المثقفون والأمانة التاريخية ... حميد سعيد نوذجا ً

                                         


                                زيد الحلي
 
ليس من الصعوبة  معرفة الحقيقة من الوهم، فهما نقيضان مثل الزيت والماء ، ومهما أمعنت في خلطهما ، فسرعان ما يفترقا عن بعضهما ، وهما عكس الوان (الابيض والاسود ) فعند دمجمهما يظهر لك  لون جديد ، او عند تطعيم شجرة فاكهة بغصن شجرة فاكهة اخرى ، فستتذوق نكهة جديد ، والأمثلة تزاد ، لكن الحقيقة وحدها لا ترضى ان يشاركها غير نفسها ، لاسيما الوهم  الذي هو صنو الخديعة .

والذي دعاني الى  ذكر هذه الامثلة هو الظاهرة المؤسفة التي بدأت تستشري في الصحافة الثقافية  العربية ، والعراقية على وجه التحديد ، وهي  قلة متابعة الأدباء خصوصاً  من ذوي الاختصاص  لما ينشرفيها  ، وغض النظر عن الموضوعات التي تحتاج الى توضيح  او أضافة  خدمة للأمانة التاريخية ، لذلك نجد الكثير من الغث يصبح " سميناً " في قابل السنين ... اليس  الصحافة مرجعاً تاريخياً ؟
ولو أدركنا مسيرة مجلة رائدة مثل ( الآداب ) التي وأدت مؤخراً ، ودرسنا أسباب نجاح مؤسسها د. سهيل أدريس في رسم خارطة أدبية  عربية، لأتضح لنا ان أبواب مثل ( قرأت العدد الماضي) او( النتاج الجديد ) او( مناقشات )  كانت هي أعمدة ذلك النجاح ، فالعالم  لن يكون ثرياً إلا من خلال أنفتاحه على بعضه البعض .. والأدب على وجه الخصوص  لن يكون ثرياً دون الإنفتاح والتلاحق الصافي بين الأدباء ، وتصحيح الاخطاء ان وجدت بروح رياضية بعيدة عن التدليس كما يفعل بعض  (المدلسين ) كفانا الله شرهم وشرورهم !

مثالان ..
ومن خلال تجربتي ، وجدتُ حالات  من ( المتابعة  ) السطحية التي يشم المرء منها رائحة  " الأنا " دون التمحيص والإضافة  خدمة للثقافة  ، وهي  بمثابة سطور تذرف رماداً جديداً  فوق الرماد المبثوث في الموضوع الذي يدعون إنهم يصححونه او يضيفون اليه ما فات من معلومة او زيادة في إيضاح موزون  .. وأضع هنا نوذجاً لحالين من المتابعة تعرضت لهما خلال الأشهر الاخيرة ، وفيهما يتبين النقد والتوضيح الخالي من اغراض التهشيم  من عكسه  ، وأذكر للقراء الكرام  أسم من أبدى ملاحظة موضوعية خدمة  للثقافة ، وأغض الطرف عن ذكر  أسم الآخرالذي أراد الأساءة  فأنقلبت عليه  ، فالذي يعنيني هو ما أود الاشارة اليه  من ملاحظة  تتعلق بخلو الساحة الثقافية من تعقيبات موضوعية  تسهم في انعاش الجو الثقافي ، ولنا أسوة حسنة بمجلتي (الاديب)  و ( الآداب ) في عهديهما الستيني الزاهر وبعض ما تنشره صفحات ( الف ياء ) في حريدة الزمان حالياً من موضوعات تثري حالة النقاش الموضوعي  بعنوان  قراءة  في نصوص الزمان ..
وأبدأ بالقول  : ان متابعاً يقضاً ، صافي النفس والسريرة ، مثل الشاعر الكبير والكاتب المتميز حميد سعيد ، هو أبن الزمن الذي يعيش فيه ، لذلك تراه يحاول في نقده والاشارة الى الاخطاء في نص ما ، التأقلم مع معطيات الفكرة الجديدة بعقل واع ، متفتح فريد ، أما الآخر الذي ترتفع عنده النرجسية  في (ملاحظاته) الخاطئة أصلاً ، فهو لا يريد ان يفتح عقله ، مؤكداً أنه ليس من أبناء هذا الزمن ، لذلك تراه يعيش بين مفردات ينثرها في كل مقالة .. ان أمثاله ببساطة أستمرأو المكوث في الزمن الماضي ، ومثل هذا الشخص لا يدرك ان الزمن يتغّير ، ويغيّر معه كل الأشياء ، وبنصيحة مني أقول لمن على شاكلة من أدمن النرجسية ، ضرورة التغيير وتغيير المقولات المكررة والافكار البالية وإلا توقف العقل وأستمر متجمداً !
وأعود الى المثال الاول :  بعث اليّ الشاعر الكبير حميد سعيد ، سطوراً مفعمة بالود على موضوع  سبق ان نشرته  في جريدة "الزمان" عن الشاعراليماني عبد الله البردوني وجد فيه الاستاذ حميد  شططاً غير مقصود مني ، فبعث رسالة هذا نصها  : (قرأت مقالتك عن البردوني.. إنها مقالة جميلة ، لكن أود أن  تعرف بأن مهرجان أبي تمام لم يكن على هامش المربد بل كان مهرجانا خاصا لمناسبة إقامة تمثال له في الموصل ، وإن البردوني لم يحضر في المرابد الأولى ومنها مربد 1971،، وإن ديوانه الأول المطبوع في مصر في العام  1961 بعنوان " من أرض بلقيس" فيه الكثير من المدائح ، بما فيها مدائح لملك اليمن أيامذاك ،، ولم يعتذر الجواهري عن قراءة قصيد ة في مهرجان أبي تمام، وأنما كنا ( يقصد الاستاذ سعيد انه كان مع الجواهري ) في دمشق وكان رئيس الوفد العراقي الجواهري ، حيث تزامن مهرجان أبي تمام ومهرجان الشعر العربي في دمشق فاضطررنا  لتقسيم الشعراء,, ولم تكن قصيدة البردوني هي الأولى ولكنها كانت من أنجح قصائد المهرجان وهي التي أطلقت اسمه عربيا ... مع التقدير ) وتنتهي سطور الشاعر حميد سعيد لكن عبق ودها ، ما زال يرفرف في أفق رحابي لأحساسي بأن رسالته اليّ تنشد التصحيح بلغة آخائية ،  لذيذة  وقد أسعدتني ملاحظته  في تصحيح بعض الهنات التاريخية التي جاءت بسبب قدم الاحداث ، ما جعلني أسرع في تصحيح الموضوع عند نشره في المواقع الثقافية الالكترونية  الرصينة التي أنشر فيها   ..
والمثال الثاني ، حين انبرى أحد ( الكتاب ) بالرد السطحي على مقالة نشرتها في صفحات ( الف ياء ) بجريدة  " الزمان" أيضاً  بعنوان ( السياب يحدد رؤيته للشعر الحر في مسودة عمرها 56 عاماً..  )  ذكرتُ فيه ان ( السياب  قال في مقالة له وجدتها كمسودة  في  أحدى غرف صحيفة " الحرية " البغدادية  التي كان  يعمل فيها السياب  في نهاية خمسينيات القرن المنصرم ... الخ )   ونشرتُ  نص المقالة  ، دون ان تفوتني الأمانة التاريخية من الأشارة  في مقدمة  مقالة السياب القول نصاً ( ولا أدري هل هذه المقالة نُشرت ام لم تُنشر )  وهي عبارة لا يخفى مضمونها على أحد ، لكن ( الكاتب) المذكور ،  أقام  الدنيا ولم يقعدها  بأسلوب شبيه بعبارة ( عاجل ) التلفزيونية ، مؤكداً ان  فلاناً ( يقصدني ) غير أمين وأن  مقالة السياب المذكورة  منشورة  في المكان الفلاني قبل سنوات  وكأنني أدعيتُ عكس ذلك ..  لقد عذرتُ الكاتب الذي لم يفرق بين كلمة ( لا أدري .. هل نشرت ام لا ) وبين  التأكيد ، بان المقالة المذكورة  كنز تم أكتشافه !!
ولم يكتف بذلك  فقط ، بل قوّلني ما لم أقله بالمرة ، حين ذكر في رد على تعقيب الصديق الشاعر مكي الربيعي على ما نشرتُ ما نصه (ما ادّعاه زيد الحلّي من اكتشاف المسوّدة هو محض وهم...) علماً انني لم أذكر عبارة ( إكتشافي ) ابداً في مقالي آنف الذكر ، اوعند تعقيبه على ما جاءت به سطور الكاتب النبيل  مصدق الحبيب من ان النقاش الموضوعي هو السبيل للحقيقة  (... هل أسكتُ عن هذه المغالطة التي قد تحدثُ لبساً في القراءة من أنّ زيد الحلّي عثر على هذه المسوّدة التي تحدّد رؤية السيّاب للشعر الحر الآن) وهنا تحولت عنده المفردة من ( أكتشاف ) الى ( عثور )!!!غير ان  القراء في أعقاب نشر ما أدعاه الكاتب بكشف  مغالطة ( العثور ) و ( الأكتشاف ) ، كانوا أذكياء  بشكل لافت ،حين جابههوه  بردود  دلت على وعي كبير(راجع موقع " المثقف ") .. مثلما رد الأكاديمي د. صباح أحمد بالقول  للمعترض على كلمتي  ، ما نصه  ( قرأت ردك على الكاتب زيد الحلي فوجدتُ فيه من التجني الكثير ، إنه لم يقل انه اكتشف مقالة الشاعر السياب بل ذكر انه لا يعرف ان كانت منشورة ام غير منشورة ، واعتقد ان حضرتك تدرك الفرق بين الأثنين .. واسمح لي ان نتحدث قليلا كأساتذة في الجامعة ..  لقد جُبلنا على تكرار ما هو شائع ولم ندع عقولنا الجامعية تبحث عن المخبوء والغاطس في حياتنا الثقافية وغير الثقافية وبقينا نتطيّر من كل طرح جديد مما سبب لنا اذى في رؤانا الابداعية ، واخذنا نلوك الشائع ونردده ونتحدث عن اشياء معينة وكانها مسلمات لا يمكن المساس بها ، فساهمنا دون وعي منا في قبر أية موهبة وطمس كل بذرة نجاح بحجة الدفاع الأعمى عن رموز اخترعها غيرناوبأوقات وزمن معروف .  لندع الشبابيك مفتوحة ونجعل النقاش الهادئ سبيلنا ..)
 
وايضاً كتبت أستاذه جامعية هي الدكتورة  نور عبد اللطيف بالإتجاه نفسه قائلة  (ان النقاش الموضوعي يخلق فرصاً بحثية جديدة ويعطي تجذراً وألقاً في المشهد الثقافي .. وعلى أساس هذه الرؤية ، وحتى لا أعطي لرأيي مساحة في البوح ، قمت بسحب ما كتبه الاستاذ زيد الحلي وتعقيبيه، وما كتبه حضرتك وكافة تعليقاتك على الورق وبعدة نسخ ووزعتها على 7 من طلابي الأكفاء في الجامعة ، طالبة منهم دراستها وأعطاء الرأي في الموضوع ، وقد شاركني هؤلاء الطلبة في ما أعتمل عندي حيث اكدوا ان جنابك ( تقصد كاتب التعقيب ) لم تكن موضوعياً في ردك على الموضوع الجريء الذي طرحه الحلي وتمسكت بالقشور دون اللب ثم اضفت من عندك مالم يذكره الكاتب وعلى سبيل المثال هو لم يقل انه (أكتشف) المقالة في عام 1955 بل ذكر إنه اثناء عمله الصحفي عثرعلى مسودة عتيقة للسياب ربما كان كتبها السياب عام 1955 كما انه لم يشر ان المسودة من اكتشافه بل قال انها ربما منشورة والى غير ذلك ..
لقد غادرنا العقد الاول من الالفية الثالثة فيما نلحظ عقلية البعض تحاكي اواسط القرن الماضي وتنطق بلغة عنترة بن شداد والزير سالم !!!  )...
وأكتفي  بهذين التعقيبين من القراء ، وهناك المزيد !
ولا بد لي ان اسجل حمدي للعلي القدير الذي أخرجني من ظلم مثل هذا الشخص ، من خلال تعليقات ومتابعات العديد من القراء الواعين ، الذين حفل بهم بريدي الألكتروني فنفضوا عن أكتافي محاولة أدعاء شخص سرعان ما تلاشى في ريح الحياة التي ذرته في هبوبها ، وذاب رغاؤه وزبده ان كان له .. زبد !
ونظرة الى المثالين أعلاه  يتبين الفرق  بين من يريد تأكيد حقيقة لتكون برسم التأريخ مثل إيضاح الاديب المقتدر، الشاعر حميد سعيد ، وبين من يريد  توضيحاً لتوكيد ذاتٍ هرمة ، فما أحوجنا الى ردود ومناقشات وسجالات تضفي روحاً من الحراك الثقافي في وسطنا الذي أصابه اليباس وسط أنهار وعيون وينابيع منتشرة في أرجاء وطننا الفسيح .. وصح القول ، بأن أفج ما يسوّد الحقيقة ، هي أن ( نصطنع ) العلم ، بهدف جعله وسيلة الى تهشيم من تجذروا في الحياة ، من خلال استمرارعطائهم لعقود دون توقف والسعي الى خداع الناس بالألقاب ( العلمية ) وبالألفاظ الحسان ، لتحقيق مآرب بعيدة عن الصدق دون خشية ولا حياء ، ترضية لـ (نرجسية) هي كجبل الثلج ، سرعان ما يذوب وينهزم امام شمس الحقيقة .
وفي الختام أقول أنني رغم أبحاري الطويل في عالم الصحافة الذي اوشك ان يودع نصف قرن ، أعترف بأني لم أجد بعد شاطئ ، أطأه كي أستريح ، وربما من أسباب ذلك هو وجود أناس (أحترفوا) الكتابة ، دون ان يدركوا معانيها الانسانية  وأهدافها النبيلة ، لذلك تراهم يخططون بعشوائية لأغتيال ابداعات الآخرين . وقد نسى اولئك ان لكل شئ ثمن في الحياة وثمن الأخذ ان تعطي اولا .. مثل الارض تماما فهي لاتعطينا إلا ان تأخذ منا الوقت والجهد والأهم من ذلك .. النبة الطيبة !
شكراً لتصويبات الاستاذ حميد سعيد البريئة ، فهي تصويبات نقية من كاتب نقي ، وهي بمثابة نظام متكامل للأفهام ، وكما ان اللسان بريد القلوب ، فالملاحظة الصادقة هي بريد الألفة الداعية الى سلوك طريق الابداع  دون منّة او تشهيرعلى طريقة التلفزيون ...(عاجل ) او ( ورد للتو)!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

807 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع