بقلم احمد فخري
الحياة في حقول البترول /الحلقة التاسعة عشر وقبل الاخيرة الانتقال الى مدينة ابوظبي
في شهر نيسان من عام 1990 حضر الى مكتبي في البحر احد المهندسين العراقيين من الذين يعملون بمقر شركتنا بمدينة ابوظبي بشكل دائم. رحبت به اشد الترحيب بمكتبي واستدعيته على قدح من الشاي، وعندما جلسنا سوياً دار هذا الحوار بيننا،
- ما الذي جاء بك يا اخي (لا اذكر اسمه ولكن دعنا نسميه كاظم)؟
- جئت هنا بمهمة عمل خاصة وسالتقي مديرك عزيز الجبوري فيما بعد. وماذا عنك انت؟ هل انت مرتاح في عملك هنا؟
- لقد كنت مرتاحاً بعملي قبل أن يبدأ العمل معنا ذلك المدعو عزيز الجبوري، اما الآن فبالتأكيد لا.
- انا اتعاطف معك كثيراً، فانا اعرفه بشكل جيد قبل ان تعرفه انت وهو صعب المراس ولديه الكثير من المشاكل النفسية التي يعاني منها.
- يا اخي هل تصدق؟ كنت ساستقيل قبل فترة قصيرة بسبب تصرفاته الغير متزنة.
- ولماذا تستقيل يا احمد؟ إذا كنت غير مرتاحاً في عملك فلماذا لا تنتقل الى مدينة ابو ظبي وتعمل معنا في المختبر؟ نحن بحاجة الى مهندس مثلك له خبراتك وقدراتك العلمية، خصوصاً وانك عملت بالحقل لسنين طويلة ولديك رؤيا تختلفة تماماً عمن لم يعش بالحقل ابداً. ستكون الشخص المناسب في المكان المناسب.
- إسمع مني يا اخ كاظم، إن ما تقوله الآن لهو حلم لا اكاد اصدقه. فكثيراً من الوعود التي قُطعتْ لي منذ أن باشرت عملي بهذه الشركة قبل عشر سنوات ولحد الآن لم يطلع عليها نور النهار ووؤدت تحت التراب أو بالاحرى تحت البحار. فانا باشرت عملي عام 1981 ومنحت الدرجة 11، ووعدوني وقتها ان اترفع درجة واحدة على الاقل كل اربع سنوات. لكني ولحد الآن بدرجة 11 فهل هذا شيئ مطمئن بنظرك؟ ومن قال انهم سيوافقون على نقلي الى مركز الشركة بابوظبي؟
- اطمئن يا احمد، ان مهمتي الاساسية والسبب الذي اتيت به اليوم هو محاولة اقناعك بالانتقال الينا بمختبرات ابوظبي لان هذا ما طلبه مني السيد جمال الجزائري رئيس قسم التليسستم بالادارة الرئيسية بمدينة ابوظبي.
- أحقاً ما تقول؟ هل حقاً جمال طلب منك ذلك بنفسه؟
- نعم، نعم، الامر كله بيدك يا احمد، وزيادة على ذلك فقد اخبرني جمال انك سوف تترفع الى درجة 12 حالما تضع قدميك بالمختبر.
- يا الهي، كم انا سعيد بما تقوله يا كاظم. اريد ان انتقل اليوم قبل الغد لاني ضقت ذرعاً من ذلك المعتوه المتعجرف عزيز الجبوري واريد أن ارجع معك اليوم.
- هاهاها لا طبعاً هذا لا يجوز. فالطريقة الصحيحة هي ان ادارة الشركة ستقوم بارسال رسالة اليك تخبرك بعرض النقل المقدم. وبعد ان توافق انت على العرض وترسله عن طريق القنوات الرسمية المعتمدة سيتم نقلك الى مدينة ابوظبي بشكل رسمي بعد ان تستهلك كل رصيدك من الاجازات المستحقة لديك من عملك في البحر افهمت؟
- نعم، نعم فهمت يا صاحبي، انت حقاً انسان رائع. اشكرك من كل قلبي.
- لا شكر على واجب. بالواقع انا هو من عليه أن يشكرك لانك سهلت علي مهمتي التي بعثني من اجلها مديري جمال الجزائري.
بقي المهندس كاظم معي طوال اليوم وبعد ان تناولنا وجبة الغداء سوية، عاد بالطائرة الهلكوبتر الى مدينة ابوظبي وقد بقيت في غرفة المغادرة وانا اودعه والابتسامة العريضة تملأ وجهي وقلبي يكاد يخرج من صدري من شدة الفرح. بقي يؤشر لي من بعيد بعلامة الابهام الى الاعلى بمعنى سننجح بالمهمة وننقلك الى ابوظبي لا تقلق.
رجعت الى مكتبي وهاتفت زوجتي بابوظبي وزففت لها الخبر السعيد. فرحت فرحاً شديداً وضلت تقول بانها لا تصدق الخبر حتى يتم فعلاً. لانها ملت من تدبر شؤون المنزل وحدها عندما اكون انا بالبحر وهو بلا شك عبئ كبير عليها خصوصاً وان ولداي التوأمين كانا بسن 3 سنوات فقط. اما ابنتي فلم تكن قد بلغت سن العاشرة بعد.
انتضرت ما يقرب من اسبوعين حتى اتصل بي مديري عزيز الجبوري وطلب مني ان احضر الى مكتبه. وهناك نظر الي نظرة ملؤها الحقد والكراهية إذ قال،
- اليوم وصلت رسالة من ادارة ابوظبي تطلب نقلك الى مختبرات اليابسة. اهذا ما تريده حقاً؟ هل تريد مغادرتنا؟
- نعم يا عزيز، فانا قد تعبت من حياة البحر إذ اني اعمل هنا منذ 1983. وكما تعلم لدي عائلة بابوظبي وهم بحاجة لي هناك.
- لكننا بحاجة لك ولخبرتك هنا اكثر. ارجو ان تراجع نفسك وان تفكر ملياً قبل ان تخطو خطوة من هذا النوع فقد تكون خطر عليك وعلى مستقبلك.
- لقد فكرت كثيراً وحسمت الامر يا عزيز. انا متأكد تماماً مما اقوله.
- حسناً انا ساوافق على نقلك، طالما إن هذا هو ما تريده انت. واعلم باني استطيع ان ارفض نقلك.
- انا متأكد انك لا تريد لي سوى الخير يا عزيز، وسوف لن تقف في طريق سعادتي.
سحب رزمة من الاوراق من جرارة مكتبه واعطاها لي وبها النص الذي ساوقع عليه كي تتم اجرائات النقل. وقعت عليها مباشرة دون ان اقرأ التفاصيل واعطيتها لعزيز الجبوري.
رجعت الى مكتبي وانا سعيد واغني طول الطريق (بس اليوم ويا حسين خلوني، وباچر وين متردون ودوني). بقي على اجازتي اسبوعين فقط، وفي تلك الفترة كنت اشعر انني اسير على الغيم لأني اصبحت اسعد انسان في الدنيا ولاني سئمت المشاكل التي كان يسببها لي مديري. لم اشعر كيف مرت المدة فقد كنت في حلم سعيد رجوت الله ان لا ينتهي. كان جميع زملائي واصدقائي فرحين بخبر نقلي الى ابوظبي لان ذلك سيحسن من وضعي الاجتماعي وسيعتقني من ذلك السجن الحديدي الذي اخترته طوعاً لنفسي. لكنهم كانو حزينين بنفس الوقت لانهم سيفتقدوني وبالاخص تلاميذي الذين كانوا يتلقون دروس الكومبيوتر مني. وبالرغم من محاولاتي الحثيثة لم اجد من يتمكن ان يحل محلي في تدريسهم لذلك كانت دورات الكومبيوتر في طريقها للزوال.
بعد حوالي اسبوع وانا جالس بمكتبي، جائتني رسالة محمولة باليد مكتوبة باللغة الانكليزية مفادها التالي:
نداء الى جميع الاخوة منتسبي شركة زادكو ومقاولين ومنتسبي شركة ابيلا للخدمات الفندقية في حقل زاكوم. ندعوكم لحضور حفل توديع الزميل المهندس أحمد فخري يوم الخميس القادم المصادف () على الساعة الثامنة مساءً والذي سينهي عمله في حقل زاكوم بشكل نهائي وسينتقل الى مدينة ابوظبي بنهاية فترة دورته الحالية. سيقام الحفل في القاعة الترفيهية (قاعة البلياردو) وسيترأس الحفل مدير الموقع السيد محمود علام. لذلك نرجو من الجميع الحضور ولكم جزيل الشكر والامتنان.
قرأت الرسالة وبدأت عيني تغرورق وصعب علي الاستمرار بقراءة باقي الرسالة. فانا كنت قد قرأت مثل هذه الرسالة مئات المرات لزملائي المغادرين وكنت انظر اليها بحسد كبير لاني كنت اود ان أتخلص من ذلك السجن الطوعي الكبير. ومن ناحية اخرى، كان كل من يعمل في حقل زاكوم وبغض النظر عن نوع عمله او موقعه الوظيفي هو انسان عزيز عليّ، إذ كانت علاقتي مع الجميع علاقة ودية ما عدى مديري عزيز الجبوري الذي كان يتصرف بشكل غير موزون بناءاً على حالته النفسية المريضة. وعلمت وقتها اني ساغادر هذا المكان تاركاً ورائي سمعة جيدة واناس طيبون يحبونني. فالسنين السبعة الماضية كانت كفيلة بأن تمنحني علاقات وشيجة باناس من مختلف اقطار العالم، الغالبية العظمى منهم كانوا طلابي ممن درستهم في دورات الكومبيوتر إذ خرجت العديد من الدورت وصاروا يكنون لي العرفان بالجميل وهذا ما كنت اعتبره وساماً اتمنطق به في مستقبلي.
في يوم الاحتفال وعلى الساعة الثامنة تماماً دخلت القاعة الترفيهية فوجدت جمعاً غفيراً من الزملاء ينتضرون حضوري. كان حاضراً هناك د. محمود علام (مدير الموقع)، كمدو (مواصلات)، فيصل (مواصلات)، صفوان المصرف (انتاج)، فلاح محسن (انتاج)، خالد اليازوري (انتاج)، ألفي (انتاج)، هيثم ماصو (انتاج)، عدنان قاعود (انتاج)، مدحت الوكيل (انتاج)، جون بيير لابيير (انتاج)، البكري (السلامة)، ذو الفقار (اتصالات)، محمد بلعيد (ادارة)، د. محمد دروي (طبيب)، عبد الرحمن (اتصالات)، عبد العزيز (اتصالات)، قيس قيردار (تليسستم)، ڤنو گوپال (تليسستم)، راماسوامي ماداڤان (تليسستم)، رامانايدو، (تليسستم)، سوامي (تليسستم)، قاسم ابو التمن (تليسستم)، عزيز الجبوري (تليسستم)، طارق برتو (تليسستم). وهناك العديد ممن لم تسعفني ذاكرتي باسمائهم العزيزة على قلبي.
افتتح الاحتفال د. محمود علام (مدير الموقع) بخطاب دام حوالي 15 دقيقة اشاد بعملي خلال السنين السبعة التي مكثتها في الحقل واخبر الجميع مدى تعاوني مع باقي الاقسام وكفائة عملي واحترامي للسلامة والقوانين واللوائح. كما اشاد بفعالياتي خارج نطاق العمل كدروس الكومبيوتر والتي دامت سنين طويلة عرّفت الكثير من منتسبي الشركة بهذا المارد التقني الجديد الا وهو الكومبيوتر. في الختام تمنى لي باسمه وباسم جميع الحاضرين المستقبل الباهر والنجاح بمهامي الجديدة بمقر الشركة بابوظبي. ثم قدم لي هدية تذكارية ثمينة كان قد تشارك فيها جميع الحاضرين. وعندما فتحتها واذا بها ساعة يدوية نفيسة من نوع اوميغا مطلية بالذهب.
نظرت الى هذه الساعة فادمعت عيناي لانها كانت تمثل الحب والامتنان لجميع زملائي الذين عشت معهم سنين طويلة وكأننا عائلة واحدة. واليوم هم يعبرون لي عن حبهم وامتنانهم لتلك الفترة التي عشناها سوية.
بعد تقديم الهدية قام د. محمود علام بقطع كيكة عملها خصيصاً طباخو المطبخ وبدأوا بتوزيع قطع الكيك على الحاضرين. رجعت الى غرفتي بعد انتهاء الحفل وجلست وحيداً على سريري وانا انظر الى تلك الساعة الرائعة. قطعت وقتها عهداً على نفسي ان لا افرط بتلك الساعة مهما حصل لانها ستذكرني دائماً بتلك الفترة وتلك الباقة الجميلة من الرجال الطيبين. وفي يوم الرحيل صعد الكثير من اصدقائي المقربين الى غرفة التوديع وكان وقتها موقفاً مؤثراً جداً لاني كنت اشعر وكأنني اودع افراد عائلتي.
انطلقت بي طائرة الهليكوبتر ولم تهبط الا بعد نصف ساعة في مطار البطين بابوظبي حاملة معها شجوني والمشاعر المتضاربة بـ الحزن والامل - الفراق والتقدم - الحسرة والمستقبل. وفجأة صرت افكر بعائلتي الصغيرة وكيف سيستقبلونني للمرة الاخيرة لانها ستكون بدون فراق لاحق. ساعمل جاهداً كي اسعدهم وان امنحهم كل حبي وطاقتي واعوضهم عن الحرمان الذي عانوه من جراء غيابي المتكرر للبحر. اصبحت عائلتي هي محور تركيزي ومدار مجرتي. ساعمل في مختبرات ابوظبي وافوز بحبهم وتقديرهم واحترامهم واتفانى بعملي كما عملت سابقاً في البحر وسوف يثقون بي وبقدراتي العلمية واندفاعي نحو العمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل ولا الملل. وسأحقق كل الامنيات التي كنت اتمناها من المختبر والتي كانوا لا ينفذوها لي من حيث فحوصات خاصاً اضافية كنت اطلبها منهم عندما كنت ابعث لهم قطع الغيار المعطوبة لغرض التصليح.
الى اللقاء في الحلقة العشرين والاخيرة من هذا المسلسل. الحلقة القادمة ستكون بعنوان (وحلّتْ الكارثة)
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/maqalat/35285-2018-05-04-10-05-29.html
1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع