلة من شدة الخوف فكيف تريديني ان انظر الى وجهه دون ان اصرخ واستغيث؟ ان ذلك امر جلل بالنسبة لي ارجوك لا تعرضيني لمثل هذا الموقف.
مديحة : لكنني بنفس الوقت لا يمكن ان اصدق كلامك عن زوجي الا اذا نظرتِ الى تقاطيع وجهه على المسافة صفر.
زهور : وكيف سافعل ذلك دون ان يمسك بي ويخنقني باصابعه الغليظة؟
مديحة : اسمعي جيداً، دعيني اسألك سؤالاً مهماً جداً: عندما جاء الى بيتي في غيابي وقام برن الجرس، اين كنت واقفة بالتحديد؟
زهور : كنت اقف بغرفة الاستقبال وانظر اليه من الشباك المطل على الباب الخارجي.
مديحة : هل كانت الستائر مفتوحة ام مسدلة؟
زهور : كانت الستائر الموردة مفتوحة لكن الستائر البيضاء الشفافة مسدلة ورأيته من خلالها.
مديحة : إذاً فانه لا يمكن ان يكون قد رأى وجهك وتعرف عليك.
زهور : وكيف تستطيعين الجزم بذلك؟
مديحة : اسمعي زهور، اخرجي خارج الدار الآن وقفي بنفس المكان الذي كان يقف فيه زوجي جميل. وانا ساقف خلف الستائر البيضاء الشفافة. سانظر اليك من خلالها وسوف اشاور لك بيدي. فإذا تمكنت من التعرف على وجهي، وقتها سنلغي الامر وننسى الموضوع برمته.
زهور : حسناً ساخرج الآن.
خرجت زهور ووقفت خارج المنزل لتغلق الباب ورائها ثم قامت بدق الجرس ونظرت باتجاه شباك غرفة الاستقبال فلم ترى سوى الستائر البيضاء الشفافة. ضغطت على الجرس ثانية واعادت النظر فلم ترى شيئاً. دخلت الدار من جديد ونظرت الى مديحة بغرفة الاستقبال فوجدتها تشاور بيديها من خلف الستائر الشفافة. علمت وقتها ان من يكون واقفاً في الخارج لا يمكن ان يتعرف على من في الداخل. هنا قالت،
مديحة : غداً باذن الله ساخذك الى المحكمة لتتاكدي من ان زوجي بريء. ستتنكرين وتذهبين للمحكمة.
زهور : وكيف اتنكر؟ هل ستلبسيني جلد دب مثلاً؟
مديحة : كلا، ستلبسين حجاباً ونظارة شمسية غامقة ثم تدخلين قاعة المحكمة التي يترأسها زوجي جميل وقتها سادعكِ تنظرين الى ملامحه بتأني وعلى (أأل من مهلك). ستجلسين بالقاعة بين الجمهور وستنظرين اليه لتتفحصي تقاطيع وجهه جيداً بتروي تام حتى تتأكدي من انك كنت مخطئة. سوف تستمعين الى صوته، وبذلك سنقطع الشك باليقين.
زهور : كما تريدين يا امي. ولو انني ...
قاطعتها بحزم قالت،
مديحة : بدون تردد ارجوكِ، تذكري انني اعاملك كابنتي ولن ادع اي مكروه يصيبك مهما كان نوعه ومن اي شخص كان. حتى لو كان زوجي واقرب المقربين أليّ.
زهور : شكراً.
مديحة : لا داعي للشكر، والآن دعنا نذهب الى غرفة نومي كي اختار لك الحجاب المناسب، اتبعيني لو سمحت.
فتحت خزانتها واخرجت الكثير من الملابس التي تناسب الحجاب، وبما ان حجميهما كان متقارباً تمكنت من ان تجد لها اللباس الملائم. وبعد ان ارتدته كاملاً وقفت امام المرآة لترى كيف اصبح شكلها.
زهور
زهور : يا الهي، كم تغير شكلي؟ امر لا يصدق. ولكن هل تعتقدين انه سيتعرف عليّ؟
مديحة : صدقيني يا ابنتي، لولا انك ارتديتِ الحجاب امامي لما عرفتكِ ابداً. لقد تغير شكلك بالكامل.
زهور : متى تعتقدين اننا سننفذ الخطة؟
مديحة : قلت لك غداً لانه سيترأس المحكمة لمتهم سبق وان دافعت عنه في السابق لذلك فهو لن يستغرب لوجودي بقاعة المحكمة مع الجمهور لاتابع مجريات القضية حتى وإن لم اكن ادافع عن نفس المتهم من جديد.
زهور : حسناً سنذهب غداً وامري الى الله. والآن ماذا سنفعل؟
مديحة : دعنا ندخل المطبخ كي نعد الطعام فانا اكاد اموت من الجوع.
في اليوم التالي ارتدت زهور حجابها ولكن دون وضع احمر الشفاه لان مديحة حذرتها من ان ذلك قد يجذب الانتباه. ركبا سيارة مديحة وتوجها بها الى محكمة الكرادة. دخلتا قاعة المحكمة فشاهدا حشداً كبيراً من الجمهور جاء للاستماع الى القضية. اختارت زهور مقعداً في الصف الخلفي من القاعة لكن مديحة امسكت بيدها وسحبتها اليها كي تغير مكانها وتجلس معها في الصفوف الامامية. ولما جلستا على الاريكة سمعتاً الحاجب ينادي باعلى صوته،
"محكمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة"
انتصب الجميع ليدخل القاضي جميل مع المستشارين ويأخذون اماكنهم فيجلس الجمهور بعدهم. نادى المستشار رقم القضية واسم المتهم فدخل المتهم ليضعوه بقفص الاتهام لتبدأ الجلسة. همست زهور باذن مديحة،
زهور : يا الهي انه ينظر الي مباشرة.
مديحة : لا يا حبيبتي، انه ينظر باتجاهنا فقط لانه تفاجأ من رؤيتي بين الجمهور الحاضر للقضية. انه لا ينظر اليك بتاتاً. والآن اريدك ان تتفحصي تقاطيعه جيداً. هل هو المجرم الذي اغتصبك ام لا؟
زهور : انه هو تماماً ولا لبس في ذلك.
بدأ الادعاء العام يتحدث ثم طلب القاضي من الدفاع كي يبدأ المرافعة، هنا همست زهور باذن مديحة،
زهور : صوته هو هو. انا متأكدة 100% دعينا نخرج الآن.
مديحة : حسناً حبيبتي لننتظر قليلاً حتى تُرفع الجلسة ثم نخرج من القاعة كي لا نجذب انتباهه.
بقيت زهور ومديحة جالستان طويلاً حتى اعلن القاضي جميل عن استراحة قصيرة مدتها ربع ساعة فوقف الجميع وصاروا يغادرون القاعة تباعاً لتخرج مديحة وزهور مع باقي الحضور وتتوجها الى خارج المحكمة. ركبا السيارة فصارت مديحة تقودها. وفي الطريق قالت،
مديحة : سنذهب الى مكتبي لان لدي امر مستعجل يجب ان اعمله ثم ساقوم بتوصيلك الى البيت فيما بعد.
زهور : انا لا امانع ان ابقى بمكتبك حتى ينتهي عملك.
قالتها وهي تخلع الحجاب من رأسها لكن مديحة اعترضت إذ قالت،
مديحة : لا تخلعي الحجاب.
عادت وارتدت الحجاب من جديد. قالت،
مديحة : دعيني اسألك للمرة الاخيرة، هل كان القاضي جميل هو نفسه الرجل الذي قام بالاعتداء عليك مع اصحابه؟
زهور : اجل انه هو والله هو. انا متأكدة منه دون ادنى شك، والله والله هو.
مديحة : طيب، طيب اصدقك لا داعي للحلفان.
دخلت السيدتان مكتب مديحة فعرفتها على مساعدها عبد الحليم. قالت،
مديحة : عبد الحليم يعمل لدي منذ ثلاث سنوات. جل مهامه هي التحقيق بالقضايا. لقد كان يعمل بسلك الشرطة كمحقق حتى لفقوا له تهمة الرشوة كي يتخلصوا منه لان رؤسائه كانوا فاسدين. دافعتُ عنه بالمحكمة لكنني خسرت القضية لعدم توفر الادلة الكافية. بعدها طلبت منه ان يعمل لدي كمحقق خاص في جميع القضايا الجنائية التي اتبناها. وهذه زهور صديقتي بالرغم من صغر سنها فانها تعيش عندي ببيتي واعتبرها بمثابة ابنتي.
زهور : سعيدة بلقائك سيد عبد الحليم.
عبد الحليم : وانا سعيد بلقائكِ سيدتي.
دخلت مديحة مكتبها فذهبت زهور الى المطبخ واعدت قهوة تركية لتحضرها مع ثلاثة فناجين قدمت لهما القهوة وراحت تترشف من فنجانها ثم سمعت مديحة تقول،
مديحة : سامحني يا عبدو ولا تزعل مني فقهوة زهور افضل من القهوة التي تعدها لي كل يوم هنا بالمكتب.
عبد الحليم : طبعاً (اللي لـگـا احبابة نسا اصحابة)، الآن انا خارج اللعبة واصبحت (كخة).
ضحكت السيدتان على تعليقه البريئ وبدأوا يتباحثون بالعمل فانسحبت زهور وجلست بصالة الانتظار الفارغة ثم وقفت من جديد وذهبت للمطبخ كي تقوم بتنظيفه لانه كان بحالة يرثى لها. وبعد مرور بضع ساعات كانت صالة الانتظار تعج بالمراجعين. وبينما كانت زهور تفرغ طفايات السجائر وتضعها في سلة المهملات دخل القاضي جميل المكتب ليصبح وجهاً لوجه مع زهور قال،
جميل : هل انت تعملين خادمة بهذا المكتب؟
زهور : اجـ اجـ اجل. بدأت اشتغل اقصد بدأت اعمل اقصد بدأت هنا اليوم.
جميل : هل هي لوحدها؟
زهور : من هي؟
جميل : يبدو عليك جديدة ولم تعملي في حياتك. انا اسأل عن مديحة زوجتي. هل هي بمفردها؟
زهور : اجـ اجل انها وحدها بالمكتب تقلّب بعض الاوراق.
دخل جميل على مكتب مديحة وقال،
جميل : هل وظفت خادمة جديدة بمكتبك يا مديحة؟
مديحة : وهل كان علي ان آخذ اذناً منك قبل ان اوظف احداً بمكتبي؟
جميل : لا ابداً، هذا ليس ما قصدت ولكن يبدو انها خرقاء غبية.
مديحة : حرام عليك، هذا هو يومها الاول ولم يسبق لها ان عملت باي مكان في حياتها. والآن اجلس جميل وساعود اليك على الفور.
جلس جميل وخرجت مديحة من المكتب لتغلق الباب ورائها. بحثت عن زهور فوجدتها بالمطبخ وهي منهارة جداً قالت،
مديحة : لا عليك حبيبتي. الآن انا تأكدت انه لم يتعرف عليك لانك لازلت ترتدين الحجاب. وانك قد تأكدت 100% من ذلك الوحش الكاسر. اقسم برب العزة انني سالف حبل المشنقة حول عنقه وعنق زبانيته القذرين او على الاقل اضعهم خلف القضبان.
زهور : وكيف ستعملين ذلك؟
مديحة : سنستعين بعبد الحليم فهو شاطر جداً بهذه الامور لانه كان يعمل محققاً لدى الشرطة والآن يعمل عندي، يبحث بالقضايا التي اتوكل بها.
زهور : إذاً ستخبريه عما وقع لي بكل التفاصيل المخجلة؟
مديحة : اجل، يجب ان يعرف كل شيء لانه سوف يساعدنا كثيراً. هذا هو عمله وتخصصه.
زهور : ساموت من الخجل عندما اتكلم عن مشكلتي.
مديحة : انه امر مفروض علينا إن اردنا الاخذ بالثأر بالطرق القانونية. لا تنسي انه رجل محترم وقد عانى كثيراً من الظلم جراء الفساد في مكان عمله لذلك فهو يتفهم الامور جيداً. تصوري، عندما طرد من وظيفته بسلك الشرطة طلبت زوجته الطلاق على الفور.
زهور : ايعقل ذلك؟ وهل انجبت له اطفالاً؟
مديحة : كلا، لقد حملت باول زواجهما ثم سقط الجنين بشكل تلقائي، ولم تحمل بعدها ابداً.
زهور : مسكين يا عبد الحليم.
مديحة : والآن ساستدعيه كي تجلسي معه وتخبريه بكل شيء بينما اعود لجميل لارى ما يريد هذا البغل.
زهور : كما تشائين يا امي.
خرجت مديحة من مكتبها ونادت على عبد الحليم ثم شرحت له كل ظروف وملابسات قضية زهور لكنها طلبت منه الاستماع اليها مباشرة والاستفسار منها عن اي معلومة. بعدها دخل الاثنان غرفة معزولة وجلسا بمفردهما فبدأ عبد الحليم بحديثه حين قال،
عبد الحليم : اختي العزيزة زهور، لقد شرحت لي السيدة مديحة كل ملابسات الجريمة البشعة التي تعرضت لها، واعلمي ان ليس هناك اي داعي للخجل. فانت لم تقترفي اي ذنب مطلقاً، الذنب كله يقع على عاتق اولئك الانذال القذرين الذين تخلوا عن اخلاقهم وشرفهم وقيمهم الانسانية ليقوموا باحتجازك والاعتداء عليك بطرق وحشية مشينة خالية من القيم الانسانية.
زهور : والله اخي عبد الحليم انا لا اعلم كيف اتحدث بهذا الموضوع ولا من اين أبدأ.
عبد الحليم : لماذا لا اطرح عليك اسئلة وانت تجيبيني عليها على حد مقدرتك؟ هل هذا يناسبك؟
زهور : حسناً تفضل.
عبد الحليم : لنبدأ باسمك الكامل وعمرك ومحل ولادتك.
زهور : اسمي الكامل زهور حسين الصفار، عمري 20 سنة ولدت بالنيل القريب من مدينة الحلة.
عبد الحليم : ما شاء الله تبدين اكبر من سنك بكثير.
زهور : هل ابدو كالعجوز إذاً؟
عبد الحليم : لا لم اقصد ذلك ابداً. كنت اقصد انك تبدين كامرأة ناضجة ولست بشابة يانعة.
زهور : شكراً على الاطراء.
عبد الحليم : حدثيني عن تفاصيل الجريمة منذ ان غادرت النيل وحتى جلوسك امامي اليوم.
بدأت زهور تقص عليه قصتها كاملةً. ولما وصلت الى احداث العنف والاغتصاب لاحظت ان عيني عبد الحليم اغرورقت وصار يتأثر بما تقوله فاستنتجت من انه انسان شفاف يتعاطف معها بقدر عال. بقيت تتحدث عن كل التفاصيل حتى صار يستجوبها عن اشكال واسماء المعتدين الواحد تلو الآخر ومن ضمن الاسئلة قال،
عبد الحليم : الا تتذكرين اسم الحارس الاصلع الذي كان يحضر لك الطعام كل يوم؟
زهور : اذكر انهم كانوا ينادوه ابو جميعة عندما يكونون خارج غرفة احتجازي.
عبد الحليم : ربما هو اسم دلع او ان اسمه كان ابو جمعة. هل ذكروا اسمه الكامل او لقبه؟
زهور : كلا، كانوا فقط ينادوه ابو جميعة وحسب، دون ان يذكروا لقبه.
عبد الحليم : طيب وماذا عن الشرطي؟
زهور : اعتقد انه كان ضابطاً بالشرطة لانه كان يرتدي نجوماً.
عبد الحليم : هل كانت النجوم على كتفه ام على ياقته؟
زهور : على كتفه، اجل النجوم كانت فوق كتفه انا متأكدة.
عبد الحليم : ممتاز جداً، هل لاحظت اي علامات فارقة او اي ميزات تفرقه عن الآخرين؟
زهور : كان قصير القامة ولديه شارب غليظ. اجل، اجل تذكرت هناك فراغ عامودي واضح في الجهة اليسرى من الشارب.
عبد الحليم : الم تلاحظي عليه اي امور اخرى غير تلك الثعلبة؟
زهور : شيء واحد فقط، وقد يكون غير ذا اهمية. كان صوته ناعماً كاصوات النساء.
عبد الحليم : هذا شيء مهم جداً. وماذا بعد؟
زهور : كان يستعمل كلمة (چا) كثيراً. كذلك كان يقذفني بالكثير من الكلمات النابية التي لا يمكنني تكرارها.
عبد الحليم : كلمات مثل ماذا، ارجوك انها مهمة جداً. حاولي ان تتذكري.
زهور : كان يستعمل كلمات الاعضاء التناسلية كثيراً بالاضافة الى كلمة العاهر والزانية والقحبة وما شابه.
عبد الحليم : طيب فهمت. ساحاول ان استجمع المعلومات التي اعطيتني اياها وساحاول معالجتها.
زهور : شكراً لك اخي عبد الحليم.
عبد الحليم : بامكانك ان تناديني عبدو فقط يا اختي زهور.
زهور : وانت بامكانك مناداتي زهور وحسب.
في اليوم التالي توجه عبد الحليم الى قسم شرطة الكاظمية اين كان يعمل في السابق والتقى بصديق له يدعى الملازم اول منتظر. جلسا معاً وصارا يتجاذبان اطراف الحديث بشكل ودي اثناء تناولهما قدح شاي حينما سأل،
عبد الحليم : سمعت ان لديكم ضابط جديد في قسم الحوادث. هل هذا صحيح؟
منتظر : لا هذا ليس صحيحاً ابداً فهنا لم ينتقل الينا اي ضابط جديد.
عبد الحليم : ربما انت مخطئ!
منتظر : وما اسمه او شكله؟
عبد الحليم : لا اعرف اسمه لكنه قصير القامة ولديه فراغ في شاربه من الجهة اليمنى.
منتظر : ربما تقصد النقيب هيثم المدفعي. لكن الفراغ يقع الى الجهة اليسرى من شاربه وليست اليمنى.
عبد الحليم : اجل، اجل انت محق. حتى سمعت ان صوته خشن جداً يشبه صوت مركبة سحب الفضلات من البالوعات.
منتظر : لا، يبدو انك تتحدث عن شخص آخر، لان هذا النقيب لديه صوت ناعم كصوت النساء.
عبد الحليم : هل يعمل لديكم بشكل دائم؟
منتظر : كلا، انه قادم من مركز شرطة آخر، اعتقد من الكرادة داخل وقد انتسب الينا بشكل مؤقت لان في هذه الايام كما تعلم هناك زخم كبير في الشوارع اثر زيارات الامام الكاظم.
عبد الحليم : اجل، اجل، انها اوقات عصيبة عليكم، فانا لمستها على ارض الواقع قبل 4 سنوات ولكن هل لديك صورته؟
منتظر : ولماذا تسأل عن صورته؟ الا تعلم ان ذلك امر سري وقد اتكبد المشاكل بسبب ذلك؟
عبد الحليم : لا طبعاً انا لا اريد ان اسبب لك اي مشكلة فانت صديقي المقرب واعز من اخي. ولكن كيف سارجع خالي الوفاض؟
منتظر : ماذا تقصد بخالي الوفاض؟ خالي الوفاض لمن؟ لاجل من تتجسس اخبرني؟
عبد الحليم : اسمع مني يا اخي منتظر، لقد كلفتني ابنة عمي سهيلة، وانت تعرفها جيداً، طلبت مني التحقق من هذا الرجل فقد تقدم لخطبة ابنتها نجاة وقالت انه يعمل ضابطاً بالشرطة وان سيرته حسنة. ذكرت لي اسمه لكني نسيت الاسم. لذلك طلبت مني ان استقصي عنه فقد يكون كذّاباَ او متزوجاً.
منتظر : لا اعلم إن كان متزوجاً ام لا، لكن ما اعرفه عنه انه سيء الخلق ويعامل جميع من يعمل معه بفضاضة كبيرة خصوصاً المنتسبين تحت امرته.
عبد الحليم : هل لديك صورة له كي لا نتحدث عن شخص مغاير؟
منتظر : لحظة واحدة دعني ابحث عن ملفه.
انتصب منتظر وذهب نحو خزانة تحتوي على جميع ملفات المنتسبين المؤقتين. بحث فيها ثم اخرج واحداً منها وقال،
منتظر : هناك صورته بداخل هذا الملف لكنني لا استطيع ان اعطيك اياها لانها يجب ان تبقى دائماً بداخل الملف.
عبد الحليم : ماذا لو اعرتني اياها ليوم واحد فقط. سوف لن يفتقدها احد خلال هذا اليوم.
منتظر : بل ساعة واحدة فقط.
عبد الحليم : على الاقل اجعلها ساعتان يا اخي فقد يلزمني 40 دقيقة للذهاب ومثلها للاياب.
منتظر : حسناً ساعتان ولكن ارجوك احضرها قبل الساعة الثانية بعد الظهر لان عليّ ان اعيدها للملف قبل ان اذهب الى بيتي فاليوم اعدّت زوجتي بامية بالزنود وانا متحمس لذلك كثيراً.
عبد الحليم : ستكون الصورة عندك قبل الثانية باذن الله وستأكل تشريب البامية عوضاً عني. دعني القي نظرة على الملف لو سمحت. تفحص عبد الحليم الملف وقرأ معلوماته الشخصية ثم اخذ الصورة منه وانطلق بها مسرعاً الى مكتب المحامية مديحة. دخل فوجد بعض المراجعين جالسين بغرفة الانتظار. توجه الى المطبخ ليرى زهور ممسكة بقلم تحاول تعلم الكتابة، يبدو ان مديحة بدأت تعلمها عندما تكون خالية من المراجعين نظرت اليه وسألته،
زهور : عبدو، لماذا جعلوا النون مدورة وعليها نقطة واحدة بينما التاء طويلة وعليها نقطتان؟
عبد الحليم : هكذا هي الحروف العربية. خطك جميل يا زهور، احسنت.
زهور : شكراً عبدو.
عبد الحليم : عزيزتي زهور، لقد جلبت لك صورة اريدك ان تتفحصيها جيداً دون انفعال وتخبريني إن كنت تتعرفين على صاحبها.
اخذت زهور الصورة ونظرت اليها جيداً ثم بدأت ترتعش وكأنها تعاني من الحمى وصارت تتعرق.
عبد الحليم : لا بأس، لا بأس، ارجوك اهدئي. هل انت متأكدة من صاحب هذه الصورة؟
اومأت برأسها بالايجاب وقالت،
زهور : هذا هو الشرطي الفاجر. ليس عندي ادنى شك.
عبد الحليم : هذا كل ما اردت معرفته.
زهور : هل عرفت اسمه؟
عبد الحليم : اجل، اسمه النقيب هيثم المدفعي.
زهور : اجل الآن تذكرت انني كنت اسمع احدهم ينادي الاسم (هيثم) من الغرفة المجاورة. فيرد عليهم بانه لم ينتهي بعد من مضاجعة العاهر.
عبد الحليم : إذاً نحن عثرنا على اثنان لحد الآن، القاضي والشرطي. شكراً لكِ عزيزتي.
زهور : كان الله بعونك عزيزي عبدو. ارجوك توخى الحذر فانا لا اريدك ان تتكبد المشاكل بسببي.
عبد الحليم : اتمنى ان ارسم الابتسامة على شفتيك من جديد يا زهرة الزهور فانت تستحقين السعادة التي سلبها منك اولئك الانذال السفلة.
خرج عبد الحليم من مكتب المحامية وتوجه الى احدى المكاتب القريبة ليستنسخ صورة النقيب ثم رجع الى مركز شرطة الكاظمية وارجع الصورة لصديقه منتظر فسأله،
منتظر : هل كان نفس الشخص الذي تقدم لخطبة نجاة؟
عبد الحليم : كلا، يبدو انه شخص آخر. ومع ذلك شكراً لانك اعرتني الصورة.
منتظر : شكراً لك لانك ارجعتها بالوقت المناسب كي اضعها بالملف.
عبد الحليم : اسمع منتظر قبل ان ارحل، لقد ورد اسم شخص آخر يريد التقدم للزواج من نجاة واسمه غريب جداً.
منتظر : كيف يكون اسمه غريب؟ لا افهمك. هل اسمه عكرمة او ابو جهل مثلاً؟
عبد الحليم : قالت ان اسمه جمعة او ابو جميعة او ابو جميعان او ابو جموع او شيء من هذا القبيل.
منتظر : هل يعمل ضابطاً بالشرطة لدينا؟
عبد الحليم : لا انه ليس شرطياً.
منتظر : لم اسمع بهذا الاسم ابداً ولكن... لحظة واحدة دعني انظر بقائمة الحوادث لانني ربما لمحت هذا الاسم هناك.
فتح جراراً واخرج ورقة دونت فيها الحوادث لذلك اليوم قال،
منتظر : هناك رجل اصيب بحادث سير يدعى ابو جميعة عبد الغفور، توفى بمستشفى الكاظمية هذا الصباح ونقلت جثته للطب العدلي.
عبد الحليم : شكراً جزيلاً. اسمع، ألا زال الاخ دحام عايش يعمل هناك؟
منتظر : اجل عزيزي دحام عايش هو افضل واقدم طبيب لدينا بالطب العدلي.
عبد الحليم : ساذهب لازوره الآن. وداعاً.
منتظر : لا تبخل علينا بزياراتك يا عبدو. كان الله في عونك.
خرج عبد الحليم من مركز الشرطة قاصداً مديرية الطب العدلي بالقرب من جامعة بغداد. هناك التقى بالدكتور دحام فقبّله واستدعاه على قدح من الشاي. وبينما هما جالسان فتح الحديث معه حين قال،
عبد الحليم : لقد سمعت من النقيب منتظر انكم تسلمتم جثة رجل يدعى ابو جميعة عبد الغفور هذا الصباح هل هذه معلومة صحيحة؟
الدكتور دحام : انت تعلم ان هذه المعلومات سرية ولا يمكنني البوح بها. ولكنك منا وفينا وكل ما استطيع قوله هو ان الخبر صحيح.
عبد الحليم : هل كان حادث سير.
الدكتور دحام : اجل ولكن من نوع غريب.
عبد الحليم : وكيف يكون حادث سير من نوع غريب؟
الدكتور دحام : اوف انت تضغط علي لتستل مني المعلومات. حسناً ساخبرك. يبدو ان المركبة التي دهسته قامت بدهسه مراراً وتكراراً لاننا استدلينا بذلك من عدد البصمات المتكررة للعجلة بشكل متوازي على جسده محدثة خطوطاً عريضة من العظام المهشمة.
عبد الحليم : إذاً هي جريمة قتل وليست حادثاً عشوائياً.
الدكتور دحام : اجل ولكن كفاك عن هذا الحادث واحكي لي الآن. متى سنزوجك ونفرح بك من جديد؟
عبد الحليم : قبل ان تفرح بي وتورطني بالزواج، كيف عرفتم اسم المجني عليه؟
الدكتور دحام : كان يحمل هوية عليها اسمه وعنوانه.
عبد الحليم : هل تسمح لي بان اعرف عنوانه؟
الدكتور دحام : لا ارجوك، ستقحمني بمشاكل مع المدعي العام انا في غنى عنها.
عبد الحليم : هناك احتمال ان في داخل ذلك العنوان وقعت جرائم اختطاف واغتصاب شنيعة. لذا ارجوك اعطني العنوان وسوف لن انسى لك هذا الجميل ابداً.
الدكتور دحام : طيب، امري الى الله. انه 12/104 شارع صلاح الدين الايوبي، السيدية.
عبد الحليم : شكراً حبيبي دحام.
الدكتور دحام : إذا سجنت بسبب ذلك، فانت الذي ستأتي لزيارتي بابو غريب.
عبد الحليم : لا قدر الله. سوف لن تسجن ان شاء الله، وداعاً دكتورنا الورد.
خرج عبد الحليم من الطب العدلي وتوجه الى منطقة المنصور للتحقق من بعض المعلومات التي تخص قضية اخرى طلبتها منه السيدة مديحة المحامية وقرر التأكد من عنوان ابو جميعة فيما بعد. في اليوم التالي دخل عبد الحليم مكتب المحاماة مستعملاً مفتاحه الخاص وتوجه الى المطبخ. وبينما هو يعد الشاي سمع باب المكتب ينفتح فتناديه مديحة قائلة،
مديحة : هل انت هنا يا عبدو؟
عبد الحليم : اجل سيدتي انا بالمطبخ، هل اعد لك الشاي معي؟
مديحة : اجل حضّر الشاي، لقد جائت معي زهور.
هنا قالت زهور باعلى صوتها،
زهور : ارجو ان تجعله غامقاً يا عبدو.
عبد الحليم : وانا كذلك احب الشاي غامقاً عزيزتي زهور.
احضر عبد الحليم صينية عليها ثلاثة اقداح شاي ليجلس مع السيدتين بمكتب المحامية مديحة فبدأت الحديث،
زهور : يبدو عليه انه اختمر جيداً، سلمت يداك يا عبدو.
مديحة : والآن اخبرني عن نشاطاتك؟
عبد الحليم : اولاً ذهبت الى المنصور مساء البارحة وجلبت لك المعلومات التي طلبتيها بخصوص المقاول حسين الجزراوي وهذه هي الادلة تفضلي. بعدها ذهبت الى مركز الشرطة والتقيت بصديق قديم لي اعطاني بعض المعلومات ليضعها لنا على طبق من فضة.
مديحة : اخبرني فانا كلي آذان صاغية.
عبد الحليم : اولاً، علمت ان الحارس في قضية احتجاز زهور كان اسمه الكامل ابو جميعة عبد الغفور. ثانياً لقد نفق هذا الحيوان في حادث سير البارحة صباحاً في مستشفى الكاظمية.
مديحة : هل كان قضاءاً وقدراً؟
عبد الحليم : كلا طبعاً، الطبيب العدلي اخبرني ان هناك طبعات عجلات سيارة واضحة متوازية ومتكررة على جسده مما يدل على ان السائق دهسه وعاد ليدهسه مرأت عدة كي يتأكد من انه قد ارداه قتيلاً. وبهذا فانها جريمة قتل عمد بدون شك.
مديحة : وهل تمكنت من معرفة عنوان بيته؟
عبد الحليم : طبعاً، العنوان هو 12/104 شارع صلاح الدين الايوبي، بمنطقة السيدية ببغداد.
مديحة : السيدية؟ إذاً البيت ليس بعيداً من بيتي. وهذا يعني ان زهور عليها مشاهدته لنتأكد 100% من انه نفس المكان الذي احتجزت وعذبت فيه.
زهور : ارجوكِ اعذريني يا امي. فهذا امر مستحيل. انا لن اذهب بمحض ارادتي الى ذلك القفص ثانية.
عبد الحليم : عزيزتي زهور، انا ساكون معك كل الوقت وسوف لن اسمح لاي مخلوق ان يصيبك باي مكروه.
زهور : انسى الامر يا عبدو. انا لن اذهب برجلي الى ذلك المكان ثانية وهذا امر نهائي.
مديحة : باصرارك هذا نحن نستشف انك كنت تُغتصبين بمزاجك ولم تكونِ مكرهة.
زهور : كيف تقولين ذلك؟ لقد سرقوا مني كل حياتي. كيف تفكرين بي بهذه الطريقة بعد ان سكنت عندك واعتبرتيني مثل ابنتك؟
جهشت زهور بالبكاء بعد ان قالت تلك الجملة.
مديحة : إذاً يجب عليك ان تذهبي مع عبدو كي تعايني المكان وربما ستتذكرين المزيد من المعلومات التي قد تساعدنا على الصاق التهمة بالمجرمين الاربعة لنسوقهم الى منصة المشنقة.
عبد الحليم : امشي معي زهور وساعطيك مسدسي كي تدافعي به عن نفسك ولك الحق ان تطلقي النار على اي انسان تريدين حتى وان كنت انا منهم.
زهور : لا سامح الله، كيف اطلق عليك النار يا عبدو. لا، لا اريد اي سلاح وساذهب معك وامري الى الله.
عبد الحليم : إذاً سنذهب غداً في الصباح الباكر لانني مشغول اليوم. اريدك ان تأتي مبكرة الى المكتب كي نذهب الى السيدية سوية وسنعاين المنزل هناك.
مديحة : جيد جداً والآن دعنا نبدأ عملنا.
وما هي الا دقائق ورن هاتفها لتستمع للدكتورة مادلين تبلغها بان التقرير الطبي قد اصبح جاهزاً وان الصور التي توضح الكدمات وآثار العنف بداخل الملف اصبحت جاهزة. فسألتها،
مديحة : هل تعاني زهور من اي امراض جنسية او وقع الحمل اثر الاغتصاب؟
دكتورة مادلين : كلا هي خالية من الامراض وصحتها جيدة جداً ولم تحبل.
باليوم التالي ذهبت زهور وحدها مبكرة بالحافلة ودخلت مكتب المحاماة مستعملة المفتاح الذي زودتها به مديحة واعدت الشاي لتجلس وتنتظر عبد الحليم. وما هي الا دقائق ودخل عليها عبد الحليم وقد قام بحلاقة ذقنة واصبح وسيماً. قال،
عبد الحليم : هل انت جاهزة؟
زهور : لا انا لست جاهزة ولكن ماذا اعمل؟ انا مرغمة على الذهاب معك.
عبد الحليم : إذا اردنا الايقاع بالسفلة فلا بد ان نفعل ما نفعل. هيا عزيزتي تعالي معي ولا تخافي.
ركب الاثنان سيارة عبد الحليم الـ (موسكوفيچ) وتوجها بها الى منطقة السيدية. وفور وصولهما موقع الدار وجدوه منتصباً بوسط مساحة كبيرة من التراب (بالچول). وقفت امام البيت سيارتان تعرف عليهما عبد الحليم وقال،
عبد الحليم : هذه السيارات تابعة لفريق البحث الجنائي. جاؤوا ليحققوا بموت صاحب الدار ابو جميعة عبد الغفور.
زهور : عظيم جداً، دعنا نعود للمكتب إذاً.
عبد الحليم : انتظري عزيزتي، سوف نترصد لهم هنا حتى ينتهوا من عملهم ويغادروه ثم نبدأ ابحاثنا بعدهم.
زهور : ماذا لو تأخروا كثيراً؟ فالسيدة مديحة وحدها بالمكتب وليس لديها من يعد لها الشاي.
عبد الحليم : لا تراوغي يا محتالة. الشاي ليس مهماً الآن. اصبري، سوف نبقى هنا نراقبهم من بعيد.
زهور : حسناً كما تشاء.
عبد الحليم : اسمعي زهور، هل تحبين الاغاني العربية ام الشرقية؟
قالها وهو يفتح الراديو.
زهور : احب العربية فقط، فالاجنبية لا افهمها. احب ام كلثوم وعبد الحليم.
عبد الحليم : هل هذا صحيح؟ أتحبين عبد الحليم؟
احمر وجه زهور وابتسمت ثم انزلت رأسها خجلاً لانها شعرت بالاحراج قالت،
زهور : كنت اقصد المطرب عبد الحليم المصري.
عبد الحليم : إذاً انت لا تحبين عبد الحليم العراقي؟
زهور : حتى وان احببت عبد الحليم العراقي فاين انا منه؟
عبد الحليم : انت تستحقين كل خير يا زهور. ولولا انني مؤمن بذلك فلماذا نحن هنا؟
زهور : شكراً اخي.
عبد الحليم : اخي؟ اخي؟ هل قلت اخي؟
زهور : شكراً عبدو.
عبد الحليم : انا لا اطلب منك الثناء. انا فعلاً احبك واتمنى لك كل خير.
زهور : انت تتحدث هكذا لانك مررت بتجربة الطلاق القاسية مؤخراً وكما يقول المثل الفلسطيني اعزب دهر ولا ارمل شهر.
عبد الحليم : وكيف عرفت هذا المثل؟
زهور : سمعته بالراديو.
عبد الحليم : لا عليكِ عزيزيتي.
وبعد مضي اكثر من ساعتين من الدردشة الهادئة خرج فريق البحث الجنائي من المنزل ليضعوا امتعتهم بسياراتهم ويرحلون بعيداً عن المنطقة. قال،
عبد الحليم : لقد جائت اللحظة التي كنا ننتظرها.
ادار محرك السيارة واقترب من الدار فترجلا وصارا يتفحصان المكان. بعد ذلك وقف عبد الحليم امام الباب وراح يعالج قفل الباب باسلاك معدنية اخرجها من جيبه حتى انفتح معه. دخل عبدو اولاً لتتبعه زهور. ولما وصلا الى الغرفة التي كانت تحتجز فيها صارت ترتعد وتتعرق. وضع عبدو ذراعه حول كتفها وصار يطمئنها بان كل شيء على ما يرام قال،
عبد الحليم : احكي لي كل ما تتذكرين من احداث وقعت لك بهذه الغرفة.
بدأت زهور تقص عليه كل الاحداث البشعة بتفاصيلها المؤلمة. اين كانت تغتصب واين ضربت ابو جميعة الحارس بالصحن واين سقط على الارض وكيف اخذت المفاتيح من جيبه. ومتى فرغت من سرد قصتها قالت، "وهذا كل ما حدث".
عبد الحليم : يا حبيبتي يا زهور، كان الله في عونك. لقد كابدت كل هذا الظلم وانت وحدك. ثم تمكنت من الهرب لتصلي الى بر الامان. انت ارجل واشجع من مئات الرجال الذين يربون الشوارب تحت انوفهم.
لم يجد الثنائي اي دليل متبقي بداخل الدار لان فريق البحث الجنائي كانوا قد ازالوا واخذوا معهم كل الادلة للتدقيق فيها. وبعد ان اكملوا معاينة البيت عادوا واحكموا قفل الباب ليرجعوا الى المكتب كي يبلغوا مديحة بالتفاصيل. ولما وصلوا المكتب سألت مديحة،
مديحة : هل وجدتم اي دليل نستطيع التعرف به عن الرجلين المجهولين المتبقيين؟
عبد الحليم : كلاً، لحد الآن لدينا فقط ثلاثة اسماء كما اخبرتك سابقاً وهي جميل السامرائي القاضي، النقيب هيثم المدفعي وابو جميعة عبد الغفور الحارس المقتول دهساً.
مديحة : وما هي خطوتك التالية؟
عبد الحليم : ساحظر فاتحة ابو جميعة لاحاول ان استقصي بعض المعلومات هناك.
مديحة : عفاك يا عبدو. هيا اخرجا الآن، لان عندي قضية يجب ان ادرسها بتروي وبعدها ساذهب للمحكمة لاترافع فيها.
باليوم التالي ذهب عبد الحليم الى قاعة قام بالتبرع بها مختار الحي حيث اقيمت فيها الفاتحة على روح ابو جميعة وذلك لان بيت المتوفي ما زال محضوراً من قبل فريق البحث الجنائي. دخل عبد الحليم وجلس ثم قال، "رحم الله والديه القرا الفاتحة" فرفع الكثير من الحاضرين ايديهم وصاروا يقرأون الفاتحة نظر الى يمينه فرأى رجلاً مفرط البدانة يرتدي دشداشة بيضاء وچراوية بغدادية تقليدية قال له عبد الحليم،
عبد الحليم : رحم الله الفقيد.
لكنه اصيب بصدمة شديدة عندما سمع الرد حين قال،
الرجل البدين : الله لا يرحمة اينما كان.
عبد الحليم : لماذا يا اخي؟ لا يجوز على الميت سوى الرحمة.
الرجل البدين : هذا الرجل كان دوني حقير اعتاد على استغلال الناس وكان يقتات على المال الحرام. عسى الله ان لا يرحمه.
عبد الحليم : هل استغلك بشيء لتقول ذلك؟
الرجل البدين : لست انا وحدي فقط من ضحاياه بل الكثير الكثير من الناس كانوا سعداء لانه رحل الى جهنم وبئس المصير.
عبد الحليم : إذا كان بهذا القدر من السوء فلماذا اتيت لفاتحته؟
الرجل البدين : المختار كريم جداً وقد اعد وجبة پاجة للجميع. وانا احب الپاجة، لهذا جئت اليوم كي اكلها.
عبد الحليم : الم يعرف المختار مدى سوء سلوك المتوفي؟
الرجل البدين : المختار كان اول ضحاياه. فقد ابتز منه 500 دينار.
عبد الحليم : لا حول ولا قوة الا بالله. ولكن ماذا كان عمل المرحوم ؟
الرجل البدين : كان عاطلاً عن العمل.
عبد الحليم : لكنني سمعت انه يملك عقاراً هنا بالسيدية فكيف يكون عاطلاً عن العمل ويملك عقاراً؟ انه امر محير حقاً.
الرجل البدين : يقولون انه اتفق مع احد القضاة بالمحكمة كي يشهد له زوراً على شخص ما وبالمقابل اشترى له ذلك القاضي بيتاً بالسيدية.
هنا بدأت النجوم تلمع بعين عبد الحليم وعلم انه عثر على كنز من المعلومات حين سأله،
عبد الحليم : قلت لي احد القضاة؟ اتعرف اسمه؟ او متى وقع ذلك؟
الرجل البدين : لا اعرف اسم القاضي ولكن القضية كانت في كانون الاول قبل ثلاث سنوات لانني ختنت حفيدي بنفس اليوم.
عبد الحليم : فهمت، فهمت. لا حول ولا قوة الا بالله.
وبالفاتحة استفسر عبد الحليم من بعض رجال آخرين عن المتوفي وكان جوابهم لا يختلف كثيراً عن جواب الرجل الاول لذا اكتفى بالمعلومات التي تحصل عليها فركب سيارته ورجع بها الى المكتب فلم يجد احد هناك. باليوم التالي وضع عبد الحليم ورقة يخبر فيها الجميع بانه سيذهب الى المحكمة اولاً قبل المجيء الى المكتب. وعندما عاد من المحكمة وجد مديحة مشغولة مع احد موكليها. انتظر لدى زهور في المطبخ قليلاً حتى خرج الموكل وقتها دخل عليها وقال،
عبد الحليم : سوف لن تصدقي ما عرفت البارحة بالفاتحة، لقد فزنا بجائزة يانصيب انشاء المستشفيات الاولى.
مديحة : هات ما عندك لقد شوقتني كثيراً.
عبد الحليم : علمت الامس بالفاتحة من جراء حديثي مع بعض الرجال هناك ان ابو جميعة عبد الغفور حارس البيت كان يعمل لدى زوجك بشكل غير رسمي.
مديحة : ربما تقصد طليقي فقد تم الطلاق فيما بيننا بالامس ولم يعد زوجي لانني لم اعد احتمله وارتحت منه. اما هو فلم يكن يصدق انني طلبت الطلاق فوافق على الفور. ولكن كيف عرفت ان ابو جميعة كان يعمل لديه؟
عبد الحليم : قالوا لي ان ابو جميعة كان عاطلاً عن العمل لكنه يمتلك بيتاً اثر شهادة زور قدمها بالمحكمة لدى احد القضاة. لذا قررت البحث عن ذلك القاضي الذي طلب منه ان يشهد بالزور. وعندما ذهبت هذا الصباح الى المحكمة طلبت من احد اصحابي القدامى من الذين يعملون بارشيف المحكمة كي يدعني احدق بالقضايا القديمة التي حكم فيها زوجك (اقصد طليقك) بالعفو في غضون شهر كانون الاول قبل 3 سنوات. فعثرت على القضية التي ادت الى شنق رجل وبرائة آخر وكان الفاصل فيها شهادة احد الشهود واسمه (ابو جميعة عبد الغفور) كم هي صدفة عجيبة!. لذلك يبدو ان طليقك اعطاه المال لشراء ذلك البيت البعيد وسجله باسمه لدى (الطاپو).
مديحة : ولكن الكثير من الناس يشترون ذمم الرجال المتواطئين معهم مقابل اموالاً اقل من ذلك بكثير. يكتفون بمنحم بضع مئات من الدنانير.
هنا دخلت زهور على الخط لتعلق،
زهور : اجل ولكن ليس لكي يحول البيت الى ماخور ومكان للمتعة والاغتصاب وتفريغ شحنات الغضب.
عبد الحليم : يسلم فمك زهورتي.
مديحة : شيء لا يصدق. ايــــــــــه ياما تحت السواهي دواهي. كل هذا يطلع منك يا جميل النذل؟ كيف انخدعت بك طوال تلك السنين بصيامك وصلاتك وسبحتك التي لم تكن تفارق يمينك. عزيزي عبدو اسمع مني جيداً، بقي لدينا شخصية الرجلين الغامضين المتبقيين ونكون قد تمكنا من تجميع ملف كامل متكامل نستطيع تقديمه للنيابة كي تتمكن من النيل من هؤلاء المجرمين.
عبد الحليم : لكي أحقق ذلك، اريد ان اسألك سؤالاً مهماً: هل تعرفين اسم المدرسة الثانوية التي درس فيها طليقك القاضي جميل؟
مديحة : اجل، اعتقد انه درس بالاعدادية المركزية ببغداد.
عبد الحليم : اذكر انني عندما اردت ان اجلب صورة النقيب هيثم المدفعي من مركز شرطة الكاظمية، قرأت بملفه انه هو الآخر درس بالاعدادية المركزية. اهي صدفة يا ترى ام انها...
مديحة : يبدو انها ليست صدفة ابداً.
عبد الحليم : جيد جداً، ساذهب اليوم الى المدرسة لاحفر الطين واخرج الجواهر من تحتها.
مديحة : كان الله في عونك يا عبدو.
خرج عبد الحليم من مكتب المحامية وتوجه الى واحدة من اقدم واعرق صروح التعليم بالعراق انها الاعدادية المركزية التي تخرج منها كبار المفكرين والعلماء ورجالات الدولة. دخل مبنى المدرسة وتوجه الى مكتب المدير. طرق الباب فاذن له فدخل وحياه حين قال،
عبد الحليم : السلام عليكم حضرة المدير.
المدير : وعليكم السلام اخي تفضل. كيف استطيع خدمتك؟
عبد الحليم : انا محقق لدى مكتب محاماة وابحث عن معلومات تدلني على احد طلابكم ممن تخرجوا قبل 18 سنة.
المدير : انا لم اكن اعمل بهذه المدرسة في ذلك الحين، ولكن لدينا احد المدرسين المخضرمين لا يزال يدرّس عندنا مادة الكيمياء لطلاب الرابع عام والخامس العلمي. هذا الاستاذ اسمه كمال الجميلي.
عبد الحليم : واين استطيع ان اجده؟
المدير : انه الآن يجلس في غرفة المدرسين لان لديه فراغ، ستبدأ حصته بعد حوالي 45 دقيقة.
عبد الحليم : أتأذن لي بالتحدث اليه سيادة المدير؟
المدير : بالتأكيد. اخرج من هنا واتجه يساراً حتى تصل الى لوحة على الباب كتب فوقها غرفة المدرسين.
عبد الحليم : شكراً لك سيدي.
طرق عبدالحليم الباب فاذن له فوجد رجلاً اصلعاً ستينياً احيط شعره بالشيب من الطرفين. انتصب ذلك الرجل عن هامة طويلة وجسد نحيل تعلوه ابتسامة مريحة للنفس قال،
كمال الجميلي : تفضل اخي، هل انت ولي امر احد الطلاب؟
عبد الحليم : كلا سيدي، انا محقق وابحث عن المعلومات التي تخص احد طلابكم القدامى. ابلغني السيد المدير بانك كنت تعمل بالمدرسة في ذلك الوقت.
كمال الجميلي : عمن تبحث وما اسم الطالب؟
عبد الحليم : اسمه جميل السامرائي.
كمال الجميلي : جميل، جميل، جميل، اجل تذكرت. انه كان في شعبة الخامس (د). لم يكن هناك الصف السادس وقتها.
عبد الحليم : ماذا تعرف عنه سيدي؟
كمال الجميلي : كان طالباً مشاغباً ولديه شلة اصدقاء مشاغبين مثله، كنا نطلق عليهم شلة الانس. لكنه كان من الطلاب المجتهدين لذلك لم نتمكن من طرده او كبح جماحه كما ينبغي. اعتقد انه دخل كلية الحقوق فيما بعد. بعضهم يقول انه اصبح قاضياً.
عبد الحليم : اجل هذا صحيح. لكنك قلت انه كان ينتمي الى شلة الانس. الا حدثتني عنهم؟
كمال الجميلي: كانوا اربع طلاب يمثلون بؤرة الفساد و اصل المشاكل بالمدرسة. فكلما كانت تقع مشكلة كبيرة الا ووجدنا ان شلة الانس كانت ورائها. لقد ذقنا ذرعاً بتصرفاتهم لكنهم كانوا مسنودين من الاعلى. اتفهمني؟
قالها وهو يغمز بعينه اليسرى.
عبد الحليم : اجل، اجل افهمك استاذي الفاضل. اكمل لو سمحت.
كمال الجميلي: كانوا يبتزون بعض الطلاب ويقومون بايذاء بعضهم الآخر لكننا كنا مكتوفي الايدي لاسباب لا تخفى الى الجميع.
عبد الحليم : ما هي اسماء هذه الشلة؟
كمال الجميلي: جميل السامرائي، هيثم المدفعي، علاء ولاء القيسي وفراس سالم الاحمر.
عبد الحليم : ما شاء الله عليك استاذي، كيف تستطيع ان تتذكر كل هذه الاسماء الثلاثية منذ 18 سنة؟
كمال الجميلي : البعض يسميني الرجل ذو الذاكرة الفولاذية.
عبد الحليم : وهل تعرف مصير باقي الشلة؟ واين درسوا فيما بعد؟
كمال الجميلي : كلا. كنت اعرف فقط رئيس تلك العصابة كما كنا نطلق عليها سابقاً.
عبد الحليم : استاذ كمال، انت لا تعرف ما هو حجم الخدمة التي قدمتها لي اليوم بهذه المعلومات.
كمال الجميلي : هل لي ان اعرف المزيد عن القضية التي تبحثون عنها؟
عبد الحليم : بالوقت الحالي لا استطيع. ولكن اعدك بشرفي انني ساقوم بزيارتك بعد ان تنتهي القضية لسببين: اولاً لاتبرك بعلمك واسعد بلقائك والثاني لاخبرك بتفاصيل القضية. اسعدت صباحاً سيدي.
كمال الجميلي : حفظك ربي يا ولدي.
عبد الحليم : استاذي الفاضل لقد تذكرت، لدي سؤال شخصي اخير لو سمحت: هل انت مستعد لان تشهد بالمحكمة إن طلبتك للشهادة؟
كمال الجميلي : بكل تأكيد. فهذا واجب اخلاقي ووطني.
خرج عبد الحليم وهو في غاية السعادة، لان احجار (الدومينو) قد اصطفت واصبحت جاهزة لكي تتهاوى فوق بعضها البعض تباعاً. لقد تعرف اليوم على جميع من شارك في ايذاء تلك المسكينة زهور والتي اصبحت تمتلك مكانة خاصة في قلبه. اهي مكانة عاطفية ام انها مجرد رأفة لانها تكبدت الكثير من الآلام؟ هو لا يعلم بالتحديد ولديه المتسع من الوقت كي يتمكن من التمييز بينهما. ركب سيارته وعاد مسرعاً الى المكتب. ولما دخل هناك وجد بعض المراجعين ينتظرون دورهم في الدخول على المحامية. ذهب الى المطبخ ليجد زهور منهمكة بالكتابة. ولما انتبهت لوجوده ابتسمت وقالت،
زهور : اليوم تعلمت كتابة اسمي بالكامل انظر.
عبد الحليم : شاطرة يا زهور. عفاك يا بطلة. لقد تقدمت كثيراً في الكتابة وخطك يشبه وجهك. جميل كل الجمال.
زهور : هل لديك اخبار سارة؟
عبد الحليم : لدي اخبار سوف تفرحك وتفرح مديحة بشكل كبير، كبير جداً.
زهور : ما هي اخبرني؟
عبد الحليم : سانتظر حتى تفرغ زهور من جميع مراجعيها ونجتمع نحن الثلاثة لاخبركما بما عثرت عليه.
زهور : لقد شوقتني عبودتي، ما هي ارجوك اخبرني.
عبد الحليم : آخ، لقد ذوبتيني بكلمة عبودتي ولكن عليك ان تنتظري حتى الاجتماع.
تظاهرت زهور بالحزن لتغير ملامح وجهها وتنظر للارض قالت،
زهور : طيب كما تشاء، هل تريد قدحاً من الشاي؟
عبد الحليم : اجل لو سمحت.
اعدت له قدحاً من الشاي واهدته الورقة التي كتبت عليها اسمها الكامل لاول مرة ففرح بها كثيراً. بقيت زهور وعبد الحليم يدردشون بامور كثيرة البعض منها مهم والبعض الآخر غير ذلك حتى مرت عليهما ساعتان دون ان يشعرا بالوقت. فجأة سمعا صوت مديحة تقول،
مديحة : هل انتما جالسان بالمطبخ؟
زهور : كنا ننتظرك حتى تفرغي من مراجعيك ثم ندخل عليك ليزف لنا عبدو اخباراً سارة. لقد توسلت اليه كي يخبرني بها لكنه رفض.}
مديحة : إذاً احظروا الشاي واتبعوني الى مكتبي كي نستمع اليها سوية.
رجعت مديحة الى مكتبها فتبعها عبدالحليم. وبعد قليل دخلت عليهما زهور بصينية عليها ابريق شاي كبير وثلاثة اقداح قالت،
زهور : اكاد اموت من الحماس. هيا يا عبدو ابدأ بكلامك ارجوك.
عبد الحليم : اولاً سيداتي الاكارم عرفت اسماء جميع المجرمين الذين احتجزوا زهرتنا الجميلة. هل انتم جاهزون؟ الاسماء هي كالتالي: جميل السامرائي، هيثم المدفعي، علاء ولاء القيسي وفراس سالم الاحمر. نحن نعلم الاثنان الاولان القاضي جميل وضابط الشرطة هيثم. لكنني اليوم عرفت اسمان آخران وهما علاء ولاء القيسي وفراس سالم الاحمر.
مديحة : ومن يكونا هؤلاء الاثنان؟ وماذا يعملان؟ اهما محاميان؟
عبد الحليم : ارجو منكِ الصبر سيدتي فانا لم اكمل كلامي، احم احم.
هنا بدأ عبدو يقص عليهما كل ما دار بينه وبين الاستاذ كمال الجميلي بالاعدادية المركزية وكيف فضح المصائب التي كانت تقترفها شلة الانس القذرة بالمدرسة وقتها. بعد ذلك خرج من المدرسة وصار يبحث وراء الشخصين المجهولين علاء ولاء القيسي وفراس سالم الاحمر فوجد انهما تخرجا من كلية الادارة والاقتصاد وصار الاول اي (علاء) يعمل نائب مدير فرع لدى بنك الرافدين والثاني اي (فراس) يشتغل محاسباً لدى شركة ايطالية اسمها سنام پروجيتّي بعدها ذهب عبد الحليم بطريقة عبقرية ملتوية وتمكن من الحصول على صورهم ليضعها على طاولة مديحة وقال،
عبد الحليم : زهور عزيزتي، انظري الى هذه الصور جيداً واخبريني إن كانوا هم الذين اعتدوا عليك جميعاً.
مديحة وعبد الحليم لاحظا ان لون زهور قد تغير وكان الانفعال بادي عليها حين اومأت برأسها وقالت،
زهور : نعم، انهم هم بدون شك.
عبد الحليم : هل انت متأكدة منهم جميعاً؟
زهور : اجل هذه المجموعة التي احياناً كانوا ياتون سوية ويجلسون خارج الغرفة ينتظرون دورهم واحياناً يدخل واحدهم البيت وحده بالنهار ويغادر بعد ان ينتهي من الاغتصاب.
مديحة : وهذا يعني ان القضية قد اكتملت من جميع اوجهها وقد حصلنا على الادلة الكافية لادانتهم. سنهيئ ملفاً كاملاً متكاملاً ونذهب به الى الشرطة لنقدم بلاغاً. ثم نزور السيد رجب عبد سلام المدعي العام كي نطرح عليه القضية برمتها ونسلمه الملف الذي اعددناه.
جمع الثلاثي مديحة وعبدو ومعهم زهور الصور والادلة الدامغة كي ينالوا من المجرمين الاربعة. فهل ستكون الادلة كافية لادانتهم وحصولهم على حكماً صارماً لينالوا العقاب الذي يستحقونه ام ان اموراً اخرى سوف تستجد بالقضية لتعرقل تلك الجهود التي تطلبت الكثير من الوقت والعمل الدؤوب لجمعها؟ الجواب على تلك التسائلات ستكون بالجزء الثاني والاخير من روايتنا. فالى اللقاء بقاعة المحكمة.
733 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع