ترميم شوارب التاريخ


د. خالد زغريت

ترميم شوارب التاريخ

نشأتْ عقدةُ الكرسيّ الأحمر عند "كبجي" متزامنة مع نهاية حرب "السويس"، قبل نبات زغب الطاووس في قبعات الحلم العربي، وبعد دخول الأستاذ "ديكان" حصته الدرسية السادسة مضطرباً، قائلاً: انتبهوا جميعاً سيحضر المفتش عندنا هذه الحصة، حيوانات، ويلكم، أنا نبهتكم ، وبينما كان فمه المائل يتفتف تهديداته كانت يداه تصلحان الطاولة، لاحظت فرح "كبجي" الذي كان يستعد عند دخول الأستاذ (لقتلة)لا بد منها يومياً،
كان من عادته ما إن يفلت من المدرسة حتى يطير إلى منزله يلفّ "سندويشة مكدوس"، ثم يهرع نحو الأبنية القديمة لاصطياد "الحرادين" التي يقتلها ليدهن يديه بدمها الذي يجعلهما لا تحسّان بألم ضرب العصا عملاً بنصائح سابقيه زعماء الشغب، وكان من ثوابت صفنا اليومية: أن يبدأ الأستاذ "ديكان" درسه بالقول: " أمّ الكسالى"، ويشير إلى عصاه، لم تفطر بعد، هات الفطور يا "كبجي" لكنه أمس نقض عادته، فدخل الصف يصرخ: اطلع يا كلب الكلاب، أنا كلبان يا حقير، وما إن وقف " كبجي" أمامه حتى أمسك أذنه و شدها بعنف ولم يلبث أن بطحه أرضاً، وراح يدوس عليه، و يرفسه حتى أنهك، ثم تناول العصا، وقال:عدّ إن كنت تستطيع أن تعدّ، وانهال ضرباً على يدي "كبجي"، ولما تعب قال جرّب أن تعيدها يا جربان، ويرد "كبجي" بصوت يخنقه البكاء والله ما كنت أقصدك يا أستاذ، فقد كان من عادة "كبجي" إذا رأى الأستاذ "ديكان" يختبئ بحيث لا يراه الأستاذ ثم يصيح بترنّم: أستاذ كلبان حبلان ساخراً من اسمه ومن كرشه.
قطع سلسلة ذكرياتي، صراخ الأستاذ: حيوان "كبجي" اذهب واجلب الكرسي الأحمر من الإدارة ليجلس عليه المفتش، ركض "كبجي" وبثوان أحضر الكرسي، قال له الأستاذ: انظر بعيني..وحياة (حريمي) إن تشيطنتَ.. بعرضي يا "كبجي" الكلب ستأكل فلقاً على هذا الكرسي، لكن دخول المفتش قطع وعيد الأستاذ الذي ارتدّ أرنباً كسيراً بين ذراعي ثعلب، رحَّب الأستاذ بالمفتش، وباشر الدرس مرتبكاً فكانت صورته هزلية مضحكة نتيجة ذعره البادي من المفتش، وهذا ما أبهج "كبجي" الذي همس لزميله تراهن أن "ديكان" وقع بين يدي المفتش سيشمط أذنيه، والله أكلتها أخيراً يا ديكان، كنت تأتي لتنام الحصة الأولى كأنك تشتغل على المازوت لا(تحمى) حتى الحصة السادسة، إن شاء الله تطلع غير حافظ الدرس، ويعمل لك المفتش فلقاً أمامنا، والله أنا مَن سيمسك رجليك ويثبتك على الكرسي، وغرق " كبجي" يتأمل عزّ الكرسي في إذلال الأستاذ، ولكم ودّ أن يقبّل قرعة المفتش لأنه قَلَبَ الأستاذ إلى إنسان مهذب, القط يأكل عشاءه، لا يشتم، ولا يصفع، ولكم تمنى أن يصير هذا الكرسي يوماً له.
بلغ من نشوة "كبجي" أنه قرر أن يشارك في الدرس لأول مرة، فسوف يحميه المفتش، لأنه كلما أراد أن يشارك، كان الأستاذ يردعه قائلاً: اقعد غبي .. مسطول أنت لست شاطراً إلا في سرقة البوظة من الصغار، وصيد الحرادين، وفجأة سأل الأستاذ: مَنْ يعرف كيف نصنع الزجاج، ولأن المصادفة بنت حرام لم يرفع يده أحد رهبة من المفتش، فاغتنم "كبجي" الفرصة ورفع يده صارخاً: أستاذ، أستاذ! وكانت عيناه تبصّان شماتة من إحراج الأستاذ الذي لم يجد بدّاً من سماع إجابته، فقال: نعم يا "كبجي"، قال كبجي: أستاذ نجلب التبن، ثمّ نضعه في الخُمِّ، ثمّ نجلب البيض نرتبه فوقه، ثم نأتي بالدجاجة فنحبسها، ونقعدها على البيض فتفقس زجاجاً،
فقع الجميع بما فيهم المفتش ضحكاً حتى دمعت عيناه، ولم يعد الأستاذ قادراً على ضبط الصف إلا بعد أن تدخّل المفتش، فقام عن كرسيه وطلب من الطلاب الهدوء، غير أنه لم يصمد إذ سرعان ما عاودته نوبة ضحك حاول حبسها عبثاً، لكنّ قهقهة مكسّرة شاكست إرادته فأفلتتْ من فمه وامتطَّت حتى أسالت أنفه، فخجل وخرج من الصف، أما"كبجي" فقفز من الشباك؛ لأنه أدرك أنّ الأستاذ سيأكله بلا ملح، ومن يومها لم يعد "كبجي" إلى المدرسة، و لم يستقرّ في عمل؛ لأنه قصر طموحه على أن يعمل عملاً فيه كرسي أحمر، ولا مانع أن يكون مفتشاً و لو على زبالة الحارة،.
تلك فكرة خرقت ذهنه المتخشب كمسمار من ذهب، نعم لماذا لا يقوم بهذا العمل: يجلس إلى جانب الحاوية، ويتفقد الزبالة القادمة إليها، ويتأكد إن كان أهل الحارة يتقيّدون بشروط البلدة، فيضعونها بكيس أسود محكم، ويرمونها برفق داخل الحاوية لا حولها، وبذلك يحمي حارته الشعبية من تلوث البيئة. و حَبَكَ المسألة في مخيلته، ثمّ استعان برضوخ أمه لرغباته التي ذهبت فعلاً إلى أخيها رئيس لجنة الحي، وما إن استقبلها حتى أجهشت بالبكاء قائلة: الله يرحمك يا أمي، أنتِ استرحت بقبرك، وتركتني ضلعاً قاصراً، صارت الكلاب المليحة و القبيحة تنهشني، حاول أخوها تطييب خاطرها: ماذا بيدنا يا أختي؟ ماذا تريدين اطلبي ؟ .. أتريدين الباب .. طيب اخلعيه وخذيه، والله يا أختي الحنون يرخص لك الغالي.
ردت مقاطعة: ليس لدي إلا هذا الولد وهو غير متعلّم وعاطل بلا عمل، طيب أيرضيك أن أقعد قدام باب الجامع لأشحذ وأطعمه ؟ وباءت كل محاولات أخيها في حضّها على الصبر بالخيبة، قالت:الحلّ بيديك، سألها: كيف؟ والله لو كان بيدي ـ وحق تربة المرحومةـ تأخذينه وحبة مسك، وهذه شواربي، حدثته أخته عن مشروع ابنها، حين سمعها أدرك أنه وقع في الفخ، لكن المشكلة أنه رهن شاربيه، فكر قليلاً، وبلع المقلب شوكاً، وقال: بلى هي فكرة يمكن تنفيذها، انتظري اصبري ريثما أجمع أعضاء مجلس الحي.
فعلاً في اليوم التالي دعاهم إلى غداء فاخر، بداية حدّثهم عن زيارته المزعومة لمسؤول كبير وعده بالتفرغ لأحلامه وأحلام من يحبّ فور فراغه من ثلاث قضايا ساخنة كُلّف بها، أولها : ترميم تمثال بوذا في أفغانستان مزامنة مع رفس الأمريكان من ربوعها الطاهرة، وثانيها محو أمية الشيشان "بمتة الخارطة" فهم صم بكم بالجغرافيا، وثالثها محو أمية الصوماليين بالواوا،
و تابع : يا شباب أريدكم أن تتفاءلوا..المستقبل لنا، وهذا شاربي يا أبا" الرفّ" إن لم أعينك في منصب يجعلك تسدّ الحارة بسيارات الدولة، أليس عيباً أنت قد عشرة ولا تملك كرسياً واحداً، والله لو لم تحلق شاربيك لكنت قد تمثال بوذا ونصف، لأجلك سأفرض على صديقي ( ) بالصرماية أن يفرض على كل بائعي الكاتو ألا يصنعوه بسكرٍ كي تأكل حتى تشبع ، أما أنت يا مسبع الأحلام سوف أخليك تردح من الصباح إلى المساء في إذاعة لندن، حينها من حقك بثّ ما تشاء من الأغاني التي تحب في برنامج ما يطلبه المستمعون، ويمكنك أن تذكر كل أسماء أهل" الحولة" في إهداءات أغنية"سلمى بنت الجيران"، كما يمكنك أن تموّت تُميت أبا الفلسفة غيظاً فلا تبث أغنيته المفضلة( دقّي دقّي يا ربابة) حتى لو وسّط لك أفلاطون.
أما أنت يا "سمسوم" صحيح أنك بحجم السمسمة وأصلع، لكنّك أفنيتَ أربعين عاماً مطهّراً بين... طَهرّتَنا وطهرّتَ أولادنا، بربك أليس حراماً بعد كل هذه التضحيات ألا يقبلوا عضويتك في نقابة ملك جمال التصفير وأنت أباً عن جَدٍّ كشّاشُ حمام، صدقني نكاية بهم سأعينك ملحقاً ثقافياً للمطهرين في نيوزلندا.
تابع خال "كبجي" نفخ أحلام أصحابه بعد أن نفخ بطونهم، ودار، ولفّ حتى دوّخهم بمزايا توظيف مفتش الزبالة، وما إن أخذ موافقتهم حتى ذهب إلى أخته حاورها و ابنَها بضرورة إتقان هذه الوظيفة كيلا يخزيه أمام أصحابه، نبر "كبجي" يا خال لي شرط، أراد الخال أن يأكل أسنانه غيظاً، وتشترط كذلك!!! طيب ما هو الشرط؟ قال "كبجي": أريد كرسياً أحمر، وتمّ له ما أراد.
في صباح آخر استيقظ "كبجي"أخذ الكرسي إلى جانب الحاوية ثبّته هناك، وراح يراقب من يجلب الزبالة إليها مملياً شروطه بنزق وعجرفة: لا تضعوا الزبالة بأكياس مهترئة، بعرضي سأرد مَن يأتي بالزبالة بكيس غير أسود، لا سأرميها بخلقته.
قبل أن ينتصف النهار جاء الأستاذ ديكان يحمل زبالته بكيس شفاف، لمحه " كبجي" أمعن في تأمله.. مشيته.. قامته، حركاته، وحين اقترب منه تأمّله ببلهٍ مفضوح، فمازالت رأسه بصْلةً مقشرة مثبتة أفقياً على جسمه الذي يشبه جوزة الهند، ردّد في نفسه جئت! وكيس شفاف أيضاً، يا أستاذ يا غبي، نسيت يا جبان!!! كان المفتّش يُرجّفُكَ في الصف، فكيف بمفتش مثلي؟! يا كلبان الكلب ضيعت مستقبلي، آه كم كسّرت من العصي على هاتين اليدين يا ابن الحرام، والله وقعت يا أستاذ! وحين وصل، أثار سخريته منظر "كبجي" لافاً رجلاً على رجل، فقال: وكرسي أحمر يا غبي!!!
وهذا ما حرّك كلّ ذئاب الحقد النائمة في نفس "كبجي"، فصاح: العمى، بدل أن ترجف مني تسخر !!! وبلا شعور خطف الكيس وقذف به وجهَ الأستاذ صارخاً: ألم أقل يا كلبان مَن لا يغلّف الزبالة بكيس أسود سأقذفها بوجهه، جُنَّ الأستاذ، وبلا وعي منه رفس "كبجي" في منطقة حسّاسة، فسقط أرضاً، تركه، ومشى، وما لبث "كبجي" أن استجمع قوته، فحمل الكرسي وركض وراء الأستاذ، فباغته بضربة على رأسه أطاحت به على الزفت، فدوى ارتطام رأسه، لكن "ديكان" حاول أن ينهض، فنظر"كبجي" حوله رأى قنينة كولا زجاجية، أمسكها، وقال: سأريك يا "ديكان" الكلب كيف يفرّخ البيض زجاجاً حين تُكسَر رأسك مثل بيضة، وقذفه بالقنينة، فتفجر رأسه دماً.
حضر سكان الحي على الجلبة، أسعفوا الأستاذ الذي ما لبث أن مات، واقتادت الشرطة " كبجي" .. وحكى لي صديق فيما بعد، قال: حين نطق القاضي بحكم الإعدام على "كبجي" ، نطّ " كبجي" في القفص كالقرد المسعور صارخاً: سيدي وتربة "ستي" أنا مظلوم، هو أغاظني، هو استفزّني، واعتدى عليّ في أثناء العمل، وسخر من مقامي، فجنني، وحين أدرك أنه لا جدوى من الاعتراض، قال: سيدي طيب أنا أقبل الظلم، لكن شرط أن يكون الكرسي أحمر حتى بالإعدام لن تحققوا حلمي!!!
بينما كانت أمّه تمسك أخاها من رقبته وتصرخ: ألم تقل لي: إن صاحبك المسؤول يفكّ المشنوق، وكان الخال دامعاً يقول لها: والله يا أختي لم ينته بعد من شغله، لو تأخروا شهراً في نطق الحكم، لكان صاحبي خلِص من تمثال بوذا، أولاد الحرام في أفغانستان غشوه، فمنهم من يقول: كان تمثال بوذا بشاربين ومنهم مَن يقول: هو من دون شاربين، فحيّروه، فهو لا يجرؤ على تصرّف قد يؤدي إلى إشعال الحرب الأهلية في أفغانستان، يا أختي أنت لا تعرفين ألم حسّ المسؤولية، هل يرضيك أن يسوّد تاريخه، والله ما حلو بحقنا أن نكون سبب الفتنة.
يا أختي هذان شاربا "بوذا" ما لعبة، والله التاريخ لا يرحم، ألم أقل لك: لا تسميه"كبجي"، قلتِ لي: انظر إليه ألا يشبه "الكبجي"، حوطته باسم النبي، لعله عندما يكبر يغرف لنا من هذه الدنيا، يا أختي ما لابنك و للزبالة، لتطمر الحيّ .. هل تظنين رائحة أهله أطيب من زبالتهم .. نظرت إليه أخته، ولأول مرة في عمرها شتمت أمّه المرحومة وتاريخ صاحبه بشاربين وبلاهما.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1148 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع