
العرب/بغداد- بعد أكثر من شهر على الانتخابات البرلمانية في العراق، ما زالت القوى السياسية تخوض مفاوضات شاقة لتشكيل حكومة جديدة، في ظل ضغوط أميركية متزايدة لاستبعاد الفصائل المسلحة الموالية لإيران عن السلطة المرتقبة.
وتأتي هذه المفاوضات في سياق إقليمي يشهد تحولات متسارعة وتراجعا لبعض مراكز النفوذ التقليدية، ما يضع بغداد أمام تحدّي إدارة علاقتها مع فصائل مصنّفة أميركيا على لوائح الإرهاب، من دون خسارة دعم دولي أو الانزلاق إلى عزلة سياسية واقتصادية.
ومنذ الغزو الأميركي عام 2003 والذي أطاح بحكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، احتفظت الولايات المتحدة بنفوذ سياسي وأمني في العراق، فيما رسّخت إيران حضورا موازيا داخل المشهد السياسي. وعلى مدى سنوات، حاولت الحكومات المتعاقبة الموازنة بين الطرفين.
لكن مع انطلاق مفاوضات تشكيل الحكومة بعد انتخابات نوفمبر الماضي، وضعت واشنطن شروطها، بحسب مسؤولين عراقيين ودبلوماسيين في بغداد، تتمثل في استبعاد الفصائل المسلحة الموالية لإيران من الحكومة الجديدة والعمل على تفكيكها ونزع سلاحها.
وقال مسؤول أميركي طلب عدم كشف هويته إن “القادة العراقيين يدركون تماما ما يتوافق ولا يتوافق مع شراكة قوية بين الولايات المتحدة والعراق”، مضيفا أن واشنطن “ستواصل الحديث بوضوح عن ضرورة تفكيك الميليشيات المدعومة من إيران”.
وتصطدم هذه المطالب بواقع سياسي معقّد، إذ إن بعض الفصائل حققت مكاسب انتخابية مهمة وتنضوي ضمن الغالبية البرلمانية لـ”الإطار التنسيقي”، التحالف الذي يضم قوى شيعية متفاوتة القرب من طهران وقاد البلاد خلال السنوات الماضية.
وإلى جانب المفاوضات الجارية لاختيار رئيس الوزراء، قال مسؤول عراقي إن “الولايات المتحدة اشترطت عدم مشاركة الفصائل المسلحة في الحكومة المقبلة” وطلبت نزع سلاحها وأن “تقطع علاقتها بالحرس الثوري الإيراني”.
وفي تغريدات حديثة، حذر المبعوث الأميركي الخاص إلى العراق، مارك سافايا، من أن القادة العراقيين يقفون “عند مفترق طرق”، معتبرا أن قرارهم “سيرسل إشارة واضحة لا لبس فيها إلى الولايات المتحدة” بشأن ما إذا كان العراق مستعدا لشغل “مكانته كدولة مستقرة في الشرق الأوسط الجديد”، وإلا فإن البديل سيكون “تدهورا اقتصاديا، وارتباكا سياسيا، وعزلة دولية”.
ومنذ الإعلان في أكتوبر الماضي عن اختياره مبعوثا شخصيا للرئيس الأميركي إلى بغداد بات سافايا بتصريحاته وتعاليقه النارية حول الوضع في العراق رمزا للدبلوماسية الهجومية لإدارة ترامب تجاه البلد.
ورأى البعض في اختيار الرجل المقرّب من ترامب لهذا المنصب المستحدث إيذانا بمرحلة جديدة من الصرامة الأميركية إزاء الميليشيات ومشاركتها في السلطة العراقية وعملها كأذرع لإيران أمنيا وسياسيا واقتصاديا أيضا من خلال مساعدتها على الالتفاف على العقوبات.
وسبق تعيينُ سافايا عمليةَ إرسال سفير أميركي دائم إلى العراق والمعلّقة منذ أكثر من عام ما يعني أن ترامب يؤثر الإمساك بالملف العراقي مباشرة عبر ثقاته ومقربيه.
وتسود بعض الأوساط العراقية مخاوف من حالة الإرباك الكبيرة التي يمكن لتلك الضغوط أن تتسبب بها للبلد نظرا لكون القوى التي قد تسعى واشنطن لإبعادها عن السلطة في العراق هي الأكثر تمكّنا داخل مختلف أجهزة الدولة.
كما أن الإرباك قد يحصل إذا استخدمت واشنطن الورقة المالية والاقتصادية ضدّ بغداد لإجبارها على التنفيذ الحرفي للعقوبات
الأميركية والدولية المفروضة على إيران عبر وقف مختلف المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية معها وضبط عمليات تهريب النفط الإيراني وتسريب عملة الدولار من العراق إلى إيران وهي عمليات تضطلع بها الميليشيات بما في ذلك المشاركة في السلطة والحاصلة على مواقع مهمّة داخلها.
وتصنّف الولايات المتحدة عددا من الفصائل المسلحة على أنها منظمات إرهابية، رغم أنها جزء من هيئة الحشد الشعبي المنضوية في القوات المسلحة العراقية. وتنتمي تلك الفصائل إلى ما يطلق عليه اسم “محور المقاومة” المدعوم من إيران، وقد دعت مرارا إلى انسحاب القوات الأميركية ونفذت هجمات متفرقة ضدها.
وتعزّز نفوذ هذه الفصائل السياسي والمالي مع الوقت، ما يجعل إقصاءها من مفاوضات تشكيل الحكومة أمرا بالغ التعقيد.
وتعدّ عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي من أبرز تلك الفصائل، وقد فازت بـ27 مقعدا في الانتخابات الأخيرة، فيما تمثّل كتائب حزب الله إحدى أبرز المجموعات المسلحة، وهي تدعم كتلة برلمانية من ستة مقاعد. وكانت متهمة بخطف الأكاديمية الإسرائيلية الروسية إليزابيث تسوركوف التي أفرج عنها قبل أشهر بعد عامين من الخطف.
وتشمل القائمة أيضا كتائب سيد الشهداء وكتائب الإمام علي وحركة أنصار الله الأوفياء، وقد حصدت جميعها مقاعد برلمانية متفاوتة، فيما تبقى حركة النجباء الفصيل الوحيد الذي لم يشارك في العملية السياسية.
ويقول مسؤول عراقي سابق إن الولايات المتحدة قد لا ترفض التعامل مع الحكومة العراقية الجديدة ككل، لكنها ستتجنب التعامل مباشرة مع الوزارات التي قد تُمنح للفصائل ما يعني ضرورة إبعاد الوزارات السيادية عن الأذرع المحلية لإيران.
ويواجه العراق تحديات اقتصادية كبيرة في ظل مساع لجذب استثمارات أجنبية، خصوصا في القطاع النفطي، رغم العقوبات الأميركية المفروضة على كيانات ومصارف عراقية بتهمة مساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات الدولية.
وفي موقف لافت، قال الخزعلي إنّ من مصلحة بغداد أن تستثمر الشركات الأميركية بطريقة صحيحة في البلاد، وذلك رغم خضوعه هو شخصيا لعقوبات ورغم مواقفه المعروفة المناهضة لواشنطن.
ومنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، بقي العراق بعيدا نسبيا عن التصعيد الإقليمي. ورغم تنفيذ فصائل عراقية هجمات متفرقة ضد القوات الأميركية وإسرائيل، ردت واشنطن بضربات قبل أن تتوقف تلك الهجمات لاحقا.
ولم يكن العراق هدفا مباشرا لإسرائيل، على عكس حلفاء إيران الإقليميين، لكن مصادر متعددة تشير إلى تحذيرات بشأن احتمال تنفيذ ضربات إسرائيلية ضد فصائل مسلحة في البلاد.
وتتزايد المخاوف مع تراجع الوجود العسكري الأميركي في إطار الاتفاق على إنهاء مهمة التحالف الدولي، ما يطرح أسئلة حول مستقبل التوازن الأمني والسياسي في البلاد خلال المرحلة المقبلة.

1319 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع