الخيال الشعري في قصائد - أولئك أصحابي

                                                     

                              عصام شرتح

       

لا شك في أن للمتخيل الجمالي قيمته المثلى في الكشف عن خصوبة الشعرية، ذلك أن الشعرية في جوهرها الإبداعي خلق، وتوازن، وإبداع، وطاقة تخييل خلاقة، لا يمتلكها إلا الشاعر المبدع، وطريقة تشكيله النصي، وهذا يعني أن درجة وعي الشاعر، ومهارته الإبداعية هي التي تثير الحساسية الشعرية، وتحقق متغيرها التخييلي الجمالي الخلاق، الذي يتأسس على سعة الأفق، وعمق التأمل، وسحر الرؤيا الوهاجة.

وبتقديرنا: إن قيمة أي عمل فني جمالي مؤثر تزداد أهميته بمقدار الرؤية التخييلية المتوهجة ؛وانميازها إبداعياً حتى حققت منتوجها الإبداعي المؤثر، ودليلنا أن الشاعر المبدع يرتقي بمتخيلاته الشعرية آفاقاً من الحراك الرؤيوي الجمالي الذي يضمن عمق التأثير، وبلاغة الرؤيا، من خلال العوالم المبتكرة التي يرتادها؛ والآفاق الجمالية التي يجسدها، وتأسيساً على هذا يمكن القول::" إن عوالم الشاعر الخارجية تفرض عليه أن يواكب العصر، وإذا تمايز عنه في جانب معين، فذلك لإعادة الخلق، والإبداع، وترتيب الوجود حوله؛ أما دقة الشاعر في عمق الصورة المدهشة، والتي توافيه من ذاكرة الحزن، أو الفرح، أو الحب؛ فلها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل، فاقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية يتم بالتخييل مثلاً، لأنه معطىً هيولي يتحقق شعرياً بالصورة المجردة للروح، حيث يخرجها من الكلام الظاهر إلى الكلام الباطن، ومن الزمن الزائل إلى الزمن السائل، أي من الزوال إلى الثبات، والخلود، والاستمرار"( ).
وهذا يعني أن الذي يكسب المتخيلات الجمالية قيمها الجمالية الخلاقة عمق الرؤى، والآفاق الجديدة المبتكرة (اللامرتادة) التي يصلها الشاعر في عالمه الشعري؛ وبعيداً عن هذا التحليق تبقى المتخيلات سطحية، أو هشة المنظور؛ وهذا دليل أن التخييل عنصر جمالي بارز في تفعيل المنتجات الفنية عموماً، ومن ضمنها فن الشعر وباقي الفنون الجمالية؛ ولهذا، يعد "الخيال- حسب (جان برتليمي- في مجال الفنون الجميلة( سيد الملكات)(،وهو الذي يحلل العناصر التي تتقدم للحواس والعقل؛ ويعيد تشكيلها كما يتراءى له"( ). وما الإبداع إلا مهارة تصنيع المتخيلات الجمالية في قوالب فنية جذابة وآسرة جمالياً؛ ولهذا:" فإن الصيغة التي يصاغ فيها علم الجمال الحقيقي تنحصر في هذا المبدأ:" والعالم المرئي كله، ما هو إلا مخزن صور ورموز يعطيها الخيال مكانة وقيمة نسبية. وهو نوع من غذاء على الخيال أن يهضمه ويحوله"( ).
ولهذا؛ ميز عالم الجمال (جان برتليمي) بين مذهبين فنيين [ واقعي- وتخييلي]؛ يقول الأول:" أريد تصوير الأشياء كما هي، أو كما تكون لو فرضت أني غير موجود ، أما التخيلي فيقول: أريد أن تلقي روحي ضوءً على الأشياء؛ وأن أعكس هذا الضوء على الأرواح الأخرى"( ).
وهذا يعني أن المصور البارع هو الذي يضفي على صوره لمسته الإبداعية التخييلية الخاصة التي تحرك الأشياء، وتخلقها من جديد، وتبعث فيها نبض الحياة؛ ممثلة بروح الفن وجوهره الأصيل.
وتبعاً لذلك، فإن قوى التخيل الجمالي، لتستثير المنتج الإبداعي الفذ لا بد من بكارتها، وجدتها، وبداعة العوالم التخييلية التي ترتادها، والمساحة الذهنية المفتوحة التي تتركها في ذاكرة متلقيها؛ ومن هنا؛ تختلف الفنون الجميلة في درجة فاعليتها، وأهميتها، وامتشاقها الإبداعي على ما سواها من الفنون الأخرى، وهذا يتوقف على بداعة قوى التخيل، وفاعليتها في تحريك المنتج الفني ؛ يقول قصي حسين:" برأينا أن قوى التخيل لا يمكن لها أن تتدفق إلا من خلال قوة الحدث، وشدة تأثيره على وجدان الفنان المبدع، في غياب القوى العقلية الضابطة، بحيث تسهم في تفجر قاع النفس المعتمة –لديه-  فتجهز أزمنة الأقاصي، وتلقي به في دوامة الزمن، ويصبح كالنبي في تزامن الماضي، والحاضر، والمستقبل"( ). وهذا يعني أن فاعلية التخيل تتأتى من قوة الحدث وفداحة الموقف في تأثيره وبلاغته، وحضوره، وانفتاحه الرؤيوي التخييلي.
وما ينبغي ملاحظته أن قوى التخيل العظمى الماثلة في مخيلة المبدع هي ما تنتج مثيره الجمالي في عمله الفني، وهذا دليل أن النتاج الجمالي المؤثر هو فاعلية مركبة من الخبرة الجمالية، مضافاً إليها طاقة المادة الفنية، وخصوبة مردودها الجمالي الآسر؛ وبهذا المقترب الرؤيوي، يقول( ديوي):" إن الإنجاز الفني حلقة وصل بين طاقة" الأنا"؛ وطاقة" المادة الفنية" إنه تبادل ثابت ، يجعل التمييز بين الذات والموضوع ساقطاً وملغياً"( ). لأن التطابق في مسألة الفن الإبداعي بين الذات والموضوع أمر مستحيل نسبياً، لأن الذات لا تبث مكنونها دفعة واحدة، ولأن الموضوع الجمالي يبقى مفتوحاً؛ وقابلاً للإضافات والاحتمالات المتنوعة؛ فالمادة الفنية تبقى في اختبار حقيقي بين فردانية إنتاجها، وجمالية تقبلها في حدود التجربة الفنية، وبراعة المنتج الجمالي، أو العمل الفني المنجز.
 ووفق هذا المقترب والوعي الرؤيوي يقول(ماريان) في هذا الخصوص:" إن المعرفة الشعرية تصل إلى الحقائق وتربط الشاعر بالحقائق، ويحدث هذا فيما وراء الأفكار، والصور، والمشاعر من منتجات إبداعية ومناشط فنية"( ).
ولهذا؛ فإن قوى التخيل الإبداعية قوى منشطة للعمل الفني، وباعثة لتجاوزه، وخرقه الأسلوبي، وهذا لن يتحقق بتمامه، وكماله، بمعزل عن العاطفة، وحيوية منشطها الإبداعي، ومن أجل ذلك، يمكن أن نؤكد مقولة بغاية الأهمية ألا وهي:" إن الفن عاطفة إبداع وإنشاء، وبأنه -أي الفن -لا يظهر إلا عندما ينشئ الفنان الأشكال بالقوى التي تبعث الحياة في الطبيعة، ويستخلص فيها عملاً فنياً إذا كان ذلك الفن مشروطاً بإدراك هذه القوى"( ).
وهذا يعني أن عاطفة الفن الإبداعية تكمن في الأثر الذي تتركه، والقوى المثيرة التي تبعثها في المحسوسات، أو المرئيات؛ لإكسابها نبضاً إبداعياً، أو حساسية متخيلة جديدة، تحلق بها من إطارها الفوضوي الحسي اللا منتظم في حيز الطبيعة، إلى إطار فني جمالي منظم، عبر جمالية التخييل، وفضاء المتخيل الإبداعي الخلاق؛ وهذا يدلنا: أن الفن الجمالي الإبداعي، إذاً، هو فن تخييلي خلاق، أو وهاج؛ وبقدر ما يحلق المبدع في متخيلاته الشعرية؛ ويسمو بها جمالياً وشعورياً  يرقى بالمحسوسات والمرئيات إلى فضاء جمالي إبداعي غير متخيل ولا متوقع ، يقول الناقد الجمالي عبد القادر الرباعي:" لغة الشعر لغة التصوير المكثف، والخيال المتعقل الخلاق، إنها حركة تبدأ من السطح، ثم تتسامى في الأعالي، أو تغوص في الأعماق. هي العبور من الثبات إلى الحركة، والتحول، والصيرورة. ومن المحدود إلى اللا محدود.. وهي الانطلاق من القيد إلى التحرر منه، لكنها تظل السبيل الأمثل لتأليف جمال متكامل العلاقات، ومتناغم الأصوات"( ).
وبهذا التصور، فالتخييل المبدع الخلاق، أو الوهاج هو الذي يرقى بمثيرات الأجزاء المشكلة للمنتج الشعري، ويزيد من كثافتها وإيحاءاتها الشعرية المكثفة للموقف والحدث الشعري، هذا بالنسبة للفن الشعري؛ أما بالنسبة للفنون الأخرى، فإن التخييل الشاعري هو الذي يمنحها الإثارة، والتحفيز الجمالي، والتخييل المبدع. وهذا دليل أن التخييل المبدع هو الذي يرقى بالحساسية الجمالية لدى المتلقي، ليكسبه خبرة جمالية طريقة التلقي الجمالي؛ إذ ثمة إحساس جمالي يكتسبه المتلقي من المبدع، حين يَتلَقى النص الإبداعي المنتج تلقياً جمالياً حساساً، يستقرئ من خلاله ما يكتنفه العمل المنتج من إيحاء، وحساسية، وخصوبة جمالية؛ وهذا دليل:" أن العمل المبدع لا يكون خصباً إلا لدى الفنان الذي يضم شيئاً بين أحشائه، ويمتلك كنزاً داخلياً يستمد منه، وموهبة للتعبير عن مشاعره بلغة معينة"( ).وهذا يتطلب متلقياً حساساً يفيض برؤاه ومعارفه ومكتسباته الشعورية الحساسة التي تغني العمل المنتج وتحركه.
وهذا يعني أن: التخييل عنصر جمالي بارز في الحكم على قيمة المنتج الجمالي من حيث الابتكار، والفاعلية، والتأثير، ولا غنى عن هذا الجانب إطلاقاً في الحكم على قيمة المنتج الفني ومؤثراته الإبداعية.
فضاء المتخيل الجمالي في قصائد أولئك أصحابي:
لاشك في أن القيمة الجمالية للمتخيلات الشعرية في قصائد (أولئك أصحابي) ترتكز على قوة المثير الجمالي الذي ترتكز عليه الأحداث المحركة للشعرية، من حيث كثافة الرؤية، والقيمة الحداثية لفضاء المتخيلات الشعرية المحيطة بالشخصية من محفزات، ورؤى محركة لدلالاتها ورؤاها كافة؛ ومن هذا المنطلق نعد المتخيل الجمالي بؤرة حراك الرؤى الشعرية المحركة للأحداث والمواقف والمشاهد الشعرية؛ وهذا يعني أن بؤرة حراك الأحداث وفواعلها الرؤيوية كافة تتمثل في تناغم المشاهد والمتخيلات الجمالية التي تربط الأحداث، بالمواقف، والنتائج التي تتمخض عنها، ولذلك، فإن معظم هذه القصائد تشتغل على هذا المقوم في تحريك رؤاها، ومؤثراتها الشعرية البليغة. ولو بحثنا في أهم التجليات أو المتخيلات الجمالية التي تظهرها قصائد (أولئك اصحابي) في نمطها الأسلوبي الجديد الذي ارتكزت عليه لتمثلت لنا المتخيلات التالية:
1-فضاء المتخيل الجمالي في الأحداث والمواقف الشعرية والروائية المتخيلة:  
ما من شك في أن لكل قصيدة إيقاع متخيلها الجمالي الآسر الذي يجعلها تستحوذ على هذه القيمة، وهذه القيمة هي التي تجعل الشاعر يتحرك إبداعياً على المحاور النصية الأخرى، وبمقدار فاعلية المتخيلات جمالياَ في تحريك الأحداث، وتلوين المشاهد الشعرية باللقطات والصور الجديدة تكتسب الرؤيا الشعرية عمقها، والشخصية الروائية والأحداث المحيطة بها قيمة جمالية، وحركة نشطة في تحريك المشاهد الشعرية المجسدة، وهذا يعني أن شعرية القصيدة من مرتكزاتها الأساسية في ديوان (أولئك أصحابي) اعتمادها كثافة الحدث، وشعرية المتخيل الجمالي في تفعيل الحدث، وإكسابه قيمة إبداعية ما، فالشاعر حميد سعيد يرسم الحدث البانورامي المحتدم الذي يرصد معاناة الذات واحتدامها الرؤيوي المكثف، بفواعل رؤيوية نشطة، ولهذا، تبدو الأحداث متداخلة في فضاءاتها الشعرية، وقيمها المتغايرة، لدرجة أن شعرية هذه القصائد تكتسب حركتها النشطة من متخيلاتها الجمالية التي تحيط بالشخصية الروائية، وتبث على لسانها الكثير من الرؤى، والدلالات المفتوحة على رؤى جديدة، تكسب الشخصية حضورها الفني وحراكها الرؤيوي المكثف، ففي قصيدة(قريباً من الليدي شاترلي .. بعيداً عنها) لحميد سعيد، وفيها  يتمثل رواية" عشيق الليدي شاترلي" ل- د. ه لورنس .تتمظهر الأحداث بكثافة المتخيلات الجمالية التي تربط الشخصية بالموقف، والحدث بمجريات الصور المتحركة، و المشاهد التي ترصد عاطفة الحب المصطهجة بين شاب فقير وامرأة غنية، والعلاقة الجنسية بينهما، والأحداث المتخيلة التي تجري بعدسة مونتاجية رابطة توحد المتخيلات والمشاهد المرئية في صيرورة من الائتلاف والحراك الجمالي، كما في قوله:
" للجمرِ.. في الجَسَدِ المعبّأ بالزوابع والرعودِ ..
خريطَةٌ صمّاءُ مُعتِمَةٌ
سيفتَحُ في خطوط الطول حيناً
أو خطوط العَرضِ .. حيناً آخرَ..
الأبوابَ..
نحوَ فضاءِ فتنتها.. وما اكتنزتْ من الأسرارْ
مَنْ أعطى الرياحَ شراسةَ الإعصارْ
تِلكَ التستفيقُ على جليدٍ .. يسكنُ الرحمَ البليدَ
رأتْ صباحاً لاحدودَ لهُ..
وشمساً طفلةً تتسلّقُ الأشجارْ
تقترنُ السحالي بالسحالي
والسناجبُ بالسناجبِ..
كلُّ ما في الغابة العذراء من شَجَرٍ..
يحضُّ الماء..
تغتلِمُ الثمارْ"(11).
لابد من الإشارة إلى  أن شعرية المتخيل الجمالي الذي تبثه قصائد ( أولئك أصحابي) تتأسس على مرجعية الحدث، وكثافة الرؤى والمتعلقات التي تحيط بالشخصية بجامع رؤيوي، يثير الحساسية الجمالية، تبعاً لقيمة الشخصيات المساعدة وقيمها المتغايرة. وهنا، تطالعنا قوة الحدث الشعري المتخيل من خلال فاعلية الرؤيا المتخيلة للشخصية الروائية(الليدي شاترلي)، بإحساس جمالي، يظهر الشاعر فيه قيمة الإحساس بالشخصية الروائية، وتفعيل دورها التوصيفي القائم على دقة الوصف، وإثبات المتغيرات المشهدية التي تربط الحدث بالمشهد الشعري،والمشهد بالصورة،والصورة بالموقف الغزلي المحموم بالتوق والغريزة والانفتاح الجسدي، وهذا يعني أن فواعل الحدث الروائي تتداخل مع موحيات ومؤثرات الحدث الشعري المتخيل، وتبرز القيم الجمالية الأخرى كفواعل منشطة للحدث من خصوبة إيحائية في تلوين الأنساق الوصفية ،ورفع قيمة المشهد المتخيل،والدور المنوط بالشخصية،كما في قوله: (رأتْ صباحاً لا حدودَ لهُ..وشمساً طفلةً تتسلّقُ الأشجارْ تقترنُ السحالي بالسحالي والسناجبُ بالسناجبِ..)، واللافت أن  قوة حراك المشاهد المتخيلة، تزداد درجتها كلما تعمق الشاعر في تلوين الأحداث وإكسابها متغيرها الجمالي، كما في قوله:
"في ليلةٍ ما عادَ يذكرها..
وكان يمرُّ قُرْبَ فنارها الذهبيِّ.. مُرتاباً
فَتَهرَعُ كي تراهْ
وإذا دنا منها.. تُفاجِئُهُ حرائقُها ..
وفي غَيبوبةٍ بيضاء.. تَشْتَبِكُ الحرائقُ
أيُّ عاصفةٍ من الرغباتِ..
يطلقُ جمْرَها الجسدُ الجميلُ
أكانتْ امرأةَ ؟
يكادُ يَشُكُّ ..
ما هذا الثراء الفضُّ في إيقاعِ ربوَتِها..
وفي النهدين ؟!
كيفَ يكونُ هذا السحرُ في لغةٍ..
تنوءُ بما تُشيرُ إليه منْ فِتَنٍ ..
تقولُ لهُ..
أَنقرأها معاً ؟
ماذا سنقرأُ ؟!
إنَّ مُعجَمها تعثَّرَ بارتياب العاشقينْ
وليسَ ثَمَّةَ من يقينْ
بما ادعتهُ..
ستندمينَ .. إذا ارتضيتِ حدودَ فتنتها..
فذاكَ فضاؤها
ابتعدي قليلاً أو كثيراً.. وليكنْ لكِ ما يخصّكِ من فضاءْ"(12).
لاشك في أن أول ما يغري القارئ في هذه القصيدة إيقاع متخيلها التصويري الدقيق،وكثافة التشبيهات التي تحمل السلاسة، والتكثيف، والشاعرية، والإيحاء، وكأن الشاعر يرسم تفاصيل الشخصية الروائية( الليدي شاترلي) بتشعبها ونبضها الجمالي، وإحساسها الغريزي المتقد بالشهوة،والغريزة،والتوق، والاحتراق،أي إن القيمة الجمالية تكمن في هذا الإحساس الحيوي الدافق بالشخصية،ومؤثراتها ومغرياتها ونبضها الجمالي؛ مما يدل على أن قوة الحدث وعمق الرؤيا من محركات البنى الدالة في هذه القصيدة، لاسيما في تحميل الشخصية بعداً من أبعاد التصوف الجمالي بالمرأة،فشخصية (الليدي شاترلي) هي الفتاة المتمردة على عالمها ومجتمعها، وهي المتمردة على الحياة، لهذا، كثف الشاعر الرؤى الصوفية المتعلقة بها، من وصف للتوق والاحتراق والجسد الأنثوي الذي يتقطر عشقاً،وتوقا،ً وصبابة، وخصوبة، وجمالاً، وهذا يدل على أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل الشعري تبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى الشعرية،كما في قوله:(  وإذا دنا منها.. تُفاجِئُهُ حرائقُها ..وفي غَيبوبةٍ بيضاء.. تَشْتَبِكُ الحرائقُ أيُّ عاصفةٍ من الرغباتِ..يطلقُ جمْرَها الجسدُ الجميل)؛ واللافت أن كل  ترسيمة تصويرية حسية في وصف الجسد الأنثوي للشخصية الروائية تحمل قيمة جمالية في تحريك الحدث الشعري، ومن ثم إبراز حراك الذات والموقف الشعريين،  وهذا يدل على براعة في التنقل بمجريات السرد والقص الشعري بما يتلاءم وحراك الرؤى، وكثافة المداليل، وإبراز المفاصل السردية، وعمق متخيلها الجمالي الشعري الروائي المكثف،كما في قوله:
"كيفَ التقاها ؟
عندَ بابِ الفندقِ الجبليِّ .. في .... ؟!
كانت بقبَّعَةٍ وبنطالٍ قصيرٍ
لم يكن يسعى إليها
كان معتزلاً حزيناً..
هلْ تَذَكَّرها ؟
وإذ حلَّ المساءْ
تَخيَّلته كما تشاءْ
وأدخَلَتهُ خريفَ غابتها.. وأمطَرَت السماءْ
وكأنَّ عُريَهُما أعادَ إليهما..ماكانَ بينهما
و" أسدلت الظلامَ على الضياءْ"(13).
إن القارئ، هنا،سرعان ما يدرك الحنكة الجمالية في استعادة اللقطات الماضوية، والحس الجمالي في تلوين الأحداث، والرؤى بمتغيرات  جمالية،غاية في الحساسية، والشفافية، والجمال، مما يدل على أن الشاعر بقدر ما يجسد مظاهر الفتنة والإغواء في هذا الجسد الأنثوي تزداد قيمة المتخيل الجمالي إثارة في تعزيز المواقف والرؤى المتغايرة،التي تحمل مختلف القيم الجمالية المحركة للمشهد والحدث الشعري،كما في قوله:( وكأنَّ عُريَهُما أعادَ إليهما..ما كانَ بينهما" أسدلت الظلامَ على الضياءْ"(13).
وهذا يدل على جمالية في وصف الحدث بروح شعرية تفيض بالغريزة، والتوق، والاحتراق العاطفي، وهذا الإحساس المتقد بالشخصية يجسده على صعيد الرؤيا الكلية المتعلقة بالمشهد الغرامي الحار، والعلاقة الجسدية التي تربط الشخصية الروائية بعشيقها البناء، وهو يتخيل مشهد لقائهما الحميم،ويصوره بعدسة مونتاجية مقربة للأحداث والرؤى الشعرية، كما في قوله:
"وبانتظار ثمارها
غطّى ضجيج العُريِّ بالأزهارْ
إنَّ أريجها الليلي يدخلُ في استعارات الكلام
وإذ تحاولُ أن ْ.... ؟!
تفيضُ ضفافُها حُمَماً..
وتحرمُ كلَّ مَنْ  في الغابة السوداء..
مِنْ نِعَمِ المَنامْ"(14).
إن هذا التصوير الشاعري الشفاف لجمال فتاته يمنحها التألق، والمشهد الشعري حراكه الجمالي،وهذا يعني أن فواعل المتخيل الجمالي تبدو في هذا التصوير المشهدي المكثف، والصور الحسية التي تفيض أنوثة، وشفافية،ورقة، وإغراءً في الوصف والتعبير(تفيض ضفافها حمماً)، وبهذا الإدراك والحساسية الجمالية تتلون الرؤى، والدلالات،وتفيض بإحالاتها العميقة في تحريك مجرى المشهد والحدث الجمالي ،لاسيما في الوصف،وتكثيف الرؤى المفعلة للحدث الشعري، أي إن ثمة حراكاً جمالياً في تفعيل الشخصية، ببعدها الرؤيوي وإحساسها المأزوم، فالشاعر لايكتفي بتحريك المتخيل الجمالي عبر الأحداث والمشاهدومفاصلها البانورامية المحتدمة،وإنما يلجأ إلى تحريك المشاهد بالصور السردية والقص السردي الشائق الذي يعتمد الرشاقة والسلاسة بالانتقال من حدث إلى آخر،ومن مشهد إلى مشهد آخر، كما في قوله:   
في مهرجان الماءِ.. تنشَأُ مرَّةً أُخرى ويَنْشَاُ
كان يخلقُها
وتخلقهُ
ويرجو أن تكون وأنْ يكونْ
ويغادران معاً .. ويفترِقان ..
لامرأةٍ من البللور كان قد اقتناها..
من مَزادٍ هامشيٍّ في الضواحي
بعضُ ما قد كان فيها
هل ستخرُجُ ذاتَ يومٍ من تَشَكُّلها المُريب ؟!
وهل تكون ؟
وهل يكون ؟"(15).
إن قارئ هذا المقتطف – بعمق وشفافية- يدرك أن اللعبة التخييلية  كان مصدرها تحريك الأحداث، والرؤى، والمواقف الشعرية، ليخلص برؤية جديدة، وموقف جمالي مؤثر،مما يدل على أن الوعي الجمالي في تشكيل الرؤية الشعرية كان لتعميق التوصيف الحسي،وتخليق المشهد الرومانسي الذي يفيض عذوبة، ونضارة، وقيمة جمالية.
ولو أمعن القارئ في مثيرات الحدث والمشاهد الشعرية المجسدة لأدرك أن القيمة الجمالية ليست في التصوير الحسي، وإظهار مصدر الفتنة والإغراء في شخصيته الروائية،وإنما في الملمح التخييلي والحساسية الجمالية في تفعيل الشخصية، والإرتقاء بسيرورة الأحداث الشعرية،لتحكي رؤية الشاعر ومعاناته الوجودية. وهو إذ يحاول أن يلتصق بشخصيته الروائية،فهو التصاق ودي يهدف من ورائه تبئير التجربة وتحريك منتوجها الجمالي حتى ضمن غطاء ما هو محسوس، أو ما شبقي أو شهواني في التجسيد والتصوير،إنه يحرك الشخصية تبعاً لإحساسه بالشخصية، ووعيه بدورها، وحراكها في مخيلته الوجودية؛ وليس فقط في متخيل الرواية، وأحداثها، ومجرياتها التامة،وهذا يدل على أن القيمة الجمالية في المتخيل الشعري هي ما تحرك الشخصية،وتثير قيمها وحراكها الرؤيوي المكثف، وهو ما وصلت إليه القصيدة في حراكها ومنتوجها النهائي،كما في قوله:
مازالَ حين يمرُّ بالشجرِ المُخاتل .. حيثُ كانا
يَتَخَيّلُ امرأةً.. تَسلَّلُ في الظلام إليهِ..
من مسكٍ وغارْ
شاخت أعاصيرُ البلادِ .. ولَمْ تَشِخْ
فَرَسٌ ..
تَذَكَّرَ ما تجودُ به عواصفُها..
وماتهبُ الرياحُ
حتى إذا اقتربَ الصباحُ
لمَّت بقايا عطرها السريِّ ..واعتكفَتْ بعيداً..
وانتهى الحُلُمُ المُباحُ"(16).
لابد من التنويه – بداية- إلى أن الشعرية ليست في إثارة المتخيلات الجمالية فحسب،وإنما في إبراز الوعي الجمالي في تشكيل الرؤية الجمالية التي تنتج عن مهارة وصنعة في التشكيل والتعبير الشاعري الجذاب،مما يدل على أن القيمة الجمالية هي ماثلة في طاقة التخييل الجمالي التي تخلق الإثارة، والكثافة الرؤيوية، وهذا ما يضمن الوعي والحساسية والتركيز في نقل الأحداث وتنويعها، تبعاً لمثيرات ورؤى عديدة منفتحة في حراكها ومدها التخيلي.
 ومن تدقيقنا – في مجريات المتخيل الجمالي- الذي تتأسس عليه الحركة النصية في القصيدة ندرك أن شعرية الحدث،من مؤشرات خصوبتها ،ومغرياتها ومحركاتهاالرؤيوية الفاعلة ،فهي تنبني على مجرى التفصيل السردي ،بإيقاع تخييلي مفتوح:( حتى إذا اقتربَ الصباحُ لمَّت بقايا عطرها السريِّ ..واعتكفَتْ بعيداً..وانتهى الحُلُمُ المُباحُ"(16).وهذا يدل على أن محرك الرؤيا هو الحدث والفضاء التخييلي المفتوح الذي تثيره الحركة النصية في القصيدة،ومن أجل هذا تتطور الرؤية، من مفصل نصي إلى آخر، ومن متخيل شعري إلى آخر أكثر انفتاحاً حيناً،وأكثر استغراقاً وتفصيلاً حيناً آخر؛وهذا ما يضمن للكثير من قصائده إثارة تصويرية في مساحة الرؤيا التي يشتغل عليها ضمن السياق النصي.
ووفق هذا التصور،يمكن القول: إن فضاء المتخيل الجمالي في الأحداث والمواقف الشعرية والروائية المتخيلة في قصائد ( أولئك أصحابي)مخصوص بدقة الحدث، والدور التخييلي الجديد المضاف إلى الشخصية الروائية،  والحنكة في إبراز المشهد المتحول أو المشهد المتحرك الذي يضمن مختلف الرؤى والقيم المتوالدة بإحساس ووعي وخصوبة وجمال.
وصفوة القول: إن فضاء المتخيل الجمالي – في قصائد( أولئك أصحابي)- يرتكز على شعرية الحدث وقيمه المتغيرة مشهدياً في تكثيف الموقف الشعري، تبعاً لمفاصل نصية متغايرة ورؤى محركة للشعرية، وهذا يضمن لقصائده بلاغة الرؤيا،وحساسية الرؤيا الجمالية الخلاقة.
2-فضاء المتخيل الجمالي في تبئير الشخصية،والمواقف والمشاهد المرتبطة بها:
لا شك في أن الشعرية  في قصائد ( أولئك أصحابي) بإحالاتها الجديدة، تتمركز على قوة الحدث، لاسيما فيما يتعلق بالشخصية الروائية، بما تتضمنه من رؤى، ومواقف، ومشاهد جديدة محركة للحدث وللرؤيا معاً، ولهذا، تشتغل بلاغة الرؤيا في هذه القصائد على فواعل الأحداث والرؤى، والمشاهد المتحركة، التي تحيط بالشخصية الروائية، وتسهم في تبئير الشخصية، ببعدها الرؤيوي، وفضاء متخيلها الفني العميق، مما يدل على أن القوى الخلاقة في قصائد( أولئك أصحابي) تتمثل في  تكثيف الرؤى المتخيلة التي تنبني عليها الشخصية في الواقعين الروائي والشعري، ومن أجل ذلك تحتفي هذه القصائد،بالبنى الدالة على مرجعية الحدث الروائي،وموحيات المشهد الشعري الجديد، وفق متغيرات تمس جوهر الرؤيا الشعرية من الصميم،كما في قصيدة( ملهاة الدكتور زيفاغو) لحميد سعيد، وفيها يتمثل شخصية " زيفاغو" بطل رواية " الدكتور زيفاغو" لبوريس باسترناك، ولعل أبرز  ما تحاول القصيدة أن تبثه في فضاء متخيلها الجمالي تكثيف الأحداث، والرؤى، والتفاصيل الجزئية المحيطة بالشخصية الروائية، لتشي بغربة الشاعر، وحرقته الداخلية، ومرارة المطاردة الوجودية التي عاناها الشاعر  متمثلاً شخصيته الروائية،شخصية الدكتور(زيفاغو) في عشقه لمحبوبته (لارا)، بجامع مشترك هو الشوق والحنين إلى العراق كما هو شوق الدكتور(زيفاغو) لمحبوبته (لارا) ؛ واللافت أن مغريات  الشخصية الروائية تزداد إثارة بمقدار كثافة الرؤى، والأحداث، والرؤى الجديدة المتخيلة التي  يضفيها الشاعر على شخصيته الروائية، متتبعاً تفاصيلها، ومضمراتها، ومشاعرها الداخلية، بتمهيد قصصي شائق،كما في قوله:  

يُطاردُهُ الحُمرُ والبيضُ..
يطردهُ الملكيون والفوضويونْ
ويُشكِّكُ قي مايرى ويقول.. رجالُ الكنيسةِ والمُلحدونْ
كلُّ الذين أباحوا دمَ الآخرينْ
من كلِّ قومٍ ودينٍ.. وطائفةٍ..
يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ
ويرونَ..
في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ..
حيثُ يكونْ
ينصبونَ فِخاخاً لأحلامهِ..
وتَشُمُّ الذئابُ مواقِعَ أقدامِهِ..
وتتبَعُهُ..
يقفُ الثلجُ بينَ تطلّعهِ والطريقْ
يرى في البلاد التي تتشظّى.. كما يتشظّى الزجاجُ
ما لا يرى السادرون في غَيِّ ما لايرونَ.."(17).
إن القارئ هنا، يلحظ فاعلية الحدث في ربط المشهدين الشعري والروائي معاً،وسرعان ما يدرك أن المشهد الشعري يطغى على الحدث والمشهد الروائي معاً،وهنا؛ تتحرك رؤى الشاعر على أكثر من رؤية، أو مشهد، أو موقف، ولذلك، تزداد الرؤى الاغترابية التي تعكس ممارسة المحتل الأمريكي، ومطاردته من قبل كلابهم الشمامة التي تقفو أثر كل مطلوب، وكأن قصائده تتهدد وجودهم وممارستهم القمعية(يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ ويرونَ..في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ..حيثُ يكونْ)؛ وهكذا يستمر الشاعر في تغليب السرد البوحي الذاتي على السرد الروائي، مما يدل على غلبة شعرية الحدث، والمشهد المتحرك على غيره من الأحداث والمشاهد، هذه الأحداث التي تتحرك على أكثر من محرق نصي ممركز للحدث والمشهد الشعري العام الذي يرتبط بالرؤيا الكلية للقصيدة.
واللافت أن قيمة المتخيل الجمالي تشتغل على فاعلية الحدث،بتنويع مشهدي مكثف، يحرك النسق الشعري، تبعاً لمنعرجات الرؤية النصية ومحركاتها الرؤيوية الكاشفة عن رؤى، ومداليل عميقة، وهذا يعني أن الحدث الشعري المتخيل هو توالد وانعكاس للحدث الروائي المتخيل مما يعني أن ثمة كثافة رؤيوية  في الحدث الشعري، تتحقق من تلاحم الأحداث والمشاهد والرؤى الشعرية ومحركاتها النصية ضمن النسق الشعري،كما في قوله:
"ضَيِّقَةٌ هي المُدُنُ التي تخافُ من الشعرِ
وأضيقُ منها نُفوسٌ تضيقُ بأسئلة الآخرينْ
ذاتَ مساءٍ حزينْ
تَتَسَلّل ُأحلامُهُ .. ويَظَلُّ وحيداً
تُجَرِّدُهُ الريحُ مما تَبَقّى له.. من طفولتهِ..
وبَنيهِ وزوجته.. ويَظَلُّ وحيداً
لماذا تخيَّرَ لارا ؟
وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ !
أَدْخَلَها في عواصفهِ..
إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساءْ"(18).
لابد من الإشارة بداية إلى أن فضاء المتخيل الجمالي يسهم  في تبئير الشخصية والمواقف المرتبطة بها من مغرياتها الشعرية التي تتأسس على حراك الشخصية، تبعاً لمثيرات الرؤية الاغترابية التي يبثها الشاعر على لسان شخصيته، ليبث ما يختلج في أعماقه من رؤى، ودلالات ،تنفتح على مداليل متعددة، وهذا يعني أن رؤيا الشاعر تنطلق من فضاء الرواية، لتنفصل عنها حيناً ،وتدور في فلكها حيناً آخر، بمقاربة نسقية فاعلة تحرك البنى والدلالات، كما في قوله:( لماذا تخيَّرَ لارا ؟ وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ !أَدْخَلَها في عواصفهِ..إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساءْ)،وهذا يدل على أن ثمة سيطرة لأحداث الرواية على أحداث القصيدة،وهذه السيطرة هي التي تخلق نوعاً من المزاوجة بين المتخيل الروائي والمتخيل الشعري، بتفاعل نسقي مبئر للرؤية الشعرية، وهذا ما تجلى في التفاصيل السردية وتكثيف الرؤى والأحداث المتتابعة على شاكلة المقطع الشعري التالي:

لارا.. هي الدفءُ والطمأنينةُ
لارا.. قصيدتهُ الأخيرةُ
كانتْ تلوحُ لهُ كلَّما فارقتهُ أصابعهُ..
فتعودُ إليهْ
وتذهَبُ لارا .. بعيداً
يُطاردهُ ما تخيَّلَ من صورةٍ للبلادِ
ويطردُهُ مَنْ تَخَيَّلَهم ْ أُمناءَ على ما تَخَيَّلَ..
من صورةٍ للبلادْ
خَذَلَتهُ الطيورُ التي اعتكفتْ في الشتاءْ
واعتزلت في الربيع.. الغناءْ"(19).
هنا، يضعنا الشاعر وجهاً لوجه أمام فاعلية الحدث الروائي عندما يركز على أوصاف (لورا) عشيقة الدكتور(زيفاغو)،ويضفي عليها من الأوصاف والصور المتخيلة ما يجعل القصيدة سيرورة كاشفة من الرؤى والدلالات المفتوحة، وتأسيساً على هذا تنفتح الدلالات ،وتتحرك على أكثر من محرق نصي، مما يدل على وعي إيحائي في التشكيل، والكشف عن العوالم الجمالية التي تمتاز بها (لارا) عشيقة(الدكتور زيفاغو)،وكأن الحدث الشعري هو تمثيل تام للحدث الروائي، مما يدل دلالة قاطعة على أن بلاغة الشعرية في مثل هذه القصائد تتأسس على فضاء متخيلها الجمالي، وهذا يمنح القصيدة نبضها الجمالي الآسر،ومثيرها الفني البليغ،لاسيما عندما تتداخل الأحداث والمشاهد والرؤى الجامعة بخيوطها ومشاهدها الأحداث الروائية بالشعرية والإضافات الجديدة المكتسبة من نسقها الشعري الذي وضعت فيه، كما في قوله:
"خَذَلَتْهُ القصائدُ.. حينَ تأَبّطها كذبُ الشعراءْ
خذلتهُ المدينةُ..مُذْ أَطفأَتْ قناديلَ مُعجَمِها..
لتغدو الكتابة.. بلهاءَ.. بلهاءَ.. بلهاءْ
ناضِبَةً ومُدقِعَةً.. كما أفقر الفقراءْ
يَتَجَمَّع كالثلجِ.. ثمَّ يذوبْ
أرهقتهُ الحروبْ
كلُّ مفاجأةٍ تترصّدهُ.. خبّأتها الدروبْ..
تَليها مُفاجأةٌ..
ليحيا حياةً مُرَوِّعةً.. من قبيل الملاحم كانتْ
وكانَ.. كما في الأساطيرِ..
يُنبتُ أنىّ يكون حقولاً خُرافيةً.. ويُغادرها
ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها"(20).
إن القارئ  هنا، ينتقل بالحدث الشعري- بمزاوجة رؤيوية تجمع المسارين الروائي والشعري،ليتحدث عن حاله بمزاوجة رؤيوية بينه وبين شخصيته الروائية، شخصية الدكتور (زيفاغو)،وشخصيته المغتربة في واقعها وأساها العميق. فكما بطل شخصيته الروائية الدكتور (زيفاغو) يعيش حالة من الاغتراب والتأزم الداخلي بانتظار لقاء محبوبته (لورا) والعودة إلى بريق أحضانها، وزهو جمالها وخصوبة ما تجود به من تدلال وجمال ،فكذلك هو يعيش حالة من التوق إلى العراق،بكل مافيه من سحر وجمال ونبض،وتدفق، وحياة، لعله يكسر حاجز اغترابه وأساه المرير.ممايدل على جامع رؤيوي وتداخل تام بينه وبين شخصيته الروائية وأحداثها ومشاهدها ورؤاها العميقة. وهذا يعني أن تفاعل الشاعر جمالياً مع الشخصية الروائية  ليس على مستوى فضاء متخيلها الجمالي فحسب،وإنما على مستوى رؤيتها النصية،وأحداثها وملصقاتها الوصفية ( الأصلية والمضافة)، مما يدل على وعي تام  في إصابة المركز الحساس في العبارة،ولهذا، يعود بين الفينة والأخرى ليدمج واقعه بواقع الشخصية الروائية،وعالمه بعالمها الوجودي، ولهذا، يعود ثانية ليتحدث عن عالمه المرير،وحالة الوطن وما طرأ عليه من تغيرات أفقدت وجهه النضارة والقوة والجمال،كما في قوله:
"يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ..
أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ..
تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ..
وهو كما كانَ..
يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ.. ويو قظها
فإن غيّبتها المنافي.. تَخَيَّلها.. حيثُ كانَ
تُشاركهُ عربات القطارات..
تسبقهُ..
إذ يُحاولُ أن يتآلفَ من غير مَكْرٍ.. مع الخوفِ
في كلِّ بيتٍ سيدخلهُ ويفارقهُ بعدَ حينْ
وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى.. وتهربُ..
حتى تكونَ.. خارج بيت السنينْ"(21)
لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية المتخيل الجمالي لاتتحدد  بالمشهد المباغت، أو الصورة المتحركة،وإنما تتحدد بالفكر الجمالي الذي أنتجها،والأفق الرؤيوي المفتوح الذي وصل إليه، فالشاعر مهما ارتقى فنياً أو جمالياً لايحقق ذروة الإثارة الجمالية إلا بتعاضد المتخيل الجمالي للرؤيا الشعرية مع الموقف والحدث الشعريين الذي تنطوي عليهما الشخصية الروائية في عالمها الوجودي، وهنا أول ما يظهره الشاعر الحديث عن الواقع الذي عاشه في العراق في زمن الاحتلال ورحيله عنه، إلى وطن آخر يحظى فيه بالسكينة والآمان. واللافت أن الشاعر يتحدث عن واقعه الوجودي قبل أن يتحدث عن واقع الرواية والشخصية الروائية، وهذا يجعل منتوج الرؤيا الجمالية منتوج الذات الشعرية في قلقها واغترابها الوجودي المأزوم وواقعها المرير،مما يدل على الواقع الاغترابي الحالي الذي يعيشه الشاعر على لسان شخصيته،وهذا ما دل عليه بصريح العبارة عندما ركز على حال البلاد،وواقعها المؤلم من انهيار وتغير وضياع(يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ..أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ..تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ..وهو كما كانَ..)؛فإن تغيرت البلاد وتغيرت ملامحها وفقدت وجهها الناضر فإنه لم يتغير،ولم يغير رؤيته،ومنظوره،ورؤيته المحبة للبلاد وأهلها وشعبها وترابها الطاهر الأبي.وهو يرسم بقصيدته ملامح العراق ،كما الدكتور(زيفاغو) الذي يرسم وجه لورا الجميل على الرمال،بجامع الألفة والمودة والمحبة التي تجمع الشاعر بالعراق، وشخصية (الدكتور زيفاغو) بمحبوبته (لارا)؛ وهكذا يتابع الشاعر سيرورة المتخيلات الجمالية،تبعاً لحراك الذات،وانفتاحها الوجودي واغترابها المأزوم هذا من جهة،ومن جهة ثانية تبعاً لحركة الشخصية الروائية ومقدار تفعيلها للحدث الشعري،ومن هذا المنطلق ،فإن بلاغة القصيدة تتحقق بمثيرين : مثير تخييلي يدمج الواقع الشعري بالواقع الروائي،ومثير واقعي يشد الحدث الروائي المتخيل  إلى الحدث الواقعي، فعلى الرغم من اختلاف الواقعين(التخييلي) والواقعي،إلا أن ثمة تفاعلاً وائتلافاً في تعميق المتخيل الجمالي للواقعين معاً ،وهذا ما يجعل الأفق الشعري لكلا الواقعين مفتوحاً في رؤاه ومظهر إثارته الجمالية.
ولو دققنا في سيرورة الرؤى المتخيلة التي تجمع الدكتور زيفاغو بمحبوبته(لارا) والواقع الذي يجسده الشاعر في متخيله الجمالي لأدرك أن ثمة قيمة بارزة يشتغل عليها حميد سعيد في هذه القصائد وهواعتماد عنصر الإثارة في المتخيل الشعري الجمالي،مما يدل على وعي فني في تخليق الرؤيا العميقة، والمشهد المتحرك بأحداثه، ورؤاه، وتفاصيله، وإيحاءاته، ومتعلقاته الرؤيوية الجديدة، كما في قوله:
"والذينْ..
وجدوا في حدائقهِ ثمراً غيرَ ماعرفوا من ثمارْ
وفي مايقولُ.. غير َ الذي ألفوا منْ كلامْ
همْ آسروه..
فكانَ الأسيرُ الذي يقاتلُ في جيش آسرهِ,,
أيُّ معجزةٍ..
سَتُفَكِّك هذا التداخل بين الخراب وبين الخرابْ
بينَ شدو اليمامِ وبين عواء الذئابْ؟"(22).
لاشك في أن الأفق الجمالي في التخييل والتعبير الشعري من روائع هذه القصائد في بث مقترناتها التخييلية،لاسيما عندما ينفتح الحدث الشعري، ويدخل في تكوين المشهد المتحرك، أو المشهد الدرامي أو البانورامي المحموم الذي ترتكز عليه الشخصية الروائية في تبئير الرؤيا وتخليقها جمالياً؛ فقوة الحدث تأتي من قوة المشهد وبلاغته، ومظهر جاذبيته،وحراكه الجمالي، فكم من المتخيلات الشعرية لاقيمة لها عندما تنفصل عن الحدث، أو المشهد، أو جوهر الرؤيا في الصميم ،فالقوة الخلاقة هي التي تحرك المتخيل الشعري إلى الأفق الجمالي للحدث، والمشهد المتحرك،الذي تعتمده الشخصية الروائية في بث مكنونها ومخزونها العميق،  وهنا حاول الشاعر بمصارحة رؤيوية تجمع عمق المقارنة بين الخراب الداخلي والخراب الوجودي والانكسار الداخلي وتصدع الوجود، ليدخل الحدث الروائي بالحدث الشعري، وتزداد الرؤى الاغترابية المريرة في استجرار الرؤية المنكسرة بين ذات الشاعر، وواقعه ووجوده، وشخصيته الروائية التي تبحث عمن تحب وتنتهي نهاية تراجيدية بالموت على "أقدام محبوبته، وهو يلهث للحاق بها،فيصاب بأزمة قلبية وتخرج أنفاسه لتسطر قصته أجمل تراجيديا تاريخية في العشق، وقد حاول حميد سعيد أن يجسد عشقه للعراق تجسيداً تراجيدياً يحمل الكثير من الإحساس، والوعي، والتكثيف الشعوري الجمالي، لينتهي بهذه اللمحة التجسيدية العميقة:
ثمَّ عاد إلى بيتهِ..
يتساءلُ.. هل عاد يوماً إلى بيته ؟!
كان يبحثُ عن كلِّ ما ضاع منه.. قصائده والبلادْ
أُسرته وحبيبته..
كلُّ أصحابه اعتكفوا.. هاجروا.. قتلوا.. انتحروا
وماكان يبحثُ عنهُ.. طوتهُ الأعاصيرُ..
فاختارَ لحظته الأخيرةَ.. ثمَّ مضى..
لينامْ"(23).
إن قارئ هذا المقطع يدرك التداخل بين الواقعين الروائي والشعري فهو يتحدث عن ذاته أم عن شخصيته؟!! ، هل يتحدث عن محبوبته العراق، أم يتحدث عن محبوبة( زيفاغو)(لارا)؟!!، الواقع إن القارئ يذهل من هذا التلاقح والتفاعل بين واقع الرواية وواقع القصيدة، والحدث في الرواية والحدث في القصيدة، بجامع تفاعل الشاعر مع الشخصية إحساساً، ووجوداً، وفضاءً تخييلياً مفتوحاً، وهذا يحرك الرؤى، ويخلق متغيرها الجمالي؛فالشاعر عبر عن واقعه من خلال شخصيته وجسد حرقته الاغترابية من واقع شخصيته المؤلم ، ليؤكد بعد عودته عما كان يبحث عنه ، هل كان يبحث عن أصدقائه؟ أم كان يبحث عن أصحابه؟ أم كان يبحث عن بلاده التي ضاعت في التيه، والغربة، والظلمة الوجودية، إنه يبحث عن وجوده،وشخصيته وعالمه المزهو الذي كان ،وليس عن عالم شخصيته الروائية المقيد بالسلاسل، والأغلال الاغترابية الممزوجة بحرقة الشوق والأسى والانكسار المرير.
والواقع أن  فضاء المتخيل الجمالي في قصائد( أولئك أصحابي) يتأسس على حنكة الشاعر التخييلية في إضفاء صفات ورؤى جديدة ومنظورات مغايرة عما كانت عليه الشخصية الروائية في واقعها الروائي،بمعنى أن الشاعر حميد سعيد يرتقي بالمشهد الشعري إلى آفاق رؤيوية ممتدة، ومنظورات مواربة في المشاهد والأحداث المحيطة بالشخصية،وهذا ما يضمن شعريتها البليغة في السياق الشعري الذي تدخل به،    
نتائج أخيرة:
1-إن شعرية المتخيل الجمالي – في قصائد( أولئك أصحابي)- تتأسس على  الحس الجمالي في توليف المتخيلات الشعرية بما يحقق لها التناغم والحراك الجمالي على مستوى المشاهد والأحداث المتحركة والمواقف المحتدمة التي تسطرها القصيدة في مفصلها النصي المركز.
2-إن فاعلية المتخيل الجمالي في قصائد( أولئك أصحابي) تتأسس على المشاهد المتحولة في الأحداث والمواقف الجديدة، وهذا يؤكد أن شعرية الحدث الشعري أو شعرية الفضاء الجمالي للأحداث الشعرية تكمن في شعرية الفضاء الجمالي للمخيلات الشعرية التي تفعل مردود الرؤيا الشعرية وفواعلها النشطة في القصيدة.
3-إن فضاء المتخيل الجمالي في قصائد( أولئك أصحابي) يثير متغيرها الجمالي، في الصور واللقطات والمشاهد الجزئية،مما يعني أن بلاغة الرؤيا الشعرية تتحدد في بلاغة الرؤيا الشعرية التي تتضمن قيمة ما في المشهد والصورة والحدث الشعري.
وصفوة القول: إن لقصائد ( أولئك أصحابي) متخيلها الجمالي الآسر،لاسيما في الحبكة الشعرية المأزومة أو المشهد البانورامي المحتدم الذي يتطلب تنويعاً في الأحداث، واللقطات، والمواقف المتضادة أو المتصارعة بين قوتين أو واقعين متنافرين، الأمر الذي يجعل القصيدة كتلة مشاهد ومواقف ورؤى محتدمة في شكلها ومنحاها الرؤيوي العام؛ وهذا ما يجعل لهذه القصائد قيمتها في التأثير والتخليق الجمالي،والحدث النشط بفواعله ورؤاه المحتدمة.  

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

746 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع