الكاتب الصحفي حمّادي النّاهي

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

 

الكاتب الصحفي حمّادي النّاهي

حمّادي النّاهي الطائي (1915-1990) شخصية عراقية وطنية، وصحافي بارع من رواد الصحافة الساخرة في العراق، وهو من مواليد البصرة الفيحاء، ومن الشخصيات الوطنية المعروفة. عاش معظم حياته في مدينة الموصل الحدباء، وترك إرثا صحفيا وذكرا طيبا بين الناس.

تعرفتُ في طفولتي بحمّادي النّاهي الذي كان يزور محل والدي المرحوم يونس ذنون الخياط (1909-1991) في شارع غازي، شارع الثورة لاحقا، حيث كان ذلك المحل أشبه بمنتدى ثقافي يتوافد إليه العديد من شخصيات الموصل أمثال الدكتور عبد الجبار الجومرد؛ أول وزير خارجية للعراق في العهد الجمهوري، والمربي الكبير الأستاذ عبد الرحمن صالح والمحاميان المعروفان فخري الخيرو ومحمد نجيب سليم وآخرون.

وكان حمّادي النّاهي يتوافد باستمرار إلى محل والدي بعد أو قبل زيارته لشارع النجيفي المجاور والذي يمثّل المركز الثقافي النابض في الموصل؛ حيث تنتشر به المكتبات والمطابع ودور النشر وإدارات الجرائد.

سكن حمّادي النّاهي في مدخل محلة النبي شيت الشمالي بالموصل بجوار دائرة الوقف السني في نينوى والمتوسطة المركزية للبنين. واشتهر بكنيته (أبو ستّوتة)، و (ستّوتة) هو اسم ابنته الكبرى، وكان لديه ابنة أخرى اسمها (ساجدة) كانت في مدرسة الهدى الابتدائية للبنات في محلة النبي شيت كما ذكرت إحدى الأخوات.

و(ستّوتة) من أسماء البنات التي كانت شائعة في البصرة الفيحاء، وفيها صيغة تصغير ودلال، ثم جاءت العربات الصغيرة ذات الثلاثة أرجل ويسحبها مأطور سيكل، فأُطلق عليها تسمية (ستّوتة Stouta) لكونها (عربة مُصغَّرة) ويستخدمها النجبرية. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة (ستّوتة) تُستخدم في الجزائر وتعني (كثيرة الحيل)!.


لقد كان (أبو ستّوتة) مديرا لمعمل الصمون الأوتوماتيكي الحكومي الذي كان في منطقة رأس الجادة بالموصل، وقد أخذنا مرة معه في زيارة تعريفية إلى ذلك المعمل الذي كان ينتج صمّون طويل أوتوماتيكي مميز وبأسعار زهيدة 6 فلوس للصمونة.

كما كان (أبو ستّوتة) يُحرر جريدة شعبية منوعة في شارع النجيفي؛ هي جريدة (الكَشْكُول)؛ حيث كان (أبو ستّوتة) يتلقّط الأخبار من الأحاديث التي كان تُطرح من واقع الحياة؛ وقسم منها من محل المرحوم والدي من قبل أصدقائه، وكان ينشر قسم منها في جريدته الغراء.

من السوالف التي أتذكرها عن (أبو ستّوتة) أنه بعد ثورة الشِّواف في الموصل سنة 1959 حدثت موجة اغتيالات كبيرة في الموصل راح ضحيتها الكثير من الأبرياء. وأذكر مرة كان يوجد صيدلي (زكر عبد النور) تقع صيدليته في شارع غازي مقابل صيدلية (نجيب رزّو). وفي مساء أحد الأيام استقل الصيدلي أحد باصات مصلحة نقل الركاب (الأمانة) للذهاب إلى بيته في حي النّجار، وفي الباص انتبه الصيدلي إلى وجود سيارة تتعقب الأمانة. ولما وصلت الأمانة إلى قطعة الوقوف القريبة من بيته خاف أن ينزل لعدم وجود ناس هناك، فجدد البطاقة وعاد أدراجه الى شارع النجيفي المزدحم.

نزل الصيدلي المسكين وهو خائف يترقب ودخل شارع النجيفي؛ وأمام مكتبة العسلي تم اغتياله أمام أنظار الناس!!

في تلك الأجواء العصيبة كان جيراننا الحلّاق محمد علي (1902-1988) (أبو ماجد) يعيش في حالة قلق شديد، وفي أحد الأيام جاءه طفل وأعطاه ورقه ثم هرب. قرأ الرسالة التي كانت موجهة إلى (أبو ماجدة)؛ فإذا بها موجهة إليه وفيها استفزاز له. فذهب وأخذ يحمل معه سكين عند العودة لبيته بالأمانة.

ثم جاءته رسالة أخرى لهجتها أشد، فترك (أبو ماجد) السكين وقام يحمل معه قرآن أينما ذهب. وعلى هذا النحو أصبحت قصة (أبو ماجد) مسلسلة، وكان كل يوم يأتي (أبو ماجد) يقرأ رسائل الترهيب التي تصله في محل المرحوم والدي وهو يرتجف، وكان (أبو ستّوتة) يسمع ثم ينشر في جريدة (الكَشْكُول) بأسلوبه الساخر.

المفارقة الغريبة أنه بعد أن نشرت جريدة (الكَشْكُول) مسلسلة (أبو ماجد)، جاء أحد أصدقاء (أبو ماجد) ضاحكا وقد قرأ جريدة (الكَشْكُول) وقال له: عليش كل هذا الخوف يا أبو ماجد.. أنا اللي بعثتولك هاي الرسائل من باب الشقا.. عليش كبرتها ووصلتها للكَشْكُول!

يذكر الصديق نمير المصري أنه كان من المولعين بقراءة جريدة الكَشْكُول، حيث لم يكن هدف الجريدة الربح، وكانت تلك الجريدة من صفحتين تتضمن نكات وطرائف ومواقف مُسلّية وصور كاريكاتير وأخبار فنية ممتعه، وكانت جريدة مرغوبة من شريحة الشباب كثيرا.

أما عنوان الجريدة (الكَشْكُول) فقد اختاره (أبو ستّوتة) ببراعة، وهو عنوان لجريدة مصرية قديمة!!

وكلمة (كَشْكُول) تعني (وعاء المتسوّل الذي يضع فيه رزقه)، ويستخدمها البعض ليعني بها (أشياء مُنوعة لا يربط رابط فيما بينها).

وفي مجال الخياطة هناك تقنية تسمى (كَشْكُول Patchwork)‏، وتعني تجميع قطع من الأقمشة من مختلف الأحجام والأشكال والألوان وتنسيقها وخياطتها وجعلها قطعة واحدة لتكون بشكل لحاف أو جودلية وما شابه ذلك. وتحتفظ بعض عوائل الموصل، ونحن منهم، بقطع كَشْكُول للذكرى كانت قد عملتها جداتنا رحمهن الله.

يذكر المؤرخ أزهر العبيدي أن الكَشْكُول هي عليقة المتسوِّل التي كان يُعلقها في كتفه ويضع فيها كل ما يتصدق به أهل البيت في الزمن الماضي من طعام وغذاء ويسميه الناس (طبيخ المكادي) (أي طبيخ الفقراء المعدمين)، ويشمل التمن والمرق بأنواعه والدولمة والكبب والبرغل والعدس والكشكا... ويقال أن المكادي لا يأكلون هذا الطعام بل يُطعمونه للماشية ويتناولون الطعام الجيد من الفلوس التي يحصلون عليها.

أما المؤرخ الدكتور إبراهيم العلّاف فيذكر أن حمّادي النّاهي قد قام بقرابة (77) رحلة الى مناطق العراق المختلفة، وجال العراق من أقصاه إلى أقصاه، وكتب عن المدن والقرى والأرياف والمصايف والجبال والأنهار والاهوار والصحراء.. من أقصى الزبير إلى حدود زاخو، ونشر جانبا من وصف تلك الرحلات في جريدته (الكَشْكُول)، ولقد أتقن النّاهي اللغة الكردية إلى جانب اللغة العربية.

لقد كان توجه حمّادي النّاهي وطني وقومي منذ صغره؛ وأسهم في ثورة مايس 1941 وكانت له علاقة بالضباط الذين قادوا هذه الثورة ومنهم صلاح الدين الصباغ وزملائه.

وبعد فشل ثورة مايس هرب الى سوريا وانخرط هناك في العمل السياسي وكانت له صلات مع قادة فلسطين وسوريا ولبنان أمثال الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي وأمين رويحة وسعد الله الجابري وعبد الرحمن الكيالي وبشارة الخوري ورياض الصلح.

كما تعاون حمّادي النّاهي مع عدد من الرواد القوميين والإسلاميين والاشتراكيين الذين جعلوا من (الساحة الشامية) مكانا لنضالهم السياسي منهم (محمد اليتيم من البحرين) و(عباس كاشف الغطاء من العراق) و(خالد بكداش من سوريا).

كما زار النّاهي عددا من البلدان العربية، ونشأت بينه وبين صحفيها علاقات وثيقة استفاد منها في مقالاته.

لقد كان حمّادي النّاهي رجلا شجاعا وقد أسس حزباً أسماه (حزب الحمير)، كان الغرض منه مهاجمة الحكومة وساخراً من كل الذين يعملون على الساحة السياسية.

ويذكر المؤرخ معن عبد القادر آل زكريا أنه جرت في أحد أيام ربيع سنة 1955 استعراضات رياضية خاصة بالمنتوجات الزراعية والحيوانية لمدينة الموصل، وكانت إحدى فقراتها (مسابقة الحمير). وقد نشر النّاهي مقالا في جريدة الكَشْكُول بعنوان: كيف يقيمون السباق دون أخذ رأي حزب الحمير الذي أنا زعيمه؟

الكاتب حمادي النّاهي:
أصدر حمّادي النّاهي بعض الكتب، طبع منها كتابه الأول: (ثمانون وألف ليلة في السجون) وهو بجزئيين. أما الكتاب الثاني فهو بعنوان: (مقررات حزب الحمير)، وهو بجزئيين، وقد طبع الجزء الأول فقط، أما الجزء الثاني فلا يزال مخطوطا.

وعمل حمّادي النّاهي في جريدة (حبزبوز)، وفي سنة 1939 أصدر جريدة (الكَشْكُول) بعد ان فشل في إصدار جريدة ببغداد باسم (البهلول)، إذ أن حكومة جميل المدفعي لم توافق على إصدارها.

وفي الأول من نيسان سنة 1939 صدرت في الموصل جريدة (الكَشْكُول) الهزلية لصاحبها حمّادي النّاهي ورئيس تحريرها المسؤول المحامي يوسف النجدي. ثم عادت إلى الصدور في فترات متقطعة ما بين الخمسينات والستينات حتى توقفت نهائياً سنة 1969. وأثناء فترة من فترات توقفها، أصدر حمّادي النّاهي عوضاً عنها جريدة (لسان الكَشْكُول) سنة 1954.

في أواخر أيامه فقد حمّادي النّاهي بصره وأصابه المرض، وقد توفي في سنة 1990 بعد حياة زاخرة بالأحداث، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1181 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع