بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة (العرافة) - الجزء الاول
ملاحظة من المؤلف: بهذه القصة وردت رتب الشرطة المغربية بتسميات عربية عامة لتسهيل المهمة.
توقفت سيارة ليموزين بيضاء في مكان مجهول بين مزارع البرتقال ونزل منها السائق حسن يستقصي الامر من الفلاحين بينما بقيت السيدة بلقيس ذات الـ 62 عاماً جالسةً على المقعد الخلفي. كانت السيدة بلقيس متوترة جداً وشديدة الاضطراب والقلق لانها تريد ان تجد خضراء العرافة باي ثمن. فمنذ ان رحلت عن القاهرة بشكل نهائي لم تقع عيناها عليها ولم تسمع منها اي خبر بالرغم من ان السيدة بلقيس عملت المستحيل كي تعثر على ابنها محمود دون جدوى. فقد وظفت بعض شركات التحقيق ذات التخصص بالبحث عن المفقودين حول العالم مقابل مبالغ طائلة لكنهم لم يعثروا عليه. استعانت بالشرطة المصرية وبشرطة الجمارك والمستشفيات فلم يجدوه ولم يبقى امامها سوى خضراء. انها تعلم تماماً ان خضراء كانت تمتلك القدرة على قرائة الطالع وهي حذقة جداً بتنبؤاتها. لكن منذ ان رحلت من القاهرة. اختفت تماماً عن الانظار لم يتمكن احد من العثور عليها. فقد استقصت الكثير من الناس من معارفها بمنطقة العجوزة لكنهم اكدوا لها ان خضراء انتقلت الى بني سويف. واليوم جائت الى بني سويف مع سائقها حسن كي تبحث عنها علها تستطيع العثور عليها حتى تستدل عن ابنها محمود المختفي منذ 4 سنوات بعد تخرجه من كلية الشرطة مباشرةً ولم تعد تسمع عنه اي خبر. رجع السائق حسن الى السيارة وقطع سلسلة افكارها حين فتح الباب وجلس امام المقود فسألته،
بلقيس : هل دلك احد عليها يا حسن؟
حسن : سألت عنها بعض الفلاحين فاخبروني بانها تسكن بقرية نائية تسمى عزبة الصعايدة.
بلقيس : إذاً دعنا نذهب الى عزبة الصعايدة.
حسن : اخبرني احد الرجال ان هذه القرية خطرة جداً لان اغلب تجار المخدرات يسكنون فيها وحولها مما يشكل خطراً كبيراً عليك يا سيدة بلقيس.
بلقيس : هذا لا يهمني ابداً. اريد ان اعثر على ابني محمود باي ثمن. لقد جربت كل السبل ولم تنجح. اريد ان اعرف إن كان حياً ام ميتاً. فإن كان ميتاً اريد ان ابني له قبراً واغلق ملفه الى الابد وإن كان حياً فاريد ان اعثر عليه كي اضمه الى صدري واقبله واشم رائحته.
حسن : طيب يا مدام سنواصل البحث، لا تقلقي.
ادار محرك السيارة من جديد ونظر الى الخريطة التي بيده ثم صار يتتبع الطرق الزراعية حتى وصل الى طريق خارجي يمر بمحاذات نهر النيل متجهاً نحو قرية عزبة الصعايدة. وبينما كانت السيارة تسير، ارتطمت حصاة صغيرة باحدى نوافذها الجانبية فكسرته الا ان النافذة لم تتهشم وتسقط تماماً بل بقيت بمكانها مكسرة كالثلج. اوقف حسن السيارة وصار يلف حولها ليتبين الامر الا انه لم يجد شيئاً مريباً فعاد ليعلم سيدته،
بلقيس : هل امسكت بمن القى الحجر؟
حسن : كلا يا مدام. يبدو انهم اطفال صغار يلهون ويلعبون.
بلقيس : هذا ما يجب ان نتوقعه من مناطق الفلاحين النائية. لا عليك، دعنا نواصل رحلتنا يا حسن.
حسن : امرك سيدتي.
رجع حسن وجلس على مقعده وقاد السيارة لساعة او ما يزيد قليلاً حتى رأوا امرأة قروية تسير بمحاذاة الطريق الزراعي حاملة فوق رأسها قربة ماء. طلبت منه بلقيس التوقف ليسألها فاوقف السيارة وترجل منها ثم سار نحو المرأة ليكلمها فراحت تتحدث معه ثم تركته وواصلت سيرها. عاد حسن وجلس بالسيارة.
بلقيس : هل علمت منها شيئاً ؟
حسن : انها تقول ان خضراء قد توفت منذ سنتين وان علينا العودة من حيث اتينا.
بلقيس : انت تعلم ان هذا كذب وافتراء اليس كذلك؟ لا اعلم لماذا لا يعرف احد عن مكانها!
حسن : دعينا نعود الى القاهرة يا مدام ونواصل بحثنا في يوم لاحق.
بلقيس : هذا مستحيل. انا جئت اليوم كي اعثر عليها وساعثر عليها مهما كلفني الامر.
عاد فواصل السير حتى بلغ جسراً خشبياً عتيقاً مهترياً، اوقف السيارة وقال،
حسن : هذا الجسر قديم مهترئ جداً يا مدام لا اعتقد انه سيتحمل وزن السيارة.
بلقيس : سيتحملها يا حسن لا تخف. اعبر انت من فوقه ولكن ببطئ شديد.
عبرت السيارة فوق الجسر فلم ينهار بالرغم من انه كان يصدر اصواتاً مريبة. وحين بلغوا الطرف الثاني شاهدوا ولداُ صغيراً يسير على حافة الطريق. نزل حسن ليسأله ثم رجع لسيدته وقال،
حسن : يقول الولد ان خضراء موجودة في القرية التي امامنا. تبعد هذه القرية بضع كيلومترات فقط.
واصل السير بالسيارة حتى دخل قرية صغيرة بها منازل مبنية من طين. وبينما هو يمر بشوارعها الضيقة شاهد اربعة رجال حاملين بنادقهم على اكتافهم. انزل الشباك وسألهم عن خضراء فقال احدهم انها تسكن بآخر منزل بالقرية على جهة اليمين. شكرهم حسن وواصل السير البطيء حتى وصل الى المنزل الذي اشاروا اليه فاوقف السيارة لتنزل بلقيس مسرعة وتذهب فتطرق الباب. انتظرت قليلاً فلم تسمع اي رد، اعادت الطرق على الباب حتى سمعت صوت امرأة تقول،
المرأة : من هناك؟ من الطارق؟
بلقيس : افتحي الباب يا خضراء ارجوكِ ، اريد ان اتحدث معك.
فتحت الباب امرأة قروية مسنة وقالت،
المرأة : من انتم؟
بلقيس : اسمي بلقيس جئت ابحث عن خضراء واريد التحدث معها بامر خطير.
المرأة : خضراء مريضة جداً ولا تقوى على الكلام. تعالوا بوقت لاحق.
همت بغلق الباب الا ان بلقيس امسكت بالباب وقالت،
بلقيس : لا يمكن، ارجوك يا سيدتي. انها مسألة حياة او موت. اريد التحدث اليها. لقد جئنا من مكان بعيد.
فتحت المرأة الباب وسمحت لبلقيس الدخول فتبعها السائق حسن. اقتادتهم الى غرفة داخلية ليجدوا امرأة عجوز ممتدة على السرير لها ملامح خضراء ولكن يبدو انها تغيرت كثيراً فسألتها،
بلقيس : اهذه انت يا خضراء؟
اجابتها بصوت خافت متهدج،
خضراء : سيدة بلقيس؟ كيف عثرتِ عليّ؟ وما الذي اتى بك الى هنا؟
بلقيس : انا بمأزق كبير يا خضراء واحتاج مساعدتك كثيراً. ساعديني ارجوك.
خضراء : كيف لي ان اساعدك وانا على فراش الموت ولن...
صمتت خضراء ومالت برأسها الى الاسفل. صرخت بلقيس وقالت،
بلقيس : لا، لا، ارجوكِ لا تموتي. اريد ان اعرف عن ابني. لقد اختفى ولم يصلني منه اي خبر. ارجوك لا تموتي.
فتحت خضراء عينيها ثانية وبصعوبة كبيرة ثم قالت،
خضراء : اتركي الامر يا بلقيس. ابنك لم يعد كما كان في السابق.
بلقيس : ماذا تقولين يا خضراء انت التي ولّدتني ثم وضعتِ محمود بين يدي. ارضعته الرضعة الاولى ثم اخذتيه مني وقبلتيه، اتذكرين ؟
خضراء : كان ذلك محمود الطفل البريء. لكن محمود الآن هو شخص آخر. لقد تغير ابنك واصبح انساناً شريراً. اتركيه يا بلقيس، ارجع الى بيتك ولا تبحثي عنه. لقد تغير وصار خبيثاً شريراً لئيماً ذو قلب قاسٍ.
بلقيس : مهما كان شريراً وقاسياً. اتذكرين يا خضراء حينما كان يرتكب اعمالاً سيئة فاعاقبه فيأتي ويعتذر مني فيصحح خطأه؟ انا لن اتخلى عنه، انه ابني وانا اريد ان اضمه الى صدري. اخبريني الآن اين هو وكيف اصل اليه؟
خضراء : ابنك بعيد جداً انه في الـ... ان محمود في الـ...
سكتت خضراء واغلقت عينيها لكن بلقيس طبطبت على وجهها وضرخت بتوسل،
بلقيس : ارجوك لا تموتي يا خضراء. اريد ان اعرف مكان ابني ارجوكِ.
فتحت عينيها بصعوبة كبيرة وقالت،
خضراء : ابنك بـ... ابنك بالـ...
بلقيس : اجل، اجل اسمعك. اين هو؟
خضراء : بالمغرب.
بلقيس : هل سيعود بالمغرب؟ اتقصدين غداً في وقت صلاة المغرب؟
خضراء : قلت لك بالمغرب. انها بلاد بعيدة واناسها غريبون قساة القلب لا يرحمون ولا يعرفون الله.
بلقيس : هل هو بمدينة معينة بالمغرب هذه؟
فتحت عينيها ونظرت الى بلقيس ثم قالت، "ابتعدي عنه" ثم ادارت رأسها وفتحت عينيها ثم سلمت الروح. صرخت بلقيس وقالت،
بلقيس : لا، لا، لا تموتي الآن ارجوكِ. اخبريني باي مدينة هو؟ باي مدينة هو؟
لكن خضراء لم تعد تتنفس. ماتت ومات اسرارها معها. تقدم حسن بالقرب من السرير فاغلق عينيها وقال،
حسن : خلاص يا مدام، لقد توفت. لا داعي لان تستمري.
المرأة : هيا اخرجوا الآن. لقد ماتت المسكينة الا يكفيكم ذلك؟ انتم تسببتم بموتها.
بلقيس : لكنها لم تخبرني عن ابني.
حسن : انها امرأة عجوز وعلى فراش الموت يا سيدتي فهل تصدقين ماقالته عن ابنك؟ انها مجرد تخاريف. من اين لها ان تعرف مكان ابنك لما عجز كل المحققون والشرطة عن العثور عليه.
بلقيس : لا يا حسن لا. ان ما قالته صحيح. هي تعرف كل الامور الغيبية. ابني بالمغرب ويجب علي ان اعثر عليه هناك.
حسن : طيب يا مدام ولكن دعنا نخرج من هنا ونرجع الى القاهرة. فالمنطقة خطرة والطريق طويل.
اسند حسن سيدته لتقف وخرجا من بيت العرافة خضراء. وفجأة سمعا صوتاً من قلب الظلام يقول، "توقفوا، من انتم؟"
حسن : نحن جئنا من القاهرة لنزور السيدة خضراء. لكنها توفت للتو. البقاء لله.
ادهم : هل ماتت امي ؟ هل قتلتموها يا مجرمين؟
حسن : كلا، كلا يا رجل. وهل هيئتنا توحي باننا قتلة؟ ان المرحومة والدتك كانت صديقة للسيدة بلقيس منذ فترة طويلة وجائت لتطمئن عليها لكن الله اخذ امانته.
بلقيس : اجل انها كانت تعمل عندي قبل ان تنتقل الى هنا.
ادهم : ولكن كيف عثرتم علينا؟
حسن : لقد سألنا كثيراً. وكما يقول المثل، "اليسأل ميتوهش"
ادهم : حسناً ارحلوا من هنا بسرعة. يجب ان استدعي نساء القرية كي يغَسّلوها ويعتنوا بها قبل ان ندفنها بالغد.
بلقيس : البقاء لله يا ابني ادهم. البركة فيك. استودعك الله.
لكن ادهم لم يجيبها ودخل الدار تاركاً ورائه بلقيس وسائقها. اسرع الاثنان نحو السيارة وانطلقت بهم فتوارت بين ثنيات الليل. واثناء رحلة العودة قال،
حسن : لقد نجونا باعجوبة يا مدام. يبدو ان ابنها شرير و "قتال قتلة".
بلقيس : إذاً ابني محمود في المغرب. واين ساجده هناك يا ترى؟
حسن : وهل صدقت تخريف تلك المرأة العجوز سيدتي؟ لقد قالت كلام غير منطقي وغير معقول. ماذا يمكن ان يعمل السيد محمود بالمغرب؟ فقد تخرج قبل اربع سنوات من كلية الشرطة. لا اعلم اي سببٍ يدفعه للسفر الى المغرب ويبقى هناك.
بلقيس : لقد سبق وان جربت تنبؤاتها يا حسن. لم تخطئ باي شيء قالته في السابق.
سارت بهم السيارة عدة ساعات حتى وصلوا القاهرة بفجر اليوم التالي. دخلت بلقيس منزلها فاستقبلتها خادمتها،
حسنية : الحمد لله على سلامتك سيدتي. هل عثرتما عليها؟
بلقيس : اجل لكنها كانت تنازع سكرات الموت.
حسنية : وهل اخبرتك بشيئ؟
بلقيس : اجل حسنية اجل. قالت ان ابني بالمغرب.
حسنية : وما هو المغرب سيدتي؟
بلقيس : انه بلد يا حسنية. بلد بعيد عن هنا لكن اهله عرب مثلنا.
حسنية : وهل استقر سيدي محمود هناك وتزوج واصبحت له زوجة واطفال؟
بلقيس : لا اعلم لكني ساذهب الى هناك وسابحث عنه وسأجده باذن الله.
حسنية : اتمنى من الله ان يكافئك ويكحل عينيك برؤية ابنك ثانية انه سميع عليم.
بلقيس : اريد ان انام الآن. ارجوك احضري دوائي الوردي الى غرفة النوم مع كأس ماء.
حسنية : حسناً سيدتي.
تناولت بلقيس دوائها ودخلت السرير لتنام 4 ساعات متتالية ثم استيقضت وتفحصت الساعة على الجدار لتجدها تشير الى السابعة. دخلت الحمام واستحمت ثم ارتدت ملابسها ونزلت الى الطابق الارضي فقابلتها حسنية وقالت،
حسنية : ارجو ان تكوني قد ارتحت سيدتي. لقد نمت نوماً عميقاً.
بلقيس : اجل حسنية. كنت متعبة جداً. لكني الآن اريد ان اتناول افطاري واخرج.
حسنية : الافطار جاهز. ساضعه على الطاولة خلال بضع دقائق.
تناولت بلقيس افطارها على عجالة وخرجت لتجد سائقها حسن ينتظرها بالسيارة البيضاء. ركبتها وسألته،
بلقيس : اتعرف مكان السفارة المغربية؟
حسن : اجل سيدتي انها بالزمالك.
قاد حسن السيارة وسط الزحام الخانق حتى وصلا بعد ساعة كاملة فاوقفها امام السفارة. نزلت بلقيس ودخلت باب السفارة فقابلها مكتب صغير جلس عليه موظف اسمر البشرة طويل القامة استقبلها ببسمة عريضة وبكل ادب قال،
الموظف : تفضلي سيدتي، كيف استطيع خدمتك؟
بلقيس : اريد ان اعمل تأشيرة لزيارة المغرب.
الموظف : انت جئت الى السفارة سيدتي. يجب عليك الذهاب الى القنصلية.
بلقيس : الا اعطيتني عنوان القنصلية إذاً؟
الموظف : القنصلية بجانبنا، اطلعي من الباب الخارجي وادخلي الباب المجاور على اليسار.
بلقيس : هل القنصلية فاتحة الآن؟
الموظف : انها تفتح الساعة تسعود.
بلقيس : وما هو تسعود؟
الموظف : انها الساعة التاسعة. اي بعد 3 دقائق.
بلقيس : شكراً لك يا ولدي.
خرجت من السفارة وانتظرت بضع دقائق ثم فتحت الابواب فدخلت القنصلية ليقابلها موظف آخر سألته،
بلقيس : هل استطيع التقديم على تأشيرة؟
الموظف : اجل سيدتي، املأي هذه الاستمارة؟
اعطاها استمارة طلب تأشيرة زيارة فجلست على احدى الكراسي لتملأها وعندما وصلت الى خانة كتب عليها، "اي مدينة تود
زيارتها؟"
لم تعرف ماذا تكتب ففكرت ملياً وقالت. "دعني اكتب العاصمة الرباط وامري الى الله"
اكملت ملأ القسيمة وارجعتها للموظف. تفحصها جيداً ثم اخبرها بان عليها العودة الى القنصلية بعد اسبوعين كي تستفسر ان كانت التأشيرة قد جهزت فتعطيهم وقتها جواز سفرها وتدفع الرسوم لتحصل عليها. رجعت بعد اسبوعين فاخبروها ان التأشيرة لاتزال تحت الاعداد فعادت بالاسبوع الموالي ليخبروها ان التأشيرة جاهزة وبامكانها ان تسلمهم جواز سفرها. بعد ان طبعت التأشيرة على الجواز لم يبقى لها سوى البحث عن طائرة تأخذها الى المغرب لكي تبحث عن ابنها المفقود. بعد بحث واستقصاء طويل حصلت على رحلة بالخطوط الملكية المغربية خلال اسبوع فحجزتها. وبينما هي جالسة ببيتها دخلت على الانترنيت وصارت تفتش عن فندق في الرباط فوقع اختيارها على (ذي ڨيو هوتيل) بالرباط.
في يوم السفر اخذها سائقها حسن الى مطار القاهرة الدولي لتستقل الطائرة المغربية فتحلق بها فوق الغيوم. دامت رحلتها 5 ساعات ونصف ثم هبطت بمطار الرباط الدولي. خرجت من المطار واستقلت سيارة اجرة نقلتها الى فندق ذي ڨيو. فور دخولها غرفة الفندق شعرت بانتعاش كبير عندما واجهها الهواء البارد من التكييف المركزي. اغلقت بابها ووضعت امتعتها على الطاولة الخشبية المخصصة لهذا الغرض واخرجت ملابسها منها ثم دخلت كي تستحم. بعد ان اكملت حمامها نظرت الى ساعتها لتجدها تشير الى التاسعة ليلاً فتناولت دوائها ذات الحبات الوردية وتوجهت الى السرير كي تنام نوماً عميقاً. استيقظت باليوم التالي على صوت المنبه بهاتفها النقال. لبست ملابسها وجهزت نفسها ثم نزلت الى الطابق الارضي لتناول افطارها بمطعم الفندق ثم خرجت بعد ذلك الى الخارج فتلقفتها حرارة الجو العالية. اوقفت سيارة اجرة فنظر اليها السائق وسأل،
السائق : الى اين يا حاجة؟
بلقيس : الى مركز الشرطة.
السائق : اي مركز شرطة يا حاجة؟
بلقيس : اقرب مركز شرطة يا اسطة.
السائق : حسناً ساخذك الى مركز شرطة حي الرياض. انه قريب جداً من هنا.
بعد بضع دقائق وقفت سيارة الاجرة امام مركز شرطة الرياض فنزلت منها بلقيس ودخلت المركز. قابلها شرطي الاستعلامات وقال،
شرطي الاستعلامات : السلام عليكم، كيف استطيع خدمتك يا حاجة؟
بلقيس : اريد مقابلة الضابط.
شرطي الاستعلامات : اي ضابط منهم؟ فنحن لدينا عدة ضباط هنا؟
بلقيس : اي واحد منهم، لا يهم.
شرطي الاستعلامات : حسناً سادخلك على الملازم عبد السلام.
دخلت بلقيس على الملازم عبد السلام. فوجدت ضابطاً شاباً يرتدي بزة الشرطة ويجلس خلف مكتبه منهمكاً بين ثنيات اوراقه. رفع رأسه من على مكتبه والاوراق التي امامه لتقع عينيه عليها فانتصب واقفاً من كرسيه احتراماً لسنها وللبسها المحتشم وقال،
الملازم عبد السلام : مرحباً بك يا حاجة.
بلقيس : انا سيدة مصرية الجنسية. وصلت من القاهرة بالامس.
الملازم عبد السلام : اهلاً وسهلاً ببلدك الثاني، كيف استطيع خدمتك؟
بلقيس : اسمي الكامل هو بلقيس عبد المعطي اسكن بفندق ذي ڨيو، لدي ولد اسمه محمود وهو في سن الـ 27 . اختفى قبل 4 سنوات مباشرة بعد ان تخرج من الكلية ولم يصلني منه اي خبر. بحثت عنه كثيراً بمصر ولم افلح. طلبت من الشرطة المصرية كي تبحث عنه فلم يعثروا عليه. بعد ذلك قمت بتوظيف شركة خاصة للتحقيق كي تتحرى عن ابني لكنهم فشلوا ايضاً ولم يستدلوا على مكانه. وبعد اربع سنوات اخبرني شخص ما ان ابني موجود خارج البلاد، في المغرب بالتحديد لذلك جئت هنا كي ابحث عنه.
رفع الملازم قلمه وتهيأ لتدوين المعلومات وقال،
الملازم عبد السلام : جميل جداً، في اي مدينة بالمغرب يا حاجة؟
بلقيس : لم يخبروني.
الملازم عبد السلام : وما صلة القرابة بين ابنك وبين الشخص الذي بلّغك عن مكانه بالمغرب؟ اقصد هل هو صديقه او قريبه او شخص يعمل معه بنفس المكان؟
بلقيس : كلا انها خضراء. كانت تعمل عندي خادمة قبل زمن طويل.
الملازم عبد السلام : ومتى رأته خضراء؟ هل سبق وان جائت للمغرب بزيارة؟
بلقيس : كلا. هي رأته في الطالع.
الملازم عبد السلام : وما هو الطالع؟
بلقيس : انها سيدة مكشوف عنها الحجاب وبامكانها ان ترى اشياء كثيرة.
القى القلم من يده، رفع رأسه لينظر بوجهها ويقول،
الملازم عبد السلام : انا آسف يا حاجة. نحن في شرطة المغرب لا نتعامل مع الغيبيات. يجب عليك ان تزوري احد السحرة كي يساعدك بالعثور عليه. والله وحده يعلم كم لدينا من هؤلاء السحرة.
بلقيس : لكن يا ولدي. هذه المرأة لم تخطئ بتنبؤاتها ابداً، زيادة على ذلك فقد قالتها وهي على فراش الموت مما يدل على انها صادقة.
الملازم عبد السلام : هل انت مسلمة؟
بلقيس : طبعاً يا ولدي.
الملازم عبد السلام : يقول رب العزة والجلالة (كذب المنجمون ولو صدقوا). هذا ما قاله القرآن الكريم ام انك لا تؤمنين بالقرآن؟
بلقيس : اامن طبعاً لكن هناك اناس مكشوف عنهم الحجاب.
الملازم عبد السلام : انت لا تعرفين باي مدينة يكمن وانت لا تعرفين عنوانه حتى. اسمعي مني يا حاجة. انا اريد ان اساعدك ولكن متى ما جئت إليّ بمعلومات ملموسة وليست معلومات غيبية فانا مستعد ان اساعدك. تعالي الى هنا وقت ما شئت واسألي عني سوف تجديني بخدمتك، اتمنى ان تعثري على ولدك باسرع وقت.
بلقيس : شكراً لك يا ولدي.
توجهت الى الباب وهمت بالخروج من مكتب الضابط لكنها قبل ان تخرج استدارت اليه وسألته،
بلقيس : بما انك في الشرطة. اليس هناك سبيل لمعرفة من اي مدينة دخل المغرب؟
الملازم عبد السلام : لكي نعرف ذلك عليك ان تخبريني متى وصل الى المغرب بالضبط. فكما تعلمين يدخل الى المغرب 13 مليون سائح سنوياً. هل لديك تاريخ الدخول؟
بلقيس : اجل، هو اتى الى المغرب قبل 4 سنوات.
الملازم عبد السلام : حسناً ولكن باي شهر وباي يوم؟ وباي رحلة؟ وما اسم شركة الطيران؟ واسم المطار؟
بلقيس : لا اعرف.
الملازم عبد السلام : ان ذلك يتطلب بحثاً كبيراً وشاقاً في سجلات الشرطة وبجميع مدن المغرب فكما تعلمين المغرب لديه منافذ حدودية كثيرة. ثم انك لا تعلمين إن كان قد وصل هنا بالجو او البحر او البر. انت تستندين على ساحرة وتريدين ان تُدخِلي قوات الشرطة بعملية بحث مضنية قد لا تثمر شيئاً بالنتيجة.
بلقيس : وماذا تنصحني إذاً يا ابني؟
الملازم عبد السلام : انصحك بان ترجعي الى مصر وان تدعي ربك وتنتظري من الله ان يعيد لك ابنك سالماً.
بلقيس : حسناً يا ولدي. شكراً لك افضالك. سوف لن ازعجك اكثر من ذلك.
خرجت بلقيس من مكتب الضابط ثم من المركز تجر اقدامها ببطئ شديد، مكسورة القلب ومحبطة جداً تشعر وكأن حكم الاعدام قد صدر عليها. بذلك اليوم رجع الضابط عبد السلام الى منزله فاستقبلته زوجته بابتسامتها المعهودة وقالت،
زوجته فاطمة : هل ضرك الجوع حبيبا؟
عبد السلام : اكاد اموت من الجوع يا فاطمة. ماذا اعددت لنا اليوم؟
فاطمة : اعددت طاجين بالبطاطا واللحم البقري الذي تحبه كثيراً.
عبد السلام : هل تغدى الاولاد؟
فاطمة : ويلي، ويلي، طبعاً تَغَدّوا وخرج صادق للدراسة مع زميله عبدالله اما الباقون فهم بحجرتهم يراجعون دروسهم. هل مر اليوم بسلام من دون مشاكل يا ترى؟
عبد السلام : اجل، لم تكن هناك سرقات كبيرة ولا مشاجرات كما حصل بالاسبوع الماضي. لكن وقع شيء غريب جداً. قَدِمَتْ سائحة مصرية تبحث عن ابنها المفقود منذ 4 سنوات. قالت ان الشرطة بمصر عجزت عن العثور عليه لذلك استشارت عرافة فاخبرتها انه هنا بالمغرب.
فاطمة : وهل ساعدتها حبيبا؟
عبد السلام : كلا طبعاً. هي لا تعرف تاريخ وصول ابنها الى المغرب او المدينة التي دخل منها ولا تعلم ان كان قد وصل عن طريق البر او البحر او الجو ولا تعرف إن كان قد غادرها منذ ذلك الحين. فكيف ابحث عنه؟
فاطمة : بامكانك ان تبحث عنه بسجلات الشرطة المركزية عن القادمين اليس كذلك؟
عبد السلام : اجل حبيبتي لكن البحث قد يطول كثيراً لانها تجهل باقي المعطيات. ومن قال انه قدم الى المغرب اصلاً؟ فهي تستند الى تنبؤات عرافة.
فاطمة : هل تذكر قضية اختفاء اخي الياس؟ انه كان مفقوداً لمدة سنتين بفرنسا، وقتها قام والدي بالسفر الى فرنسا وبحث عنه. وبالآخر وجده بمدينة ليون بالجنوب.
عبد السلام : اجل لكن كان لوالدك معلومات كافية عنه.
فاطمة : كلا ابداً، هذا ليس صحيحاً. لم يكن لوالدي سوى اسم اخي الكامل.
عبد السلام : هذه فرنسا يا عزيزتي. هم يملكون حواسيب كبيرة بها جميع اسماء العباد هناك.
فاطمة : كلا. اخي الياس لم يكن مسجلاً لدى السلطات الفرنسية لانه كان بدون اوراق رسمية.
عبد السلام : وكيف عثرت عليه الشرطة إذاً؟
فاطمة : قام احد رجال الشرطة بمساعدة والدي وبقي معه طويلاً حتى عثر عليه. حبيبا عبدو، حاول ان تساعد تلك المرأة المسكينة. ان قلبها يحترق على ابنها وقد جائت من مصر الى هنا كي تبحث عنه. انا اعرف ذلك لانني ام واكاد اموت من القلق إذا تأخر احد اولادي ساعة واحدة. فما بالك 4 سنوات؟
عبد السلام : لكن كل ما لديها من معلومات هي تنبؤات عرافة. فكيف اصدق ذلك؟
فاطمة : يا ويلي يا عبدو، العرافين يصْدقون احياناً حبيبا.
عبد السلام : وماذا تريديني ان افعل؟ اخذها لافضل عرافة لدينا بالرباط؟
فاطمة : كلا حبيبا كلا. تقوم بالبحث عن ابنها بملفات ادارة الشرطة المركزية.
عبد السلام : لكن ذلك عمل شاق قد يتطلب مني اسابيع طويلة.
فاطمة : وبذلك ستحصل على ثواباً اكبر عند الله يُكتَب لك بميزان حسناتك. ارجوك حبيبا.
عبد السلام : سنرى حبيبتي.
فاطمة : بل قل سوف افعل إن شاء الله.
عبد السلام : حسناً وخا والآن اكاد اموت من الجوع.
فاطمة : اللطف عليك من الموت حبيبا. تعال معي الى المطبخ.
بذلك اليوم بقي عبد السلام يفكر بما قالته زوجته وكيف انه قطع عهداً على نفسه كي يحاول التفتيش عن ابن تلك السيدة المصرية. في صباح اليوم التالي توجه نحو فندق ذي ڨيو وسأل عن بلقيس عبد المعطي، اتصلوا بها هاتفياً فردت وقالت،
بلقيس : انا بلقيس تفضلوا.
عبد السلام : انا الملازم عبد السلام هل بامكاني التحدث معك؟
بلقيس : اجل، اجل، سانزل على الفور يا ولدي.
بقي عبد السلام واقفاً ببهو الفندق لما يقرب من عشر الدقائق حتى جائت بلقيس من بعيد وهي تبتسم قالت،
بلقيس : اهلاً وسهلاً بك يا ولدي. هل قبلت ان تبحث عن ابني؟ هل غيرت رأيك؟
عبد السلام : يا حاجة، لقد تحدثت مع زوجتي فاطمة الزهراء بخصوص ابنك المفقود وقد طلبت مني مساعدتك لانها فقدت اخاها بفرنسا قبل فترة فقام والدها بالسفر الى هناك وصار يبحث عنه حتى عثر له احد افراد الشرطة عن ابنه بمدينة ليون.
بلقيس : هل هذا يعني انك ستقبل قضية ابني؟
عبد السلام : وخّا يا حاجة.
بلقيس : ماذا تقصد؟
عبد السلام : اقصد، وي، داكوغ، با تيپغوبليم، نعم قبلتها.
بلقيس : الحمد لله، شفت يا ابني؟ الانسان يقدم المساعدة لاي عبد عسى الله ان يكتب فيه الخير.
عبد السلام : والآن دوني لو سمحتِ كل بيانات ابنك وابدأي باسمه الكامل.
طلبت من الاستعلامات قصاصة ورق وقامت بالكتابة عليها،
(اسم ابني الكامل هو محمود يسن عبدالودود. السن 27 سنة. اختفى قبل 4 سنوات)
عبد السلام : هل لديك صورة لمحمود؟
بلقيس : اجل تفضل.
محمود
اخرجت من حقيبتها صورة لابنها واعطتها للضابط عبد السلام. نظر اليها وقال،
عبد السلام : ما شاء الله، ابنك وسيم جداً يا حاجة. لكنك قلت ان عمره 27 سنة.
بلقيس : اجل هذه صورته وهو بسن العاشرة ولم اجلب معي غيرها.
عبد السلام : حسناً، ساقوم بالبدئ بابحاثي وسارد لك الخبر. ان لم تكوني بالفندق فساترك لك خبر لدى الاستعلامات.
بلقيس : ولماذا لا تتصل بي على هاتفي النقال؟
عبد السلام : سيكون ذلك افضل. اعطني الرقم لو سمحتِ.
تبادلا ارقام الهواتف ثم سألته،
بلقيس : ومتى اتوقع منك مكالمة؟
عبد السلام : لا اعلم.
بلقيس : حسناً، على بركة الله. هل تحتاج الى نقود يا ولدي؟
عبد السلام : هذا عيب يا حاجة. انتِ بمنزلة امي. إن انت احتجت لاي شيء فانا حاضر، تذكري انك ببلدك الثاني المغرب.
بلقيس : والله اعلم ذلك ولكن للمواصلات وما شابه ربما تحتاج الى...
عبد السلام : لو كنت ساحتاج لاخبرتك.
بلقيس : والله انت انسان شهم وهذا عشمي بابناء بلد مضياف مثلكم.
خرج الضابط عبد السلام من الفندق متجهاً الى مركز الشرطة الذي يعمل به ودخل على مديره العقيد احمد المكناسي مدير مركز شرطة الرياض فادى له التحية الرسمية وقال له،
عبد السلام : صباح الخير سيدي.
العقيد احمد : صباح الخير عبد السلام هل هناك امر مهم؟
عبد السلام : اجل سيدي. جائت بمكتبي سيدة مصرية تريد البحث عن ابنها المفقود منذ اربع سنوات ولديها معلومات تفيد بان ابنها يعيش بالمغرب. ابنها يدعى محمود يسن عبدالودود.
العقيد احمد : وما مصدر الاخبارية؟
عبد السلام : انها عرافة سيدي.
العقيد احمد : هذا امر مضحك، كيف تقوم بالبحث عن شخص استناداً الى اخبارية من عرافة؟
عبد السلام : سيدي انها انسانة مسكينة كبيرة في السن وقلبها يحترق على ابنها من شدة الفراق. اود مساعدتها كي تغلق الموضوع من بالها.
العقيد احمد : حسناً بامكانك مزاولة البحث ولكن سوف لن اتمكن من اسنادك بدعم من رجال الشرطة. واذا ما تنقلت بالبلاد فسوف تتنقل على نفقتك الخاصة. لكني سامنحك اوقات اجازة كافية تتغيب فيها عن عملك خلال البحث. مفهوم؟
عبد السلام : مفهوم سيدي.
العقيد احمد : ساخبر الشرطة المركزية كي يفسحوا لك المجال حتى تدخل الى الارشيف المركزي.
عبد السلام : شكراً لك سيدي.
خرج عبد السلام من مكتب رئيسه وتوجه الى شرطة الرباط المركزية لكنه بقرارة نفسه لم يكن يعتقد انه سيصل الى اي نتيجة فكل ذلك كان مبنياً على تنبؤات وتلفيقات عرافة تحتضر للموت. حالما وصل الى الشرطة المركزية طلب من شرطي الاستعلامات ان يدله على قاعة الارشيف فارشده الى الطابق الاول. صعد السلم الى الطابق الاول وابرز هويته هناك فسمحوا له بالدخول الى قاعة الارشيف. بدأ يبحث بملفات الديوانة التابعة لجميع مطارات الدولة بالسنة التي دخل بها محمود من مطار الرباط اولاً. بقي يبحث لعدة ساعات فلم يعثر على اي دليل. ترك الارشيف يائساً ورجع الى مكتبه في مركز شرطة الرياض وباليوم التالي لم يتمكن من مواصلة البحث بالارشيف لانه أعطيَ مهام اخرى في المركز كان يجب عليه تنفيذها. وباليوم الموالي ذهب للارشيف من جديد وواصل البحث هناك. وبنهاية الدوام الرسمي لم يعثر على اي شيء نهائياً لذلك خرج وقرر العودة اليه باليوم الموالي. بقي الضابط عبد السلام يذهب الى الارشيف يومياً وباتساق كبير لمدة ساعة او ساعتين قبل ان يلتحق بعمله بالمركز. كان يمر على السيدة بلقيس بين الحين والآخر كي يطمئن عليها ويقدم لها المساعدة ويؤكد لها انه مواظبٌ على البحث. وبيوم من الايام طلبت منه زوجته فاطمة ان يستدعي السيدة بلقيس الى منزلهم لكنه اوضح لها بانها قد لا تلبي تلك الدعوة لانهم دون مستواها الاجتماعي كونها من الطبقة الرفيعة. الا انه عندما فاتحها بالموضوع وافقت فوراً وطلبت منه ان يعطيها العنوان. اخبرته بانها ستكون عندهم الساعة السادسة مساءاً. وفي نفس اليوم اعدت زوجته الكثير من الاطعمة المغربية فقد كان الـ (كسكس بلحم البقر) بوسط المائدة مع شوربة الدجاج وبجانبه (طاجين الدجاج بالبطاطا) وصحن جانبي يطلق عليه (زعلوكا) وصحن آخر يطلقون عليه (شيفرول مقلي بالبيض) وبعد الوجبة جهزت (شباكية) بالعسل الطبيعي.
قرعت بلقيس الجرس تمام الساعة السادسة ففتحت زوجته الباب واستقبلتها بحفاوة كبيرة وراحت تعانقها. قدمت بلقيس باقة من الورد للزوجة ثم بدأت تتعرف على الاولاد الواحد تلو الآخر وكانت قد جلبت معها هدايا لكل واحد منهم ففرحوا بها كثيراً. دخلت الصالة وقبل ان تجلس قال،
عبد السلام : لماذا لا نبدأ الطعام فوراً ثم نجلس ونتحدث فيما بعد.
بلقيس : هذه فكرة جيدة لاني ساموت من الجوع والروائح تزيد من معاناتي.
فاطمة : اللطف عليكِ حبيبا. تفضلي معنا.
انتقل الجميع الى صالة الطعام فوجدوا مائدة وفيرة امتلأت بما لذ وطاب من الاطعمة المغربية.
بلقيس : لم يبقى شيئاً الا واعددته اليوم يا فاطمة. كل شيء يبدو لذيذاً ورائعاً والروائح تكاد تقتلني. اهنئكَ يا ولدي على زوجتك فاطمة الزهراء فهي حقاً ربة بيت من الدرجة الاولى.
عبد السلام : انها زوجتي وحبيبتي وام اولادي ورفيقة دربي.
بلقيس : حفظكم الله من كل شر يا ولدي وادامكم لبعضكم ولاولادكم.
بدأ الجميع بتناول الطعام وكلما كانت تتذوق شيئاً كانت تجده افضل من سابقاته فتتلذذ به وتمتدحه وتشكرهم عليه. كانت بكلماتها الجميلة المنمقة تدخل قلوبهم جميعاً وتجعلهم يشعرون بانها واحدة منهم. وعندما فرغوا من وجبة العشاء اقترحت فاطمة الزهراء ان ينتقلوا الى الصالة ويتناولوا الشاي الاخضر.
بلقيس : وما هو الشاي الاخضر يا عبد السلام؟
عبد السلام : انه شاي يعد من النعناع يا حاجة.
بلقيس : اجل، نحن بمصر نعمل شاي بالنعناع كذلك.
عبد السلام : اعتقد انه يختلف بعض الشيء عن الشاي الذي عندكم. فهو لا يخلط مع الشاي العادي وانما نستعمل النعناع فقط.
ترشفت بلقيس منه فاعجبها كثيراً فواصلوا حديثهم العائلي الشيق. وبحلول الليل قالت،
بلقيس : يجب علي ان اغادر الآن يا احبابي.
فاطمة الزهراء : وهل يعقل ذلك؟ انت ستنامين عندنا هذه الليلة لا نقاش في ذلك.
عبد السلام : اجل يا امي، فاطمة الزهراء ستعد لك سريراً مريحاً.
بلقيس : انا جداً ممتنة منكم ولكن تركت ادويتي بالفندق ومن الضروري اخذها والا اصبت بالجلطة. سامحوني يا اولادي.
فاطمة الزهراء : حسناً ولكن اعطنا وعد بزيارة ثانية.
بلقيس : هذا وعد مني.
طلبت بلقيس من عبد السلام ان يطلب لها سيارة اجرة فاستل هاتفه واتصل. وبعد قليل وصلت السيارة فخرجت بلقيس وتوارت بجنح الظلام. بالايام التالي واصل عبد السلام بحثه بارشيف الشرطة المركزية حتى خرج امامه ملف كاد يصرخ بوجهه. قرأ الاسم للمرة الاولى فوجده مكتوب بخط عريض (محمود يسن عبد الودود). لم يصدق ما رأته عيناه لذلك اعاد قرائة الاسم ثانية وثالثة فتأكد انه نفس الاسم الذي اعطته له بلقيس. نظر الى الصورة فوجد شاباً وسيماً لا يشبه الصورة التي اعطته اياها بلقيس. لكنه عندما دقق بالصورتين ثانيةً وجد نقاط تشابه كبيرة بينهما كما تعلمها بكلية الشرطة قبل عدة سنوات. فقال، "وجدتك يا محمود، اين المفر؟". قرأ باقي التفاصيل فتبين انه دخل الى المغرب من مطار سايس بمدينة فاس. نظر الى مصدر الرحلة فوجدها من باريس. لكن ذلك اثار حيرته. تابع البحث فوجد ان تذكرته كانت من القاهرة الى باريس ثم من باريس الى مطار سايس. فقال "التقطتك يا محمود. ستكون الحاجة بلقيس سعيدة جداً بما عثرت عليه، ولكن يجب ان اتأكد من باقي المعلومات". جلس عبد السلام على الارض ووضع الملف على حجره وصار يدقق بكل المعلومات التي بين يديه فوجد ان محمود اعطى شرطة المطار عنواناً بمدينة فاس. لذلك قرر ان يتحرى ذلك العنوان وهو: منزل السيدة تانيلا ماجريس، منطقة ولد الطيب، 24 شارع سيدي محمد الخامس، بالقرب من مستشفى ولد الطيب/فاس. بقي يبحلق بالاسم (تانيلا ماجريس) لفترة طويلة وقال، "انه اسم امازيغي لا محال. كيف ومن اين تعرف محمود على سيدة امازيغية كي تستقبله ببيتها يا ترى؟ هل تعرف عليها عن طريق الانترنيت؟ هل اصبحت له علاقة غرامية معها فصارت عشيقته؟ على كل حال يجب ان اتصل بامه السيدة بلقيس وازف لها الخبر السعيد. ولكي اتأكد من صورة ابنها كذلك. سحب هاتفه النقال واتصل برقمها فردت عليه قائلةً،
بلقيس : صباح الخير ابني عبد السلام، كيف حالك؟
عبد السلام : انا بخير يا حاجة. لدي اخبار سارة.
بلقيس : هل عثرت على محمود؟
عبد السلام : ربما! انا لست متأكداً. اريد ان اتي اليك واريك صورة لشخص دخل الى المغرب باسم (محمود يسن عبدالودود).
بلقيس : انا بالفندق، هل بامكانك المجيء الآن ؟
عبد السلام : ساكون عندك خلال ساعة ونصف. يجب علي ان اذهب الى مكتبي لاعتني ببعض الامور.
بلقيس : وانا ساكون بانتظارك.
اخرج الصورة من الملف ووضعها بجيبه دون علم المراقبين هناك ثم خرج من الشرطة المركزية وتوجه الى مركز شرطة حي الرياض جلس بمكتبه وضغط على الجرس فحضر الشرطي المساعد عصام قال له،
عبد السلام : يا عصام، اريد منك ان تبحث لي عن اسم سيدة امازيغية تدعى (تانيلا ماجريس) على جناح السرعة.
خرج عصام من مكتب الضابط عبد السلام ليؤدي المهمة التي طلبها منه عبد السلام. وبعد نصف ساعة استأذن ودخل المكتب وقال،
عصام : عثرت عليها يا سيدي.
عبد السلام : اخبرني عنها إذاً!
عصام : انها سيدة خطيرة للغاية لها سوابق. وتعتبر من اكبر تجار المخدرات بالمغرب لديها منزل مسجل باسم والدتها عائشة بفاس ومنزل آخر باسم ابنها الاكبر (ازم) بطنجة. سبق لها ان تزوجت وتطلقت ثلاث مرات. ولدها البكر من زوجها الاول اسمه ازم وابنتها من ثاني زوج اسمها مليكا.
عبد السلام : هل لديك عنوانها بفاس؟
عصام : تفضل سيدي.
عبد السلام : وماذا عن العنوان بطنجة؟
عصام : لم يكن هناك عنوان للمنزل بطنجة.
وضع عصام قصاصة ورقية كتب عليها عنوان تانيلا ماجريس امام عبد السلام. امسك بها وقال،
عبد السلام : انه مطابق للعنوان الذي حصلت عليه من الارشيف المركزي بمنطقة ولد الطيب، 24 شارع سيدي محمد الخامس، بالقرب من مستشفى ولد الطيب. شكراً لك يا عصام.
عصام : على الرحب والسعة سيدي.
رجع عصام الى مكتبه بينما خرج الضابط عبد السلام قاصداً فندق ذي ڨيو هوتيل. وعندما دخل الفندق وجد السيدة بلقيس تنتظره على احر من الجمر. اقتادته الى مقهى الفندق فجلسا وطلبا قهوة ثم بدأت حديثها بالسؤال،
بلقيس : ها ابني عبد السلام هل طلع معك شيء؟
عبد السلام : انظري الى هذه الصورة جيداً. هل هي لابنك محمود؟
اعطاها الصورة فدققت فيها جيداً ثم بدأ وجهها يضيء والبسمة ارتسمت عليه صاحت،
بلقيس : اجل، اجل هذا ابني حبيبي محمود. هل حصلت على اخباره؟
عبد السلام : اجل يا حاجة ولكنها اخبار غير سارة. وكما يقول المثل (رجع بنعلي حسين)
بلقيس : ربما تقصد عاد بخفي حنين ولكن تكلم فانا جهزت نفسي لاسوأ الامور. هل هو ميت؟
عبد السلام : كلا. لكني وجدت انه دخل المغرب من مطار سايس بمدينة فاس. وعند وصوله كتب على قسيمة الوصول انه سيذهب الى عنوان منزل بفاس.
بلقيس : جميل جداً اكمل.
عبد السلام : لا ليس جميلٌ ابداً. فصاحبة ذلك المنزل هي تانيلا ماجريس سيدة شلوح بربرية امازيغية معروفة ومسجلة لدى الشرطة.
بلقيس : هل سبق وان اتهمت بالقتل؟
عبد السلام : كلا، بل بالمخدرات.
بلقيس : مخدرات؟ يا عيني، يا عيني وما دخل ابني بالمخدرات؟
عبد السلام : لا اعلم بعد يا حاجة.
بلقيس : دعنا نذهب الى العنوان ونرى.
عبد السلام : هذا غير ممكن. ساذهب لوحدي.
بلقيس : لا يمكن ابداً. يجب ان آتي معك.
عبد السلام : يا حاجة انها مسألة تتعلق بالشرطة وإذا جئتِ معي قد اتعرض للطرد من وظيفتي. ايرضيك ذلك؟
بلقيس : حسناً اذهب وحدك إذاً لاني لا اريد ان الحق بك الاذى ولكني انتظر منك تقريراً مفصلاً فور عثورك على ابني محمود. مفهوم؟
عبد السلام : مفهوم ياحاجة. ابقي انت بالفندق وساوافيك بالاخبار حال حصولي عليها.
خرج الضابط ورجع الى مقره بحي الرياض حيث استأذن من مديره العقيد احمد المكناسي فاعطاه الاذن. بعدها ذهب للمطار وسافر على الخطوط الداخلية الى مطار سايس. وصل فاس بالمساء فتوجه بسيارة اجرة مباشرة الى العنوان الذي لديه بمنطقة ولد الطيب. اوصلته سيارة اجرة للباب. نزل من السيارة وتفحص المنزل واذا بها ڨيلا كبيرة جداً. ضغط على جرس الباب ففتح له رجل مسن سأله،
عبد السلام : هل هذا منزل السيدة تانيلا ماجريس؟
الرجل المسن : ومن انت؟
عبد السلام : انا الملازم عبد السلام من شرطة الرباط. هل هذا منزل السيدة تانيلا ماجريس؟
الرجل المسن : ماذا تريد منها؟
عبد السلام : هل هي موجودة ام غير موجودة؟ اخبرني فقط من دون اسئلة لو سمحت.
الرجل المسن : انها ليست موجودة بامكانك الدخول والتفتيش عنها.
دخل عبد السلام وفتش المنزل كله فلم يجد احداً هناك. صار يتنقل من حجرة لاخرى يبحث عن اي دليل او اي شيء يوصله لمحمود ابن بلقيس لكنه اخفق بمهمته. نظر الى الرجل وقال،
عبد السلام : ما هي علاقتك بتانيلا ماجريس؟
الرجل المسن : انا والدها.
عبد السلام : اين هي الآن؟
الرجل المسن : لا اعلم.
عبد السلام : اسمع ايها الرجل العجوز. ان لم تدلني على تانيلا فسازجك بمشاكل كبيرة.
الرجل المسن : لم يبقى لي شيء بالحياة يخيفني فعمري 85 عاماً وعلى ابواب القبر.
عبد السلام : سنرى!
تركه عبد السلام وصار يفتش عن فندق متواضع يقضي به ليلته كي يواصل تحرياته لاحقاً. في صباح اليوم التالي خرج واستقل سيارة اجرة اخذته الى مركز شرطة ولد الطيب. هناك قابل رئيس المركز وقال له بعد ان ادى له التحية الرسمية،
عبد السلام : جئت من الرباط ابحث عن شاب مصري يدعى محمود. آخر المعلومات لدينا تشير الى انه سكن بمنزل سيدة تدعى تانيلا ماجريس. فهل تعرفونها؟
رئيس المركز : نحن نعرفها جيداً. هي من كبار تجار المخدرات بالمغرب.
عبد السلام : اعلم ذلك واعرف ايضاً ان لديها منزل هنا بفاس بشارع سيدي محمد الخامس.
رئيس المركز : اجل لكنها لا تتردد عليه ابداً. ابوها يسكن بذلك المنزل حالياً.
عبد السلام : اجل لقد قابلته بالامس.
رئيس المركز : ليس لدينا معلومات اكثر من ذلك عن تلك السيدة.
عبد السلام : اجل سيدي ولكني قطعت كل هذه المسافي لكي...
قاطعه رئيس المركز وقال،
رئيس المركز : قلت لك ليس لدينا معلومات اكثر عن تلك السيدة. اسمح لي الآن لاتابع عملي. ارجوك تفضل اخرج.
خرج عبد السلام من مكتب رئيس المركز يتلبسه الاحباط لانه لم يكن متعاوناً معه. خرج الى الشارع فلحق به شرطي بسيط وسأله،
الشرطي : هل لديك نار سيدي؟
عبد السلام : ماذا تقصد؟
الشرطي : بريكية، اريد ان اشعل سيجارة لو سمحت سيدي.
عبد السلام : اعتذر منك يا اخي انا لا اكمي، لا ادخن.
نظر الشرطي صوب اليمين وصوب الشمال ثم اقترب من اذن عبد السلام وهمس،
الشرطي : هل جئت تبحث عن شخص ما؟
عبد السلام : اجل سألت رئيس المركز عن شخص معين فلم يدلني.
الشرطي : عمن تبحث؟
عبد السلام : وما دخلك انت يا عريف؟
الشرطي : كنت خلف الباب وسمعت ما دار بينك وبين رئيس المركز فاردت ان اساعدك. والآن اخبرني، عمن تبحث؟
عبد السلام : ابحث عن السيدة تدعى تانيلا ماجريس
الشرطي : انت سألت الشخص الخطأ.
عبد السلام : ومن هو الشخص الصحيح الذي يستطيع ان يدلني عنها إذاً؟
الشرطي : إذا كان لديك نقود فانا ادلك عليها سيدي.
عبد السلام : وكيف عرفت ذلك؟
الشرطي : كنت انا احد الشرطة الذين القو القبض عليها مرتين متتاليتين. وانا اعرف جميع اساليبها الملتوية. اما مدير المركز الحالي فقد انتقل الى وظيفته من كازا قبل شهرين فقط وهو لا يعلم عنها الكثير.
عبد السلام : إذاً خذ هذه 100 درهم. اتكفي؟
الشرطي : اجل، اجل، انها تكفي.
عبد السلام : إذاً اخبرني اين هي؟
الشرطي : إذا اردت ان تجدها فعليك ان تبحث عنها بجنة المخدرات.
عبد السلام : واين هي جنة المخدرات؟
الشرطي : انها طنجة بطبيعة الحال. كان يجب عليك معرفة ذلك.
قالها العريف وهو يغمز لعبد السلام بخبث.
عبد السلام : ولكن ما الذي يضمن لي انها ستكون هناك؟
الشرطي : بمهنتنا، ليس هناك ضمان يا سيدي ولكننا كشرطة نبحث عن الخيوط التي تدلنا على مبتغانا. اليس كذلك؟
عبد السلام : لديك الحق. ساجرب حظي بطنجة.
الشرطي : هل استطيع مساعدتك بالمزيد؟
عبد السلام : كلا. لقد استفدت منك كثيراً واستفدت انت مني كذلك. استودعك الله.
الشرطي : كان الله بعونك سيدي.
خرج عبد السلام وهو مشوش الذهن اكثر مما دخل. فهو يطارد اشباح لها قدرات مادية وسلطات نافذة بامكانها طمس الحقائق واخفائها عنه. لكنه ما فتأ يتذكر الوعد الذي قطعه على السيدة بلقيس الام المسكينة التي جائت من مصر تبحث عن ابنها المفقود. وهذا اساساً ما اقسم عليه عندما تخرج من مدرسة الشرطة وقال الشرطة في خدمة الشعب. ليس هناك انسان احوج اليه حالياً من تلك السيدة. هذا يعني انه سيواصل ويثابر اكثر حتى يعثر على ابنها محمود. الموضوع الآن خرج من اطار تخاريف عرافة عجوز بصعيد مصر. الآن لديه خيوط وادلة واسماء وصور وملفات شرطة وعناوين فإذا عثر على تانيلا ماجريس عثر على محمود. هو الآن على المسار الصحيح. لم يبقى سوى المحطة الاخيرة طنجة حيث سيعثر على ضالته. رجع الى الفندق كي ينام هناك ويواصل مهمته باليوم التالي.
استيقظ صباح اليوم التالي على رنين هاتفه النقال فدقق بالاسم ليرى الاسم (الحاجة بلقيس) رد عليه وقال،
عبد السلام : صباح الخير يا حاجة، كيف حالك؟
بلقيس : انا بخير شكراً يا ولدي. ماذا فعلت بفاس؟
عبد السلام : اوضحت التحريات ان محمود لم يكن بفاس وانما قد يكون بطنجة.
بلقيس : هل عرفت إن كان فعلاً متورطاً بقضايا مخدرات؟
عبد السلام : لا اعلم بعد يا حاجة. ساتصل بك من هناك عندما احصل على اي معلومة اضافية.
بلقيس : هل انت بحاجة لشيء من هنا؟
عبد السلام : فقط رضائك عني ودعائك لي بالتوفيق.
بلقيس : وفقك الله يا ابني.
اغلق الهاتف وتوجه على الفور الى الحمام ليستحم ويحلق ذقنه ثم خرج الى مركز المدينة. ركب سيارة اجرة وطلب من السائق ان يقله الى شارع الحسن الثاني. هناك وجد الكثير من المحال التجارية ومكاتب السفر فدخل على واحدة منها وسأل عن تذكرة من فاس الى طنجة فاخبروه ان هناك رحلة بنفس الليلة على الساعة الثامنة. اشترى التذكرة وعاد الى الفندق كي يصلي الظهر و يستجمع اغراضه ويدفع اجرة الفندق ثم يغادره متجهاً الى اي مطعم كي يتناول وجبة غداء دسمة. بقى يتسكع بالشوارع حتى الساعة الرابعة مساءاً. وقتها قرر ان يتوجه الى المطار ويقضي باقي الفترة هناك. ركب الطائرة فاقلعت مع الساعة الثامنة والنصف بعد تأخير دام نصف ساعة. لكنها ما ان اقلعت واستقرت في السماء حتى بدأت تستعد للهبوط من جديد على ارض مطار ابن بطوطة بطنجا. خرج من المطار وطلب من سائق التاكسي ان يأخذه الى فندق متوسط الكلفة فاخذه الى فندق موريتانيا بوسط المدينة بالقرب من شارع المارينا.
اخذ غرفة صغيرة وحال الاكمال من صلاته توجه فوراً الى السرير. وقبل ان يستسلم للنوم سمع جرس هاتفه فقال، "هذه بلقيس لا محال" الا انه كان مخطئاً لانه سمع صوت زوجته فاطمة الزهراء وهي تقول،
فاطمة الزهراء : كيف حالك حبيبا. لقد اشتقت اليك.
عبد السلام : وانا كذلك اشتقت اليك وللاولاد. كيف حالكم وكيف تسير الامور؟
فاطمة الزهراء : نحن لسنا بخير. اتى اليوم صاحب الدار يطلب مبلغ الايجار فاخبرته انك بمهمة خارج الرباط. لكنه غضب جداً وقال انه سيطردنا من الدار إن لم نعطيه المبلغ خلال يومين. متى سترجع يا عبدو؟
عبد السلام : انا قريب جداً من الوصول لمحمود ابن السيدة بلقيس. بامكانك الاتصال الليلة بزميلي خالد الجيلاني. انت تعرفين زوجته اليس كذلك؟
فاطمة الزهراء : اجل اعرف زوجته مبروكة.
عبد السلام : دعك من زوجته الآن. المهم، انا ساتحدث معه بالهاتف بعد قليل وانت ستحصلين منه على المبلغ.
فاطمة الزهراء : مزيان حبيبا، اعتني بنفسك ولا تعرض نفسك للمخاطر.
عبد السلام : لا تقلقي حبيبتي. ابلغي سلامي للاولاد وقولي لهم ان الوالد كي يبغيهم بزاف بزاف.
اغلق الهاتف مع زوجته واتصل بزميله خالد الجيلاني تحدث معه بخصوص ايجار المنزل فاخبره بانه سيسلمها المبلغ المطلوب باليوم التالي. شكره واغلق الهاتف معه ثم عاد فاتصل بزوجته ثانية ليعلمها ان زميله خالد الجيلاني سوف يعطيها المبلغ بالغد. وباليوم التالي خرج عبد السلام من الفندق وركب سيارة اجرة. طلب منه التوجه الى الشرطة المركزية بطنجة فسأله السائق،
السائق : هل هي بمنطقة بني مكادة؟
عبد السلام : اعتقد ذلك.
السائق : حسناً ساخذك هناك.
وصل عبد السلام الى الشرطة المركزية بطنجة. وهناك سأل عن مدير المركز فادلوه على مكتب العميد حميد بن عبد الرحمن. طرق الباب ودخل فوجد رجلاً ابيض البشرة فضي الشعر جالساً خلف مكتبه. ادى له التحية العسكرية وقال،
عبد السلام : السلام عليكم سيدي.
العميد حميد : وعليكم السلام تفضل اجلس يا ملازم.
جلس عبد السلام على الكرسي امام مكتب العميد ووضع علبه سجائره على الطاولة الصغيرة التي امامه ثم سحب منها سيجارة واشعلها ثم بدأ الحديث.
عبد السلام : اسمي الملازم عبد السلام الفاسي سيدي.
العميد حميد : كيف استطيع مساعدتك؟
عبد السلام : انا ابحث عن رجل مصري دخل المغرب قبل 4 سنوات ولم يخرج منها. اخبرتني عنه امه التي جائت للمغرب تبحث عنه. اعطى عنوان السيدة تانيلا ماجريس عند دخوله الى مطار فاس. لكني بحثت فوجدت ان تلك السيدة لديها منزل مسجل باسم والدتها عائشة بفاس وآخر باسم ابنها الاكبر (ازم) بطنجة. فهل لك ان تدلني على منزل ابنها يا سيدي؟
العميد حميد : انت وصلت متأخراً يا ملازم عبد السلام. فتانيلا ماجريس توفت قبل سنتين.
عبد السلام : توفت؟ كيف؟
العميد حميد : قبل سنتين وصلنا بلاغ من مجهول يخبرنا ان تانيلا ماجريس متواجدة بمنزل ابنها ازم بطنجة. وبما اننا كنا نطاردها من مكان لآخر خلال سنين طويلة، خرجت قوة كبيرة مؤلفة من 15 عنصراً باربع سيارات قامت بمحاصرة المنزل. تحدثنا معها بالمذياع كي نطلب منها تسليم نفسها الا ان شخصاً ما فتح علينا النار من داخل المنزل لذلك قمنا بالرد عليه لكن احداً لم يخرج. بقينا نحاصر البيت لمدة يوم كامل والحال بقي على ما هو عليه. بالآخر قررنا ان نقتحم البيت لكن حدة المقاومة من داخل الدار منعتنا. لذلك قررنا اطلاق صواريخ الار بي جي عليه. بعد اطلاق صواريخ الار بي جي صارت المقاومة اقوى واشد. لذلك استعملنا مدافع محمولة على العربات وقمنا بقصف المنزل حتى توقفت المقاومة تماماً. وتحول المنزل الى كتلة كبيرة من الاطلال والرماد، لم نتمكن من العثور سوى على اشلاء متناثرة بوسط الركام.
عبد السلام : وماذا عن فحص الحمض النووي لتلك الاشلاء سيدي؟
العميد حميد : اجل قمنا بذلك فتبين ان بعض الاشلاء كانت للسيدة تانيلا ماجريس والبعض لابنها ازم وشخص آخر لم يتم التعرف على شخصيته لكن نوع عظامه يشير الى انه ذكر بين 20 و 30 سنة من العمر.
عبد السلام : ربما يكون هذا لمحمود. وهل بامكاني ان ازور موقع المنزل الآن؟
العميد حميد : سوف لن تستفيد منه شيئاً لانه قد سويَ الى الارض وبني مكانه فندقاً كبيراً الآن.
عبد السلام : شكراً لك سيدي. اعتقد ان ذلك ينهي مهمتي. سابلغ والدته بذلك حتى تعود لمصر.
العميد حميد : رافقتك السلامة يا ولدي.
وقف عبد السلام وغادر مكتب العميد ثم اغلق الباب ورائه. خرج الى خارج المركز واوقف سيارة اجرة كي يذهب بها الى الفندق. لكنه قبل ان يدخل سيارة الاجرة تذكر علبة سجائره بمكتب العميد فقرر ان يرجع لاخذها. وعندما اصبح على مسافة متر او اقل من الباب سمع العميد يتحدث بالهاتف فقرر الانتظار حتى يفرغ من المكالمة ثم يدخل لاسترجاع سجائره. وبينما هو ينتظر سمع العميد يقول،
هل انت بمفردك؟ ...هدوء... اريد ان اكلمك على انفراد ...هدوء... اجل يا احمد، لقد كان الملازم عبد السلام جالساً عندي قبل قليل وقد سألني عن تانيلا مجريس فاخبرته انها ماتت ...هدوء... اجل اقتنع قناعة كاملة بانها ماتت بالحادث مع ابنها ازم ومحمود ...هدوء... اجل، اجل سأل عن الـ دي ان اي وقلت له انه كان مطابقاً لتانيلا وابنها ازم ...هدوء... قلت له ان محمود لم يعثر على دليل لمطابقة حمضه النووي ...هدوء... اجل، بالتأكيد اقتنع يا حضرة العقيد وقد قرر الرجوع اليكم بالرباط...هدوء... طيب، طيب وانت كذلك، توخى الحذر، وداعاً.
تراجع عبد السلام الى الوراء بعد ان صدمه الكلام الذي سمعه للتو. ايعقل ذلك؟ من خلال حديث العميد استنتج ان هذا العميد بطنجة متفق مع العقيد احمد بالرباط وكلاهما متورطين مع تانيلا ماجريس. ولكن كيف؟ يبدو ان الامر معقد للغاية وان عليه ان يتأنى كثيراً قبل ان يثير الغبار فيرجع عليه ويخنقه وقد يؤدي الى قتل زوجته واولاده كذلك. "ساذهب الى الرباط واقرر هناك ان شاء الله"
لم يدخل على مكتب العميد ليسترجع سجائره ولم ينتظر الى اليوم التالي بل رجع الى الفندق وقام بتجميع امتعته من هناك وتوجه مباشرة الى مطار ابن بطوطة بطنجة. ركب طائرة اقلته الى الرباط. دخل منزله فوجد السيدة بلقيس تجلس بالصالة ويجلس حولها جميع افراد عائلته. وقف الجميع وصار يحييه ويقبله. نظر عبد السلام الى السيدة بلقيس وقال،
عبد السلام : يجب ان اخبرك بما حصل.
فاطمة الزهراء : اجلس اولاً وارتاح من السفر، تناول الطعام ثم نتحدث.
عبد السلام : ليس هناك مجال للطعام. ارجوك يا فاطمة خذي الاولاد واخرجي بهم، اريد التحدث مع السيدة بلقيس.
خرجت فاطمة مع الاولاد واغلقوا الباب ورائهم. نظر عبد السلام الى السيدة بلقيس وقال،
عبد السلام : الآن علينا ان نتحدث.
بلقيس : تفضل يا ولدي ما الامر؟ هل وجدت ابني محمود؟ هل هو على قيد الحياة؟ انا اسمعك.
عبد السلام : اسمعي مني اولاً يا سيدة بلقيس. ابنك متورطٌ مع عصابة كبيرة لتسويق المخدرات. هذه العصابة ينتمي اليها الكثير من كبار ضباط الشرطة ومسؤولين بالدولة. تترأس العصابة سيدة امازيغية تدعى تانيلا ماجريس ومعها ابنها آزم. لديها مساعدين كثر بداخل جهاز الشرطة وبخارجها في عدة مدن من المغرب. حسب الادلة التي عندي فابنك حي يرزق لكنه إن خرج الى السطح فانه سيزج بالسجن بدون ادنى شك. بامكاني ان افضح العصابة كاملة لكني يجب ان احصل منكِ على الموافقة.
بلقيس : انظر يا عبد السلام، ان عائلتي هي من العوائل العريقة بمصر وابني محمود هو حفيد الباشا سلطان عبدالودود الذي كان احد مستشاري الملك فاروق بمصر. وإن كان ابني محمود يعمل لدى هذه العصابة بارادته فانا اول من يرغب بزجه بالسجن لان وجوده بالسجن يعني انه بطريقه للاصلاح وذلك افضل من وجوده بداخل تلك العصابة المشؤومة. بامكانك ان تفعل اللازم وتعمل كما يمليه عليك ضميرك يا ولدي.
عبد السلام : حسناً ساتصل بنائب المدعي العام السيد العربي بن فيلال الذي هو خال زوجتي فاطمة الزهراء وساستشيره بالامر.
بلقيس : على بركة الله.
باليوم التالي اتصل عبد السلام بنائب المدعي العام وطلب مقابلته فطلب منه ان يحضر الى مكتبه فوراً. ركب عبد السلام السيارة وذهب الى مكتب النائب حيث دخل المبنى وسأل الشرطي الذي بالاستعلامات عن النائب فقال له ان السيد النائب بانتظاره. طرق الباب فسمعه يقول "ادخــــــــــل"
عبد السلام : صباح الخير سي العربي، كيف حالك؟
النائب العربي : انا بخير وعلى خير. ما نوع الحظ الذي حباني كي تأتي لزيارتي يا عبد السلام؟
عبد السلام : انه ليس بحظ جيد سيدي. فانا اريد ان اتحدث معك بامر خطير جداً.
النائب العربي : تفضل اجلس ثم اشرب قهوتك وبعدها نتحدث بهدوء لان الامر على ما يبدو في غاية الخطورة.
دخل الشاوش الى مكتب النائب فطلب منه فنجاني قهوة ثم خرج.
النائب العربي : ها، عبدو تحدث، ماذا يدور بخلدك اخبرني؟
عبد السلام : سيدي من مدة جائتني سيدة مصرية الى مركز شرطة الرياض حيث اعمل وطلبت مني البحث عن ابنها المفقود منذ فترة طويلة. وبعد ان استشرت مديري المباشر العقيد احمد المكناسي عن الامر سمح لي ان احقق واقتفي اثر محمود ابن السيدة المصرية بلقيس المختفي منذ اكثر من 4 سنوات. لذلك قمت باخذ الاذن منه كي اتمكن من الدخول الى الارشيف المركزي بوزارة الداخلية ثم قمت...
قاطعه النائب العام وقال،
النائب العربي : اعرف كل ذلك. واعرف برحلتك الى فاس ثم رحلتك الى طنجة.
هنا بدأ عبد السلام يرتعش ويشعر بالدوران، فقد اتى اليه ليبلغه عن شبكة كبيرة للمجرمين فتبين ان النائب العربي هو الآخر ينتمي الى نفس الشبكة الاجرامية فسأله، عبد السلام : تعرف ذلك؟ وكيف تعرف ذلك؟ هل انت... اقصد هل تنتمي انت ايضاً الى نفس العصابة؟ هل استمالوك الى صفهم؟
1252 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع