البيت الكردي للسلام الدائم

                                                            

                            الدكتور شايان الجاف
                          ١٥/سبتمبر/ ٢٠٢٢
                           السليمانية- العراق

البيت الكردي للسلام الدائم

تتعايش القوميات الأربعة، العرب والترك والفرس والكرد ‏في دول ‏عديدة في الشرق الأوسط ‏أهمها ‏العراق وإيران وتركيا وهي دول جوار إقليمية، ‏بالإضافة إلى ذلك يتعايشون ‏داخل كل دولة من هذه الدول ‏الثلاثة ‏منذ آلاف السنين. ‏ففي مرحلة من التاريخ‏ ‏شعر العرب بالظلم، وفي مرحلة أخرى ‏شعر الفرس بذلك، ‏وكذلك ‏الترك والكرد ‏في ‏حقب زمنية لاحقة، ‏ولكن معيار الظلم يختلف ‏نسبيا ‏من قومية لأخرى. ‏فما كان ‏ظلما بالنسبة للعرب، ‏كانت عدالة بالنسبة للفرس، ‏كذلك ما كانت عدالة بالنسبة للترك هو ظلما ‏بالنسبة للكرد، ‏على سبيل المثال ‏يعتبر نادر شاه بطل قومي بالنسبة للفرس ‏ولكنه محتل غازي بالنسبة للعرب،‏ كما يعتبر مصطفى كمال أتاتورك ‏أب ‏منقذ للترك و ‏لكنه محتل غازي بالنسبة ‏للكرد والعرب. ‏هنا نتساءل ‏كيف يمكن ‏أن نتوصل إلى معيار موحد للظلم والعدالة من ناحية السيكولوجية الجماهيرية المتعايشة مع بعضها البعض؟ ‏قد يكون الجواب ‏الشبه مؤكد هو المعيار الإنساني الذي يتجاهل جميع العقد الاجتماعية ‏التي تؤدي إلى العنصرية، ‏ومن ثم إلى التطرف ‏القومي ‏أو الديني المذهبي ‏أو الأيديولوجي. ‏ ‏ولكن ذلك قد يحتاج إلى ‏تطبيق النظرية البنائية الاجتماعية ‏التي ‏تركز على الفرد والمجتمع ‏للتأثير ‏على العقل الجمعي ‏لتغيير‏ ‏سلوكه إيجابيا، وهذا يعني ‏وحسب ‏نظرية العدالة ‏للفيلسوف الأمريكي ‏جون رولز ان ‏قراءة جديدة لعقد ‏اجتماعي جديد ‏لابد من أن تكتب وتقرأ ‏ومن ثم تنفذ. ‏فبعد فشل الحكومات منذ آلاف السنين ‏من خلال ممارستهم للطرق الدبلوماسية على صعيد الحكومات لتحقيق العدالة ‏جاء دور الدبلوماسية المجتمعية لتحقيق ذلك، ‏وقد يكون ذلك ‏سهلا جدا ‏لو ‏وضعت استراتيجية‏ مجتمعية ‏علمية ‏لهذا الغرض. ‏فعليه لابد ‏ان ‏نغوص في عمق ‏مجتمعات القوميات الأربعة المذكورة أعلاه، وان نفهم ‏بشكل جيد ممن تتألف ‏تلك المجتمعات؟

‏ لنتخذ المجتمع الكردي في العراق نموذجا ‏ولكون مجتمعات ‏القوميات الأربعة المتماثلة في ‏طبيعة ‏تكوينها على الاغلب ‏فقد نتوصل إلى فهم تقريبي ‏مقبول نسبيا. يتألف الكرد في العراق من ‏مجموعة من الطبقات الاجتماعية التالية :
١. ‏طبقة رجال الدين
٢. ‏طبقة ‏الأكاديميين والمثقفين.
٣. ‏الطبقة السياسية والعسكرية.
‏٤. ‏الطبقة القبلية ‏والشخصيات المؤثرة على المجتمع.
٥. ‏طبقة التجار ‏والكسبة وآخرين.

‏بحسب ‏وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوگو، ‏طبيعة السلطة السياسية ‏متوزعة أفقيا ‏والتي تحرك ‏هذه السلطات هي ‏مصالحها ‏المتمثلة ‏باحتياجاتها ‏المتعددة. فكل ‏طبقة من ‏هذه الطبقات ‏المذكورة ‏أعلاه ‏لها ‏‏أهدافها ومصالحها ‏التي تسعى لأجلها، كما انها غير متفقة تماماً فيما بينها داخل الطبقة الواحدة، ‏ولهذا السبب تتسابق وتتنافس للحصول على مكاسب أكبر على حساب بعضها البعض. ‏وقد نستطيع ان نشخص طبيعتها ‏بما يلي:
‏١. كل طبقة من تلك الطبقات تعتبر نفسها مخولة لقيادة ‏المجتمع.
‏٢. ‏كل ‏الطبقات تعاني من عزلة فكرية ‏والحوار التواصلي شبه معدوم بينهم.
٣. ‏ انعدام الاستراتيجية ‏الموحدة ‏ ‏لتأسيس العقل الجمعي ‏والتوصل إلى ‏مصالح مشتركة ‏للجميع.
‏٤. ‏الإيمان المفرط بنظرية المؤامرة ‏ومبدأ التشكيك ‏بالأحداث المهمة ‏المحلية والإقليمية والعالمية.
٥. الايمان المفرط بثقافة الكاريزما وقائد الضرورة، وتجاهل القياسات المعيارية للقيادات السياسية والاجتماعية والعسكرية.
٦. الخلل في ضبط ‏المفاهيم والدلالات ‏كمفهوم ‏‏الحرية.
‏٧. يتحلى الكرد بقيم عظيمة منها حب الوطن والشجاعة و التسامح.
‏٨. ‏قد يتميز الكرد بثقافة عدم الاعتداء على ‏حقوق ‏الآخرين وهم شعب محبون للسلام.
‏٩. ‏يتحلى الكرد ‏كغيره من القوميات الأربعة ‏بالأخلاق الحميدة واهمها الكرم ‏والشجاعة ‏والتواضع.

‏استنادا إلى الإيجابيات والسلبيات ‏لطبيعة المجتمع الكردي، ‏فلابد من ‏تأسيس حوارات ‏فكرية بين الطبقات الاجتماعية ‏للتوصل إلى أهم المشتركات وتجاوز المختلفات، ‏وقد يكون الحل في الحوار ‏التعاوني التواصلي الفكري العلمي ‏الاستراتيجي. ‏‏ويشرح ذلك الفيلسوف الألماني يورگان هبرماس في نظرية الفعل التواصلي ‏أهمية ‏التواصل بين مجموعة وأخرى ‏على أساس ‏المعرفة، الأخلاق، القيم ‏والعقل،‏ ‏لتبني جسراً ‏تواصلياً بينهم ‏وتحريرهم ‏من العقد الاجتماعية، ‏‏فتكون مركباً جديداً بينهم ‏تسمى الذاتية المشتركة (intersubjectivity)، ‏ويمضون نحو التحرر السامي (emancipation)، وأكد هبرماس على المعرفة ايمانا منه بأن الفضيلة هي المعرفة، بحسب الفلسفة السقراطية واذا ما لم تؤدي المعرفة الى الاخلاق فذلك يدل على وجود الخلل المعرفي وتأكيده على الاخلاق كسلطة عليا لا يمكن لأي فرد من أفراد المجتمع بعدم الخضوع لها، وذلك استنادا الى كتاب "أصل الأخلاق" للفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، وأكثر من ذلك استنادا الى النصوص القرآنية التي تؤكد ان الاخلاق فوق كل شيء. كما ذكر الدكتور خزعل الماجدي في احدى محاضراته بان الاخلاق هو المفصل الذي ينظم العلاقة ما بين العناصر المادية والثقافية للحضارة. أما القيم، فهي بمثابة ميزان تقيم فيه الاعمال، فالقيم هي "‏تلك العادات والأخلاقيات ‏والمبادئ التي نستخدمها ‏ونمارسها في الكثير من ‏تفاصيل حياتنا اليومية، ‏وبصورة عامة فمصطلح ‏القيم هو ذلك التعريف ‏المستخدم في الكثير من مجالات ‏الحياة المختلفة ‏أي أنه طبقا لتفسيره من وجهة نظر علم الفلسفة أن القيم هي تلك الجزئية من الأخلاقيات والغايات التي ينشدها الإنسان". ويؤكد هبرماس بان العقل هو الذي ينظم العلاقة بين المعرفة والأخلاق والقيم ليتبادل أفكاره الحوارية مع مجموعات أخرى، حتى الوصول الى أفكار أكثر رقيا وتحررا.

استناداً لمقولة الفيلسوف هيگل بأن العقل يقود التاريخ وذلك بعد تحولها من العقل الأداتي الى العقل التواصلي الحر الذي يحترم عقيدة وعواطف الاخرين، فبطبيعة الحال بالمعرفة يفهم ذلك جيدا وبالقيم والأخلاق يصبح هذا العقل التواصلي اكثر جمالا فيسهل تقبله من قبل الاخرين فيشكل ذلك أساسا قويا في نظرية المفاوضة والوساطة أيضا التي من خلالها تحل فيه الصراعات والنزاعات والأزمات وحالة عدم الاتفاق على صعيد الافراد والمجتمعات، فيحسس الاخرين بالارتياح والطمأنينة والشعور بحسن النوايا وتخفيف الحدية في خلافات وجهات النظر للوصول الى مقترحات ومخرجات، والتوصل الى تسوية مقبولة من قبل الجميع وذلك علم يدرس في الدراسات الدولية في جامعات العالم (فض النزاعات)(conflict resolution) و من واجب المختص في هذا العلم ان يبسط ميكانيكية التفاوض لحل النزاع ليس على مستوى الاكاديميين فحسب بل على صعيد جميع الطبقات العامة وان يتنازل الاكاديميين عن بروجهم العاجية وان يتفاعلوا مع الطبقات الأخرى ولا نستثني حتى الأميين منهم، لان الاكاديمي من المفترض ان يتحلى بالمعرفة الكافية بان للأخرين مصالح، فالأمي حتى وان لم يتعلم القراءة والكتابة ولكن له مصالح ولابد من مراعاتها واحترامها، فالاكاديمي صاحب العقل التواصلي يجب ان يدعم تلك المصالح ويحددها ويشخصها استنادا الى معرفته واخلاقه وقيمه ويقدم تنازلات وتواضعات عرفية ليتحول ذلك الى ثقافة مجتمعية عامة تساعد على البناء الفكري للمجتمع لتتشكل حالة من العقل (state of mind) الذي ينمو ويتطور شيئا فشيئاً، ليقود الى تأسيس العقل الجمعي. وقد نتساءل بعد ان اطلعنا على ماهية العقل التواصلي ما هو العقل الاداتي الذي نطمح ان نتحول منه الى التواصلي، فالعقل الأداتي يعني العقل المقيد وموجه من قبل منظومة او مصدر معين وينقسم الى ثلاثة اقسام:

أ‌. العقل الأداتي الحسي، الذي يوكل عقلا معينا بالنيابة عنه ويستلم التوجيهات والاوامر وينفذها عن طريق حواسه الخمسة بدون ان يكون له رأياً.
ب‌. العقل الأداتي النظمي، وهو أيضا عقل موجه من قبل منظومة معينة كان تكون حزبية سياسية او دينية او أيديولوجية معينة مثل الماركسية، فنلاحظ بان الطبقات الاجتماعية في عهد حكم الاتحاد السوفييتي كانت أداة بيد المكتب السياسي للحزب الشيوعي، منهم السياسيين والاكاديميين والفنانين والرياضيين ولا يمكن الخروج عن هذا الخط اطلاقاً، ويكون اللاعب السياسي أداة بيد المنظومة المذكورة. لذلك فان العقل الاداتي النظمي هو عقل مقيد.
ج . العقل الأداتي الدراماتيكي (التمثيلي) وهو أيضا عقل موجه من قبل مصدر معين ويقوم بتنفيذ ما يطلب منه حسب ما تقتضيه المصالح الضيقة دون الاهتمام للمصلحة عامة وبإمكان العقل الأداتي الدراماتيكي ان يتحول من منظومة الى أخرى بحسب الظروف.

بعد ان اطلعنا على الفكر التواصلي والاداتي فقد اصبح واضحا بان التحول الاجتماعي مهم جدا لتحرير و بناء العقل الجمعي، وكما ذكرنا مسبقا قد لا تتوفر آلية بديلة عن الحوارات المجتمعية ما بين الطبقات الاجتماعية المذكورة وذلك بعد التنظير الاكاديمي، لذلك فالاكاديمي هو بمثابة الوسيط الذي يبحث ويتفحص المشتركات بين الافراد والمجموعات الاجتماعية وكما قال جون بول سالتر" اذا بكى طفل في آخر الأرض فهو من مسؤولية المثقف" فمسؤولية الاكاديميين والمفكرين كبيرة لانهم من يصنعون المثقفين ويقضون على الجهل الذي هو مصدر الفقر والمرض، فاذا قُضِيَ على الجهل قضي على الفقر وقل المرض فالعقل التواصلي يؤكد على المعرفة ويؤمن بانها الفضيلة كما اعتقد سقراط منذ فترة قبل الميلاد. والعقل التواصلي لا يطلب من رجال الدين تغيير معتقداتهم والخروج عن المسلمات الشرعية والنصوص القرآنية بل يقتبس ما هو مفيد للحوار المجتمعي وتقريب وجهات النظر واستغلال التأثير القوي والعميق للدين في قلوب وعواطف الجماهير، كما ان العقل التواصلي لا يحث على تحريض الجماهير للتسقيط السياسي للأحزاب بل يحث على إصلاحها والمحافظة عليها. نظراً لان (١٩٦) دولة في العالم تدار من قبل الأحزاب السياسية فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، هما حزبان جماهيريان ينبغي الحفاظ عليهما والحث على اصلاحهما ان تطلب ذلك، لان التعددية الحزبية تعتبر من اهم المقومات الرئيسية في الحياة الديمقراطية، كما ان العقل التواصلي يعتقد بان القبائل عامل قوة للحفاظ على التاريخ والتراث يقتبس ذلك للاستفادة منهم في الارتقاء بالحوار بين الطبقات الاجتماعية.

ان تحول الكرد والعرب والفرس والترك من العقل الأداتي الذي يسيطر على مجتمعاتها الى العقل التواصلي باتت اهميتها حتمية في وجهة نظرنا، فعلى الكرد في العراق ان يبني البيت الكردي المتجانس الهادف الى السلام الدائم، وان تصدر هذه الثقافة الى الاخوة العرب والتركمان لبناء البيت العربي والبيت التركماني للسلام الدائم وبأفكار موحدة للجميع لتأسيس بيت موحد تحت عنوان دار السلام للسلام الدائم عن طريق المعرفة والأخلاق والقيم والعقل. وعلى الكرد ان يفهموا جيدا بان اعتزازهم بقوميتهم لابد ان تدعم انسانيتهم ليكون الكرد والإنسانية وجهان لعملة واحدة وليرفع علم الإنسانية لأول مرة في الشرق الأوسط على ارض كردستان ولتتنافس نحن القوميات الأربعة نحو الإنسانية ومن يرفع العلم أولا وهو تنافس شريف لا نظير له في التاريخ فللكرد فرصة عليهم الا يضيعونها لكونهم المفصل بين القوميات الأربعة بسبب تواجدهم السكاني الجغرافي بين العراق وايران وتركيا بالإضافة الى سوريا فالكرد في القلب وختاما نوصي جميع شعوب الأرض اخص منهم الكرد حرروا فكركم قبل ان تحرروا ارضكم.

--------------

الگاردينيا:نتشرف بتواجد الدكتور شايان الجاف في حدائقنا وهذا التواجد يذكرنا بالشاعر الكردي الكبير احمد مختار الجاف وهو احد اعمام الدكتور شايان ولذلك من حقنا أن نفتخر بتواجده ففي عشيرة الجاف كل الخير والبركة منذ قرون..

نتمنى أن يكون للدكتور شايان المتسع من الوقت ليرفدنا بالمزيد من كتاباته الرائعة فبوجوده وأمثاله تكون حدائقنا أكثر رونقا و جمالا..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

921 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع