قراءات في تذبذب أسعار النفط

                                

                       د. رمزي سلمان


نشر مؤخرآ عدد كبير من الدراسات والتنبؤات الخاصة بأسعار النفط التي انخفضت الى مستويات مؤلمة لكل المنتجين.

استعرضت معظم الدراسات مستويات الأسعار منذ سبعينيات القرن الماضي ولتاريخه. ولاعتقاد البعض بان الأسعار قد وصلت الى الحدود الدنيا الممكنة فارتفاعهافي المستقبل القريب اصبح امرآ حتميآ وعليه فلا مجال للخطأ في التنبوء بارتفاع الأسعار.
من المؤسف جدآ ان يكتفي الباحثين ومقدمي الدراسات بتبرير انهيار الأسعار بزيادة العرض على الطلب وكأن النفط الخام سلعة اعتيادية كالأرز والبن والسكر وغيرها من التي يتأثر توفرها وبالتالي اسعارها بعوامل طبيعية كالأمطار والجفاف ودرجات الحرارة.
الاستعراض بعمق لتاريخ الصناعة النفطية لابد من ان يكشف لنا العديد من المؤشرات لما يؤثر في او يحدد مستويات أسعار النفط - السلعة الأستراتيجية ذات الصلات الوثيقة بالسياسة والاقتصاد والسيادة والتغيرات في أسعار العملات وغيرها وما العرض والطلب الا الفقرات المنظورة وجزء من المحصلة الناتجة من تفاعلات هذه العوامل مع بعضها.
إذن لابد من تحليل الأمور بإمعان بهدف استنتاج الدروس وتشخيص اخطائنا وهفواتنا في السابق لتجنب تكرارها لان التأريخ- كالمدرس- يعيد نفسه لمن لا يتعلم.
ما حدث لاسعار النفط وأسواقه منذ مطلع هذا القرن هو اعادة لما حدث في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ولكن برداء جديد واهداف مختلفة.
لنستعرض اولآ ما حصل بعد تأميم شركة نفط العراق في ١٩٧٢ واحداث ١٩٧٣ وحجب النفط العربي عن بعض الدول.
تم تأسيس منظمة الطاقة الدولية، كند للاوبك، وباشرت الدول الصناعية الأعضاء بشراء النفط الخام لغرض بناء الخزين الاستراتيجي، الامر الذي قرأته الاوبك خطأً كزيادة في الاستهلاك
وليس كزيادة مؤقتة في الطلب. عندها ارتفعت الأسعار لتؤمن الهدف الاستراتيجي لتطوير انتاج للنفط الخام خارج دول الاوبك ليقلل من الاعتماد على نفوط دول المنظمة.
ارتفعت الأسعار بسرعة الى مستويات غير مسبوقة وتم تطوير انتاج النفط الخام من حقول في بحر الشمال وألاسكا ومناطق بحرية عميقة وغيرها ذات الكلف العالية والتي لم يكن تطويرها ممكناً عندما كانت الأسعار بين ١،٥ و ٢،٥ دولار للبرميل في مطلع السبعينيات .
وما ان اكتمل تجميع الخزين الاستراتيجي بالمستويات المستهدفة، توقف الشراء لغرض الخزين وتزامن ذلك مع زيادة الانتاج من حقول بحر الشمال وألاسكا وغيرها بما فيها الحقول القديمة التي أعيد تأهيلها للإنتاج بعد ارتفاع الأسعار الى مستويات مجدية اقتصادياً، عندها بدأت أسواق النفط تعاني من فائض متزايد مسبباً ضغطاً شديداًعلى الأسعار الامر الذي اجبر دول منظمة الاوبك اعتماد نظام للحصص الإنتاجية بهدف خفض الانتاج للمحافظة على الأسعار بمستويات مقبولة. وبالرغم من تخفيض الانتاج الكلي لدول الاوبك من اكثر من ٣١ مليون برميل في اليوم الى ١٣ مليون انهارت الأسعار من حوالي ٤٠ دولار للبرميل في ١٩٨٠ الى اقل من ٧ دولار في ١٩٨٥-١٩٨٦.
انهيار الأسعار سبب خسارات كبيرة لكافة المنتجين بمن فيهم منتجي النفط من بحر الشمال وألاسكا والولايات المتحدة الامريكية وأعلن عن افلاس عدد من المصارف والممولين في تكساس .
عندها قام نائب الرئيس الامريكي جورج بوش الأب بزيارة خاطفة الى المملكة العربية السعودية مطالباً تخليها عن ما سمي في حينه بمعركة  "حصة السوق"التي كان يقودها في الاوبك الشيخ  احمد زكي يماني كما وطلب اعتماد سعراً لا يقل عن ١٨ دولار للبرميل.
تم تبديل الوزير السعودي وانهاء معركة حصة السوق واعتماد ١٨ دولار للبرميل كسعر مستهدف لسلة من النفوط . بعدها بقيت سلة نفوط الاوبك ولتاريخه المؤشر السعري المعتمد للاوبك والذي يعكس ، بقدر تعلق الامر بالمنظمة، صحة السوق ومدى تحقق السعر المستهدف خلال فترة تطبيق المنظمة لمبدأ المدى السعري والذي كان اخره  ( قبل انفلات الأمور ) بحد أدنى ٢٢ وأعلى ٢٨ دولار للبرميل. عندها وللحفاظ على السعر ضمن المدى المقرر يزاد الانتاج عند تجاوز السعر في الاسواق الحد الأعلى للمدى السعري المقرر ويخفض الانتاج عندما يكون السعر دون الحد الأدنى.
ما تحقق من زيادة الأسعار في السبعينيات كان تخفيض حصة الاوبك في تجهيزات النفط الخام الى الاسواق العالمية ومشاركة مصادر جديدة للنفط الخام التقليدي.
الحملة الاخيرة لزيادة الأسعار كانت تستهدف زيادة مشاركة المصادر النفطية غير التقليدية والمصادر الطاقوية غير النفطية في إمدادات الطاقة العالمية، مرة اخرى لتقليل نسبة الاعتماد على النفط الخام عموماً وبالأخص دول الاوبك ونفوطها في تجهيزات الطاقة عالمياً.
بعد ان كانت الأسعار المتدنية مطلع القرن الحالي لا تسند الانتاج الاقتصادي حتى للكحول والمصادر غير التقليدية الاخرى للطاقة، شهدنا بعد تجاوز أسعار النفط التقليدي ٥٠ دولار للبرميل حقول نفطية تقليدية عالية التكاليف تطور وكذلك مصادر اخرى للطاقة تزايدت نوعياتها وكميات إنتاجها مع ارتفاع الأسعار والتي تجاوزت المائة دولار وبقيت كذلك لفترة ليست بالقصيرة. شهدنا مساهمات إنتاجية كبيرة من الرمال النفطية وحجر السجيل وحقول النفوط الثقيلة جداًوالحقول البحرية العميقة هذا بالاضافة الى مساهمات الطاقة الشمسية والمائية والرياح والغاز من مناجم الفحم الحجري ومن مصادر عديدة اخرى.
ان الزيادة في الأسعار التي شهدها المسرح النفطي لم تكن مبررة على الإطلاق وقد ذكرت ذلك ونبهت الى مخاطرها في عدد من المؤتمرات وعدد من المقالات التي نشرت فى صحيفة الشرق القطرية وغيرها خلال العقد الماضي وكنت استند في نقاشي للموضوع على ما مررنا به منذ تأسيس منظمة الاوبك سنة ١٩٦٠ وما عانته دول الاوبك في الثمانينات عندما تحولت من دول فائض مالي الى دول مدينة.
اذا ما رجعنا الى اخر مدى سعري اعتمدته الاوبك والذي كان بين ٢٢ و٢٨ او ما معدله ٢٥ دولار للبرميل وهو ما كان مقبولاً لدى المستهلكين ومجدياً للمنتجين وباعتماد المبدأ الذي كانت الاوبك تطبقه لتعديل الأسعار بهدف الحفاظ على القوة الشرائية لقيمة برميل النفط للتعويض عن التضخم المستورد لمشترياتها وكذلك تغير قوة الدولار- عملة تسعير النفط- مقابل العملات الاخرى.
بتطبيق المبدأ على معدل السعر، ٢٥ دولار للبرميل، بتعديله للتضخم وقوة الدولار لتاريخه، يكون السعر بحدود ٤٥دولار للبرميل وكان هذا ما طرحته في ورقة نشرت يوم عقد مؤتمر جدة في حزيران/يونيو ٢٠٠٨ عندما كان السعر في السوق ١٢٠ دولار للبرميل.
كل ما تقدم هو تاريخ والآن وقد انهارت الأسعار حتى الى دون ما يجب ان تكون عليه منطقياً. فما الذي حصل منذ بداية الانهيار الاخير ؟
لكل انتاج نفطي تقليدي او غير تقليدي او مصدر بديل للطاقة، هنالك كلفة للاستثمار والتشغيل ومن الطبيعي ان يكون للعملية ربحية بمستويات متفاوتة ما دام المردود يفوق الكلفة وبعكسه ستكون هناك خسارة.
 كلما انخفض السعر كلما تساقطت المشاريع ذات الكلفة الأعلى. وهكذا ستستمر الأمور مع انخفاض الأسعار. وكما نتابع يومياً، فعدد المشاريع التي تتوقف يتزايد وتبقى تلك قليلة الكلفة او التي تمول من أرباح مشاريع اخرى مربحة ولكن لا بد من الوصول الى مرحلة يتوقف فيها هذا النزيف مع الملاحظة ان العديد من المشاريع التي تتوقف قد يعود للعمل والإنتاج حال ارتفاع الأسعار الى مستويات تفوق كلفها الإنتاجية وتكون بذلك مشابهة للخلايا النائمة التي تعود الى العمل حال توفر الظروف المناسبة وزيادة الطلب. وهناك مشاريع توقفت تماماً ولن تعود الى العمل دون استثمارات كبيرة وهنا قد يكون من المفيد ان نذكر انه حتى بعض الحقول النفطية التقليدية عالية الكلفة أيضاً توقفت بسبب الخسارات المتراكمة وما استمر منها بدعم حكومي ، لأسباب استراتيجية او نقابية للحفاظ على الكوادر الفنية، سيستمر لأجل محدود فقط.
الذي نتوقعه هو استمرار الأسعار في المستويات المتدنية لحين انكماش الفائض في الاسواق نتيجة توقف الانتاج الأعلى كلفةً ولكن لكون حجم الفائض كبير جداً سيستغرق استنزافه بعض الوقت. وعندما تبدأ الأسعار بالارتفاع ستكون العملية بطيئة جداً بسبب عودة  بعض المشاريع المتوقفة حالياً الى الانتاج حال وصول الأسعار الى مستويات تفوق كلفها التشغيلية.
قد يكون من المفيد ان نتذكر ان العديد من المصافي والشركات التجارية التي تمتلك خزين نفطي كبير اشترته بأسعار مرتفعة في السابق اضافت لخزينها نفوطاً رخيصة مما توفر في الاسواق مؤخراً وذلك بهدف تقليل معدل سعر خزينها وحال ارتفاع الأسعار يستهلك فائض الخزين للاستفادة من الفروقات السعرية وهذا سيكون احد العوامل التي قد تطيل فترة ديمومة الأسعار بمستويات متدينة.
ليس من السهل التكهن بالتطورات الممكنة بالنسبة للنفط الخام في الامد القريب وحتى المتوسط

فالوضع السياسي والامني في معظم مناطق تواجد الاحتياطيات النفطية ومراكز الانتاج الكبيرة يعاني من الارباك وعدم الاستقرار كما ان الانخفاض الطبيعي لإنتاجية الحقول القديمة لا يعوض ولا تضاف طاقات إضافية للطلب المتوقع في المستقبل لتوقف الاستثمارات بسبب شحة الإيرادات والعجز المالي الذي تعانيه الدول النفطية.
وعليه سنبقى نتسائل ما ومن سيؤمن الاحتياجات الطاقوية للعدد المتزايد من البشر المتطلع الى مستوى معيشي وخدمات أفضل ؟ نامل ان لا تكون الفئة التي كانت في سبات عميق عندما احتلت عروشهم غزاة سلاحهم حجر من سجيل.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

845 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع