سنتان على انتفاضة 25 فبراير 2011

                                         

                  طارق الهاشمي

قبل أسبوعين مرت علينا مناسبة هي ليست كأي مناسبة أخرى، ولم تكن حدثا سياسيا عابرا، بل نقطة تحول حقيقية في الصراع السياسي الدائر في العراق؛ إذ لأول مرة منذ سقوط النظام السابق، يتجرأ غاضبون على سياسة حكومة نوري المالكي، ويكسرون حاجز الخوف، في تجمع سياسي حاشد في كبرى ساحات بغداد للمطالبة بإصلاح إدارة حكومية فاشلة.

تظاهر العراقيون في الكثير من محافظات الوسط والجنوب بالتنسيق مباشرة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، وشكلت مجاميع شبابية ما عرف بـ(ائتلاف ثورة 25 فبراير/ شباط).

المالكي خاطب العراقيين قبلها بيومين، ولكن ليس للاعتذار والاعتراف بالفشل، ليس مداراة لمشاعر محبطين ويائسين، لا ليقدم استقالته ويرحم شعبه، بل ليسب ويشتم، يهدد ويتوعد، تجاوز حد تحريض أبناء الشعب بعضهم على بعض بقوله: (... أدعو أبناء الشعب العراقي، بمختلف أطيافه وفئاته ومكوناته، إلى إجهاض مظاهرة الخامس والعشرين من فبراير لما لها من أهداف تخريبية تريد إعادة العراق إلى الوراء..)، وادعى أنه يملك معلومات مؤكدة تفيد بأن جهات معارضة للعملية السياسية تنوي خلق فوضى من شأنها أن تعيد العراق إلى المربع الأول... هكذا، رغم أن مطالب المتظاهرين كانت عادية ومشروعة، لا تتعدى تحسين الخدمات والقضاء على البطالة وإطلاق سراح الأبرياء ومحاسبة المفسدين، رغم ذلك، حول المالكي ساحة التظاهر إلى ميدان حرب، واستخدم القوة المفرطة، وأمر إطلاق النار، وسقط قتلى وجرحى في جمعة أطلق عليها «جمعة الغضب».

في إدارته للملف الأمني، ورغم فشله المطلق، وحتى في الخروقات الأمنية الكارثية، يتجاهل المالكي شركاءه في العملية السياسية بل حتى مجلس الوزراء، هو لا يستشير أحدا ولا يستمع لنصيحة أحد، ولا يخبر أحدا بما ينوي الإقدام عليه؛ صولاته وجولاته، مغامراته ومؤامراته... عادة ما يفاجئ بها الجميع كأنه مقاول ينفذ مقاولة تسليم مفتاح (كَرَسْتَه وعمل) كما يسميها العراقيون تندرا! لكن الأمر اختلف هذه المرة، حيث دعا المالكي قبل أيام إلى اجتماع كبير ضم جميع القادة السياسيين ورؤساء الكتل، وهو الاجتماع الأخير الذي جمعني به، واتصل بي حينها ودعاني لحضوره رغم أنه لم يذكر شيئا عن غرضه أو من هم المدعوون. أتذكّر أن اللقاء حصل ليلة 22/ 23 من فبراير، وبعد أن حضر الجميع بادر القائد العام للقوات المسلحة يعرض على القادة تقديره للموقف... ويا للمهزلة! ويا لضيعة العراق! ويا للبؤس الذي أصبحنا فيه! سباب وشتم وتقريع وتجريح... وتكرار ممجوج لمصطلحات مل الجميع من سماعها وتعود هو أن يعيش عليها في تخويف الناس وخلق حالة الهلع والقلق والرهاب (الفوبيا)... أزلام النظام، وبقايا البعث، وفلول «القاعدة» ينوون قلب النظام، والتمهيد لذلك بالهجوم على البنك المركزي وحرقه، ثم نهب الشورجة وحرقها، والتوجه بعد ذلك إلى المنطقة الخضراء واقتحامها بالقوة من أجل السيطرة عليها وإسقاط نظام الحكم... وأن جميع القادة السياسيين هم على قائمة القتل... وأن المتظاهرين مسلحون بأسلحة ثقيلة و.. و.. و..؟

وبالطبع وكتحصيل حاصل.. وباعتباره نصب نفسه المسؤول عن أمن الوطن والمواطن، وما دامت المعلومات التي لديه لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه،!! وما دام يعتبر نفسه المؤتمن الأوحد على العملية السياسية وأنه الأحرص والأحوط على أرواح شركائه... فإنه ينوي مواجهة المتظاهرين بالحديد والنار وسوف يستخدم كافة الأسلحة المتاحة من أجل إجهاض المؤامرة!

أثار بطرحه هذا استغراب أكثر الحاضرين وامتعاضهم، وعلق البعض حتى جاء دوري، سألته عن مصدر معلوماته، وما مقدار دقتها، ونحن نملك معلومات مناقضة تماما، أجاب بأنه يملك معلومات دقيقة، تفاصيلها هنا؟ ويشير إلى مظروف مغلق أمامه، لم يفتحه ولم يطلعنا على حقيقة محتواه؟ قلت له: «معلوماتي تتناقض مع ما ذكرت جملة وتفصيلا... الذين سيتظاهرون بعد أيام شباب محرومون وعاطلون عن العمل ويائسون، من حقهم أن يحتجوا ويتظاهروا وينتقدونا، لأننا لم نقدم لهم ما وعدناهم به، بل فشلنا في توفير الحياة الحرة والكريمة، نحن المقصرون، ومن حقهم أن يتظاهروا سلميا، وهذا حق كفله الدستور...». وجهت سؤالي للحاضرين إن كان لديهم رأي معارض لما طرحته، لاذ الجميع بالصمت، ولم يعترض أحد.

واصلت حديثي وكنت أتحدث بعصبية وتأثر... «بناء عليه، لا بد من فسح المجال أمام المظاهرات للتجمع والتحرك دون حدود طالما جرت وفق الدستور والقانون، وأحذر من التصدي لها، وإلا صنف العراق نظاما قمعيا استبداديا، هذا التصرف وليس غيره سيعيد العراق إلى المربع الأول...».

واصلت الحديث... «لا أدري لماذا دعينا لهذا الاجتماع... هل للنقاش والبحث عن مخرج نتفق عليه أم للمصادقة على خطة أمنية، السيد المالكي لا يتزحزح عنها رغم أن نتائجها ستكون كارثية، ولذا أسجل اعتراضي ورفضي لتقدير الموقف والخطة الموضوعة، وأرفض تحمل نتائجها وأطالب بإعادة النظر بها...». «ملاحظة أخيرة - والقول ما زال لي - السيد المالكي دعانا لهذا الاجتماع بأي صفة؟ لا نحن مجلس وزراء ولا المجلس السياسي... ما الصفة القانونية أو الدستورية لهذا الاجتماع وما الصلاحيات التي نملكها؟ أتمنى أن يجيبني السيد المالكي!». لا جواب.

«سؤال أخير... السيد المالكي في هذا الاجتماع يريد من مؤيديه من الكتل السياسية والمعارضين له أن يؤيدوه في طريقة إدارته للأزمة، الغريب - قلت مسترسلا - أنه يخطب ود ائتلاف (العراقية) وهو حتى الآن يحرمها من منصب وزارة الدفاع وكذلك رئاسة مجلس السياسات... كيف يستقيم الأمر هكذا؟ أما كان الأولى أن نرمم العملية السياسية، ونحترم تعهداتنا في تشكيل الحكومة، ونعزز الثقة في ما بيننا، ونتوحد قبل أن نفكر في مواجهة تحديات، تعرضها أنت بمثابة تهديد سيطال الجميع، وهي بالطبع ليست كذلك».

ولما عجز عن الرد، ومضى آخرون بعدي في التعليق بين مؤيد ومعارض، اقترح المالكي أن يصدر المجتمعون بيانا مشتركا يؤيدون فيه خطواته المقترحة في قمع المظاهرات، رفضت المقترح، تم استبداله بمؤتمر صحافي مشترك، اعتذرت عن عدم المشاركة فيه وعدت مهموما إلى بيتي... وبعدها بقليل، جاءتني رسالة منه عن طريق الهاتف الجوال، يعاتبني فيها عن موقفي الذي قال إنه أحرجه أمام القادة السياسيين؟

وهكذا، كتبت انتفاضة الخامس والعشرين من فبراير على الصعيد الشخصي نهاية لعلاقة لم تكن مريحة أصلا، بل تميزت بالشد والجذب على مدى سنوات.

مضى المالكي يومها باستخدام الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات من أجل التصدي للانتفاضة وإجهاضها، جرح الكثير، وقتل البعض، وتواصلت أجهزته في ملاحقة الناشطين منهم بالمسدس الكاتم، واغتيل شيخ الانتفاضة الصحافي هادي المهدي في عقر داره، أمر المالكي بالتكتم على الحادثة، صدق مدحت المحمود على تقييدها ضد مجهول، اكتفى المجتمع الدولي بالإدانة، الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الراعية لاذت بالصمت! وهكذا، ضاعت فرصة مواتية للإصلاح والتغيير، إذ فشلت الانتفاضة في تحقيق مهامها جراء سياسة البطش وشراء الذمم والحرب النفسية والصمت الإعلامي والإشاعات المسمومة، وتبقى التجربة، بقضها وقضيضها، بخيرها وشرها، مفيدة للمستقبل.

مطالب المتظاهرين مفردات يمكن جمعها وتبويبها تحت عنوان واحد، يتلخص في غياب (دولة المؤسسات والعدل) - الدولة المدنية التي تستوعب الجميع وتمثل الجميع، هذا النموذج لم يتحقق حتى الآن، بل ما زال حلما يراود العراقيين، خلاف تأكيدات الرئيس الأميركي أوباما عشية سحب قواته المقاتلة من العراق. البعض قد يكابر ويسرف في ادعاء أن العراق الجديد تغير، بل واستكمل شروط الدخول في عضوية نادي الديمقراطية، أليس في العراق دستور دائم وبرلمان منتخب وحكومة منبثقة عنه وانتخابات حرة و.. و.. و..؟ نعم، هذه الإنجازات تبقى مطلوبة، لكنها وحدها لا تكفي، إذ تصبح لا قيمة لها ولا أثر في ظل هيمنة ثقافة مضادة، تزين الاستبداد والطغيان والقهر، وتؤسس لجمهورية خوف، وتكرس تغول الأجهزة الأمنية، وتسيس القضاء، وتفسد الذمم، حتى ينتهي المطاف بالمواطن العادي حيث لا يأمن على نفسه وماله وعرضه، بل حتى دينه وعقيدته؟! وهذا باختصار هو وضع العراق اليوم الذي دفع بهذه الملايين في الكثير من المحافظات للانتفاض والاعتصام مجددا، أملا في التغيير الذي لم يتحقق في فبراير من عام 2011، لكنه سيتحقق هذه المرة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

390 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع