كلوفيس مقصود حيّاً في ذاكرتنا العربيّة

                   

                            د. سيّار الجميل

رحل أحد أبرز أعمدة العروبيين الذين عرفناهم منذ زمن المد القومي العربي.. رحل المفكر القومي، كلوفيس مقصود، بعد أن التصق بالحياة العربية، وهو يتابع شؤونها منذ أكثر من ستين سنة.. رحل هذا الرجل المرموق الذي بقى نقيّاً، يعبّر عما في سريرته من دون لفّ ولا دوران. كم كان العرب في حاجة إليه في أيّامهم الكالحة هذه، وكم تحتاج الأجيال الجديدة إلى تمثّل فكره وسجاياه ومواقفه وصفاء عروبته واستقامة سلوكياته وأخلاقياته المتمدّنة التي كتبتُ عنها قبل عشرين سنة في كتابي "ذكريات شاهد الرؤية ".

رحل كلوفيس عن الحياة التي عشق أن يعمل فيها كاتباً صحفياً قبل أن يكون سفيراً، ومحامياً، ودبلوماسياً وأستاذاً أكاديمياً ورئيس مؤسسة، ومدير مركز ومستشاراً وكبير مندوبين.. ولكن الكتابة أعز عملٍ كان يمارسه كلّ يوم، إذ لم ينقطع أبدًا عن الكتابة، وأسعد لحظاته عندما يشرع بقراءة ما كتبه منشوراً هنا وهناك. رحل من كانت تشغله هموم العرب ومشكلاتهم وقضاياهم. رحل من كان يهتم بهم كمجموعة بشريّة حية لها تاريخ حضاري، وهي تجد نفسها اليوم في الجنوب، فكان أن ندب نفسه محامياً لقضاياها في هذا العالم الصعب والمتوّحش.

رحل من كان يصرّ على تسميته وتوصيفه بالمفكر العربي، إذ لا يجد نفسه إلا لبنانياً في الولادة، ومارونياً في المذهب. وكان متحضّراً متمدّناً، لا تهمّه سذاجات الآخرين، ولا حماقاتهم التي تعبّر عنها تعصّباتهم ومغالاتهم واحقادهم . كان منفتحاً في مجتمعه، ومتعفّفاً عن ممارسة التقاليد البالية. كان كتلة متحرّكة، وواعية، ومؤمنة عميقاً بحركة القومية العربية، بأساليب عصريّة متمدّنة، فمشاعره العربية تغلب على انتماءاته الأخرى، إذ أصرّ على أن يتحدّى العالم، ويتزوّج مسلمة، وظلّ مؤمناً بما هو أكبر من الخلافات التي تفرّق أبناء الوطن الواحد، ورأته أسر لبنانية معروفة بأنه واحد من السعاة البناة لوحدة أمّة كاملة، فكيف لا يسعى إلى بناء أسرة سعيدة.

إبّان السبعينيات، كان في منتهى حيويته، عندما التقيته في جامعة أكسفورد أول مرّة، وكان زائراً لمبانيها التي عشقها منذ درس في ردهاتها، ومشينا بين الأبنية القديمة، وحكى لي عن ذكرياته فيها، ونحن نتناول الغداء، وحكى لي عن جمال عبد الناصر وإعجابه اللامتناهي به. وكان ضدّ سياسة أنور السادات، فتعمّقت الصلة بيننا، وهو بمكانة أستاذ لي، كونه يسبقني بجيل. حكى لي عن سفارته الناجحة جداً في الهند إبّان الستينيات، وكيف كان سفيراً عربياً للقضية العربية 1961- 1966 في بلدٍ يؤمن بفلسفة عدم الانحياز، بقيادة الزعيم  نهرو الذي أحب كلوفيس، وتعاطف معه ومع قضايا العرب، وكان دائم الاجتماع معه. وقال: كانت لي فسحة من الحرية التي كنت أتحرّك من خلالها نحو سفراء عديدين، أو مبعوثين دائمين، أو وفود زائرة من أنحاء العالم.

التقيت به ثانيةً في لندن، إبّان الثمانينيات، وكان قادماً من مصر، وجدته مرجلاً فائراً، يحترق في أعماقه على لبنان الذي يعيش حربه الأهليّة. وقال إن إسرائيل تعبث بلبنان وبمصيره. جلست معه طويلاً، فوجدت حيويته كبيرة، وقد ازدادت ثقافته في شؤون العرب وتمّرس في أساليبهم. وحكى لي عن وضع العراق وحربه المستعرة مع إيران الخمينية، وعن نزق قادةٍ عرب، لا يدركون أين تسير هذه الأمّة. وسألته عن كمال جنبلاط وعن ميشيل عفلق وعن شارل مالك. قال: يبدو أن زمنهم قد رحل، ونحن أمام متغيراتٍ جديدة!

كان الرجل قد تشرّب الفكر القومي منذ دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وتأثره بالمؤرخ الراحل قسطنطين زريق الذي كانت له مكانة كبيرة في قلب كلوفيس، وكان يعتز بآرائه وأفكاره، وحكى لي أشياء كثيرة عنه، وعن النخبة العربية التي تخرّجت على يديه، وهي تؤمن بأفكاره القومية.. وفي لقائي الأخير مع كلوفيس في واشنطن، وجدته يتصفّح كتاباً جديداً عن زريق للصديق عزيز العظمة، وهو من أجمل ما كتب عن زريق. اعتبر كلوفيس تلك المرحلة زمناً ذهبياً عربياً، كان سيدوم ويرتقي نحو السموق، لولا مؤامرات إسرائيل والقوى الخارجية التي أسهمت في تدمير الحياة العربية من كلّ النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكنت أجيبه دوماً: لا تنس العوامل الداخلية والأخطاء العربية التي جنيناها بحقّ أنفسنا، يا سيدي.

ولما التقيت مع كلوفيس في التسعينيات في بيروت، كان بكامل حيويته، وقد زاد تمسّكه بقوة مبادئه القوميّة التي آمن بها. وفي إحدى زوايا الاستقبال بفندق الكارلتون، راح يحكي لي عن الصدمة الشديدة التي تلقاها إثر سماعه غزو الجيش العراقي الكويت عام 1990، وكيف تمّ ضرب العراق، ولماذا سحقت بنيته التحتيّة عام 1991، وصبّ جام غضبه على قراراتٍ كان الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، يصدرها، وقال إن الرجل يعيش أزمةً نفسيةً حادةً، بعد أن أكمل حربه مع إيران، وجد العالم يتخلى عنه شيئاً فشيئاً، فكال الصاع صاعين، ولم يعرف خطورة لعبته وأبعاد تداعياتها. قال كلوفيس: في تلك اللحظة التاريخية الصعبة، كسرت قلمي، وضربت بيدي على الطاولة، وأعلنت استقالتي. واستطرد قائلا : إنه أثقل حدث مأساوي هزنّي من الاعماق في حياتي، بعد حدث مأساوي آخر واجهناه بقوة وحزم، يوم خسرنا حربنا ضد إسرائيل في 5 يونيو/ حزيران 1967، لكن عزمنا العربي، إبّان الستينيات، كان أقوى بكثير مما غدونا عليه في التسعينيات، كما قال.

في لقاءات أخرى مع كلوفيس في واشنطن في السنوات الأخيرة، استقبلني بحفاوةٍ ومحبةٍ في مكتبه مديراً لمركز الجنوب العالمي في الجامعة الأميركية. كان قد تقدّم به العمر، لكن فكره لم يزل وقاداً وقلمه مضاءً. انتقدني بأدبٍ جمّ، في إحدى المرات، لإصداري كتابي "تفكيك هيكل"، وقال: كنت قاسياً جداً على محمد حسنين هيكل . ولكنه، في مرةٍ أخرى، عاد وانتقد هيكل بشدّة، جراء "هذيانه" على شاشة فضائية "الجزيرة" بصدد بعض الزعماء العرب، على حدّ توصيف كلوفيس، وأخيراً انتقاداته موقف هيكل من متغيرات مصر الأخيرة.

سألته: زاملتَ اثنين من أعمدة الصحافة العربية في القرن العشرين، غسان تويني في بيروت عندما عملت في "النهار" 1977- 1979، ومحمد حسنين هيكل في القاهرة عندما عملت كبيراً للمحرّرين في "الأهرام" إبّان الستينيات. فما الفرق بين الاثنين؟ أجاب: كل منهما يعيش في عالم يختلف عن الآخر، ولكلّ منهما سجاياه المتباينة عن الآخر مع مهنيّتهما العالية. سألته: أيهما أكثر مصداقية؟ أجاب مباشرة: تويني. وقال: غسان متواضع وورث مهنته عن أبيه جبران الذي أعرفه جيداً، وهو يردّ على قرائه ونقّاده بصدر مفتوح. أما هيكل، فعلى العكس، يحب الفخفخة، ويتعالى على الآخرين. سألته عن جامعة الدول العربية التي له معها تاريخ طويل، وهو يعرف خبايا أمورها، وما جرى في كواليسها من مثالب وسقطات، وكان يقول دوماً: علينا أن لا نفرّط بوحدة الكلمة، مهما بلغت بنا الاختلافات، نحن العرب. وعدني في آخر لقاء لي معه أن يزور كندا، فقلت له: يا مرحبا بك. ولمّا زارها، كنت على سفر في الدوحة ولندن، ففاتني أن ألتقي به، وعلمت أنه قد حظي بحفاوة أصدقاء عديدين في تورنتو.

نشر الأستاذ كلوفيس حزمة كبيرة جداً من المقالات الصحفية في أمّهات الصحف العربيّة، وله كتب منشورة قرأناها قبل زمن طويل، أبرزها "معنى الحياد الإيجابي" و"أزمة اليسار العربي" و"العروبة في زمن الضياع" و " من زوايا الذاكرة : محطات رحلة في قطار العروبة " .. إلخ. وكان يتابع يوميّاً شؤون العالم العربي والشرق الأوسط، وكانت له آراؤه في سقوط بغداد عام 2003 بأيدي الأميركان، وبدأ يشغل نفسه بأمور البيئة والتنمية وحقوق الإنسان، وحاجة العالم إلى الأمن الإنساني أمام زحف الإرهاب، وشغل نفسه أيضاً بكيفية معالجة الألغام الأرضية ومشكلات السكان والانفجار البشري، ونزع السلاح، وكانت له آراؤه المصيبة في الذي جرى خلال الأعوام الخمسة الأخيرة وما سمي الربيع العربي.

كانت مقالاته تعتمد الرأي والنصح في عالم عربيٍّ خذل نفسه بنفسه، وأكل نفسه بنفسه، واستلب ثورته ونكّل بأفكاره.. ستبقى أفكاره في مقالاته وكتبه ومحاضراته ودراساته ومواقفه تنير الطريق الطويل. في أكتوبر/ تشرين الأول 2007، أُقيم احتفال كبير في جامعة جورج تاون في واشنطن بالولايات المتحدة ، لمناسبة إعلان إنشاء كرسي باسم (كرسي كلوفيس وصالة مقصود) للدراسات العربية. ستبقى ذكراه حيةً في القلوب والعقول.. سيبقى اسم كلوفيس نقطة وضيئةً مضيئةً في تاريخنا العربي الحديث

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع