القائمقام أبوعَـزام ! الجزء الأول /١٦

                                                    

تأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر
 أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سابقاً

     
القائمقام أبوعَـزام !
رواية واقعية تنقصها الصـراحة,من الحياة الأجتماعية
في العراق,.. في الحقبة بين سنة 1948- 1958م

   

 

*** أسـتقـَرالدكتور ســرحان في المشتمل , وفي أحد الأيام ذهب مع أبنه" أحمد" ليسجله في
المدرسة الخلدونية, وبالصدفه شاهد السيدة " لهيب "وهي تتكلم مع المدير, وأنتبه الى شياكتها, والى نظارتها السوداء الساترة لعيونها الساحرة,و(لأشارب) بلون بدلتها,مُغطي لشـعرها الأسود وفي الممرالمؤدي الى الأدارة ألتقى سـرحان بها,..فتوقف لبرهة من الزمن,.. وراح يتطلع بها كالأبله من غير كلام,.. وما أن أنتهى من تسجيل أبنه,..حتى غادر المكان مـُسـرعاً,.. فوجدها تقف بالقرب من سيارتها, فأقترب منها, وطفح وجهها بالفرح وقالت له : لماذا لم تخبرني عن تسجيل أبنك في هذه المدرسة؟!,.. فيتلكأ بالكلام قائلاً: لم أرغب أن أسبب لك الأزعاج في مثل هذه الأمور البسيطة,.. فتفرح لجوابه, لأنها بحاجة لصديق يقف بجانبها كي يحميها من الذئاب البشرية,..ويعتذرالدكتورسرحان منها, ويعدها بعدم تكرار ذلك,..فتدعوه ليصعد معها لتوصيله لداره في سيارتها!,..وفي الطريق تنفتح شهيتها للتحاورمع الدكتورسرحان, فتقول:
* هل تعلم يادكتورمدى تعلقي بالمحروس أحمد؟, ومحبتي له لا تقل البته عن محبة "نيران".
* يمطرها الدكتورسرحان بوابل من كلمات الشكروالأمتنان, باللغة الفصحى,.. فتثمن" لهيب " تعبيراته, فقد شعرت بحرارتها, فهي لم تسمع بمثلها ولا بالنبرة الصادقة بصوته!,ثم يشرح لها مشاعر زوجته" نسمة " وتمنياتها باللقاء معها, ويسألها : لا أدري لماذا تصرعلى معرفتها لك, فتجيب : ربك يخلق من الشبه أربعين, وسنلتقي قريباً ويبان المستخبي والمستور! وهكذا يستمر الحديث حتى تصل السيارة الى دار السيدة " لهيب " فيهبط الجميع,..ويتبادلون كلمات التوديع , ويدخل كل منهما داره, والدكتور سـرحان مازال سـرحان بلهيب وجه السيدة " لهيب ",.. فقد ألتهبت مشاعره وحاول أن يعرف ليه؟ , فيأتي الجواب من غير ليه !,.. ومرة أخرى تغمره الغبطة والسرور, ويحاول ان يجد تفسيراً لذلك فلم يتمكن , وراح يعنف ويلوم نـَفـسـَهُ على تخبطه بمشاعر المراهقة الثانية, ووبخ نفسه,فهو لن ولا يمكن أن يحيد عن طريق الصواب,
فما زالت "نسمة" كما هي نسمة الصباح الذي استنشقه في طفولته وهو نائم على السطح أيام الصيف في اطراف الشطرة, فهل يمكن أن تلهب هذه السيدة مشاعره القديمة ويتعلق بها ؟,..
فيضحك بقرارة نفسه ويعترف بأصابته بمرض (حلم اليقظة),حيث تغمره السعادة ويكاد يطير فرحاً فوق الشجرويغني مع فريد الأطرش "ياريتني طير لطيرحواليك!",..ويتسائل : لماذا تكتنفه السعادة كلما ألتقى بهذه المرأة,فهل هذا بداية حب جديد,.. فيضحك على سذاجة تفكيره وأنهياره بالضربة القاضية من أول مرة من سيدة غير معروف ماضيها ,.. فيلوم نفسه على النهج الذي يســير فيه كأعمى بطريق مظلم!
*** يدخل الدكتور بعد أن فاق من حبه الكاذب, فتستقبله " نسمة " بوجه غاضب وعبوس,..
يدل على أستعدادها التام لشن معركة,..حيث ألتقطت عدستها الخفية مشهد التحاور بينه وبين  "لهيب" وهو يودعها,.. ولهيب عينه كادت تحرقها من على بُعد!!,..ومن يدري فلربما رسمت في ذهنها سيناريو كالذي عاشته في المجتمع البريطاني,..وعلى أية حال, تعلن الحرب الباردة بين القطبين, ويجلسان الى مائدة الغداء, وبجنبهما " أحمد ",.. ويبدأ سرحان بملئ صحن أبنه, ويمد يده لصحن زوجته فتمنعه.., وتعلن عدم رغبتها بتناول أي شيئ ,.. فيسألها سرحان عن السبب ؟,..لماذا لا تأكلين؟,..فتنفجر وتسمعه أحدى خطبها الرنانة,..قائلة: كُل أنت, عسى أن تكون لك القدرة على التفكير بالسجينة بلا سجان تتركها كل يوم وتذهب للتمتع بين الطالبات, ولم تكتفي اليوم وجدت تكملة لمغامراتك وتهافتك على النساء الجميلات,ألم تشبع من بنات لندن,..حتى رميت نفسك على أمرأة بائسة لحد الآن لا نعرف من تكون ,ألا تخجل من نفسك؟,
تتركني كل يوم وحيدة بالدار, اقوم بتلبية كل مستلزماتك وأبنك من طبخ وغسل وتنظيف,..فأنا المربية والغسالة والكناســة والخياطة,..ولم تفكر بهذه الجارية بالخروج معاً للتنزه مرة خارج البيت,..واليوم غمرتك السعادة وأنت برفقة السيدة"لهيب",ولا أدري ما الذي أستهواك فيها, فقد سحقتها السنين ورمتها كعجوز قبل الأوان, ونســمتك مازالت كنسمة الصباح,..فلماذا  تبعدها عنك؟,..هذا أنتم صنف الرجال!, لا أمان لكم يا أهل الكوفة,فيستغرب سرحان من ثورة زوجته وأن كانت متوقعة, ألا أنها اليوم شكل ثان,..لقد أججتها الغيرة والله الساتر!,..وأمتنع عن تناول الطعام وغادرالمائدة غاضباً, متفادياً السجال مع " نسمة " حيث صارت درجة تفجرغيرتها من السيدة " لهيب " أكثر من سبعة درجات وفق(مقباس ريختر)!
*** أنتهزالدكتورسرحان توترعلائقه مع زوجته "نسمة" وقررالذهاب الى عيادة صديقه دايخ , وفق الأتفاق السابق عندما ألتقى ببعضهما صدفة بعد غياب طويل,..ألا أن المعين (أبو جاسم), المشرف على العيادة يخبره بتأخرالدكتوردايخ هذا اليوم, ويطلب منه أخذ مقعد له لحين عودة الدكتور, فيجلس الدكتورسرحان بالقرب من مكتب دايخ, وراح يستمع الى ثرثرة المعين,..وهو ينظف الأجهزة وينظرعدة مرات لساعته قائلاً: لماذا تأخر الدكتوردايخ, لحد الآن؟, ولمَ تأخرت الممرضة ليلى؟!, فهذا ليس من عادتها,..فيسأله سـرحان : وهل هو يتأخر دائماً؟, فينفي المعين ذلك,..قائلاً: أن مواعيده مضبوطة, ولكن منذ دخول الممرضة ليلى في حياته,.. بدأت متغيرات عديدة بتصرفات الدكتور دايخ , فجل أهتمامه التودد للممرضة, وتقديم الزهورلها يومياً,.. وفي مرات عديدة كان يصطحبها للغداء معه في أرقى مطاعم بغداد!, ثم يستـَرســل المعين بكلامه مبدياً الحزن قائلاً: ربما الدكتوردايخ لا يعرف أي شيئ عن خلفيات هذه الممرضة, ولا يعلم ماضيها , ويقع في حبها!!,فيسأله سرحان: ما بها؟, فيرد المعين قائلاً: أنها فشلت بزواجها من الأستاذ يـسـر, فيرد عليه سرحان: ولماذا لا تخبره؟
*  أنه يرفض سماع أي كلام عنها, وهي تتحكم به وينفذ لها كل رغباته, ويناديها (آنسه ليلى),
ولم يدري أنها مطلقة!,..وتخطط لكي يتزوجها,..ولا أدري كيف أفاتحه وأبعدها عنه؟!, فيذهل سرحان مما سمعه, وأيقن أن المرأة تهدف لتحقيق هدفها, ولكن لا بـُدَ من التأكد من ذلك قبل مفاتحة الدكتور دايخ,..فليس من المعقول أن ينخدع زميله بهذه الممرضة وهو بهذا العمر والخبرة بالنساء منذ أيام الدراسة, فهل يستسلم لممرضة تعمل بمعيته بهذه السهولة أن لم تكن لها مزايا جعلت الدكتوردايخ,..دايخ بأتخاذ القرار,ولذا ضمر في صدره الموضوع لحين آخر.
***حَـل يوم الموعد لأستقبال السيدة "لهيب" لجيرانها,..فتدب فيها الحيوية, وتستعد بأعداد برنامج لامثيل له لأستقبال جيرانها من أهالي الشطرة التي طبعت في ذاكرتها مواقفاً لن يميحها الزمن, فتقف أما المرآة تتطلع الى جسـدها وقوامها الملفت للنظر, وفجأة تدخل المعينة (نبعه), حاملة البدلة التي سترتديها هذه الليلة,.. وهي في نشوة وتردد مقطعا من أغنية(هذه ليلتي)!
 ** يـُسـمع رنين جرس الدار,فتسلم المعينة البدلة لعمتها وتامرها بفتح الباب, وأستقبال الزوار
بكل حفاوة, وأدخالهم الى صالون الضيوف, وتقديم الحلوى , فتهرع نبعة لفتح الباب الخارجي لأستقبال الضيوف,ألا أن والد نبعة الذي يعمل كفلاح في الحديقة, يفتح الباب للطارق,..فيجد
أمامه رجلاً وقوراً وبصحبته سيدة أنيقة, فيرحب بهم , ولم يكن الفلاح أوأبنته على معرفة بالجيران,..ولذا صدحت نبعة بصوت جهوري قائلة: أهلا بالدكتور وبأم أحمد, تفضلا:
أهلاً وسهلاً!,وقادتهما الى غرفة الصالون وهي مرحة وفرحة بتطبيق أوامرعمتها " لهيب ", وتوجهت لعمتها لتخبرها بتنفيذ ما طلبت منها, وهي لا تدري أن ما قامت به سيسبب لها كارثة وينيلها بستين نيلة !,.. كما في اللهجة المصرية!
 **  دخل الضيفان وهما بأستغراب مما سمعا؟,..وقال أبوعزام لزوجته : أتوقع أنهم بأنتظار ضيوف غيرنا.. فتهزأ أم عزام بأستنتاجه, ويقول لها : ألم تسمعي المعينة وهي ترحب بنا قائلة أهلاً بالدكتور وأهلا بأم أحمد!,..ولكن أم عزام تأمره بألتزام الصمت حتى تأتي السيدة "لهيب", وهكذا  تمر الثواني على السيدة " لهيب " وكأنها جمرات في دمها, وحـدَ ســت بوقوع ما ليـس بالحسبان, أنها لم تسمع صوت الضيوف؟, فأهل الشطرة مميزون بالكلام الصاخب حتى عندما يتحدثون فيما بينهمفي غرفة صغيرة!, وراحت تتسائل عن هذا الصمت,الى أن وصلت المعينة نبعة, وســألتها عن سبب تأخرها؟, وما الذي قدمته لهم؟, وهل أخذت "أحمد" لغرفة "نيران" ؟,
 فتستغرب المعينة من أسألة عمتها,ثم تنفي وجود طفل معهم ,.. فتصاب " لهيب " بالدوار",.. وتمسك بالمعينة من كتفها طالبة منها شرح صفات الضيوف, فقالت : رجل كبير السـن وضخم مع أمرأة عجوز,.. وليس معهما طفل!,..فلطمت " لهيب " على جبينها,.. ووبخت المعينة على فعلتها,..وقالت لها : صَخم الله وجهك يا نبعة, دخلتي ببيتي مصيبة كنت خائفه منها, وحدسـت هوية الزوار, أنه أبو عزام وحرمه المصون, فما العمل؟, وأحست بهول ما سيحدث,..وسـلمت أمرها الى الله,.. وهبطت الى الصالون لتقابل الضيوف!
* يـُسمع ثانية رنين جرس الباب في تمام الساعة السابعة,..فتهرول نبعة لفتح الباب, وعرفت بذكائها الفطري من هم الزوار,عندما لاحظت بمعيتهم طفل من عمر" نيران ",.. فترحب بهم  و تردد : أهلا بالدكتور,..وأهلاً بعمتي أم أحمد, وقادتهم الى الصالون ويفاجئ الدكتورسرحان بوجود معالي وزير المعارف, فقد عرفه من الصورالتي تنشر لمعاليه في الصحف كل يوم,..
ويتبادل معه التحية بكل أحترام,ويعرفه بنفسه قائلاً:أنني الدكترسرحان وهذه زوجتي أم أحمد, وفي تلك اللحظة تدخل السيدة " لهيب" وهي بكامل أناقتها كسيدة من عـُلية العائلات البغدادية, فيرحب بها الجميع,..ألا أنها كادت أن تنهار وتسقط أرضاً من هول الصدمة لرؤيتها للوحــش الذي عاشت بكنفه سنوات من الشقاء,..غـير أنها قررت التحدي, وتماسكت بكل ما أوتيت من قوة ورباطة جأش وقالت للضيوف : أهلاً وسهلاً شرفتموني!, فأجابها معالي الوزير: بداية أعتذر يا سـيدة أم " نيران " لزيارتنا من دون موعد,..فقد حاولت الأتصال بكم ولم أوفق!,..
ولا أدري ما السبب, وأقترحت أم عزام أن تأتي بنفسها لترحب بك,.. بعد علمها بغياب زوجك
عن البيت خارج العراق!, ..فتنظر له السيدة " لهيب " بأزدراء ووجه عبوس,.. ولا يبدي أية ردة فعل, ويبتسم لها وتديروجهها نحوالدكتورسـرحان وزوجته مرحبة بهما بعبارات لا مثيل لها,..وتتقمص الفرح والسعادة وتأخذ " نسـمه " بالأحضان وتجلس بجنبها, فيضطرالآخرون الجلوس, وقد تلقى الوزيرأهانة لا مثيل لها, وشعرت زوجته بذلك وطالبته بمغادرة البيت على الفور, ولكنه لم يطاوعها, وراح يتمعن بوجه الدكتورسـرحان صـامتاً , ودخلت أم عزام على  الخط لتكسر ذلك الحاجز, وقالت : منذ أن شاهد معالي الوزير الطفلة " نيران " في الروضة, وهو يتذكرها ويطالبني بتقديم هدية لها,ولم تعير"لهيب" لمحاورة أم عزام وزوجها أي أهتمام,
وفي الحال تهمس "نسمة" بأذن زوجها قائلة :الجو تكهرب, وهذا الرجل أجج النيران بأحشائي, وصورته ليست غريبة عني, فيمنعها من التكهن وتأليف قصص من الخيال تنقصها الصراحة!
ويستشعرالوزيربالسهام الموجه لمعاليه,.. فيبتسم للمتحاورين, محاولا كسـرطوق الوجوم الذي خيم على الجميع , وكرر سرحان ترحابه : أهلاً, بمعالي الوزير!,فينتعـش الوزير ويسأله:
* متى عدتم لأرض الوطن,..وأين تعمل الآن؟!, فيجيبه سرحان بكل أدب وحشمة:
* منذ شهرين,وعينت في دارالمعلمين العالية, قسم اللغة العربية تخصص أدب مقارن,..فيثني معالي الوزيرعلى هذا النوع من التخصص,..ويبين أهميته لبلدنا لنقل أدب الدول التي فاقتنا بالحضارة , وخاصة في التعليم الجامعي , بعدما كنا نحن الطليعة في كل أرجاء العالم , ثم يستمر الحديث حول تنوع الحضارة الأوربية, وضرورة الأخذ بالمفيد منها وترك ما يخالف تعاليم ديننا الحنيف,..فالعديد من الذين عادوا بهرتهم الحياة المدنية وأندفعوا يقلدونها ونسوا عاداتنا وتقاليدنا مبتهرين بعادات الغرب الغريبة عن مجتمعاتنا,..وصار كل من يعارضها متخلف ورجعي!,..وعلى أية حال كان معالي الوزير يستمع لثرثرة سرحان وأذنه وعينه تلتقط كل ما تتفوه به السيدة " لهيب ",وصمت فليلا وحاول أن يلفت له الأنظار , فأنصب بالمديح لما سمعه من الآراء التي طرحها الدكتور سرحان,..وفال له: أنك يا دكتور مفخرة للوطن,.. وأنني أمد يدي لكم لتذليل أية صعوبة قد تواجهكم,..فقد أسعدتني وأعدت الثقة لي بوجود شباب مثلكم!
* تصيب سرحان النشوة من هذا الأطراء ويعقب على منطق معاليه بقوله:عفواً معالي الوزير,  الوطن بحاجة الى شباب مخلص بعيد عن الأنانية ولا يسايركل حاكم أو مسؤل بالباطل مهما كان السبب, ويتجه للعمل المثمر,..فالبلد الذي درست به بدأت حضارته من الصفر,فالشعب لم تكن له حضارة قديمة,ألا أنه صنع حضارة جديدة, ليس بالكلام والدعاية الجوفاء,.. أو بوضع لافتات وتصاويرعن مشاريع وهمية ترصد لها ملايين الدنانيرولا ترى النور البته!
*** كم من طريق ترصد له الملايين لتعبيده, في عهد وزير معين, وتسقط الوزارة والطريق كما هو أو يكون أسوء, وما من أحد يجرأ حتى على التلميح لوجود مثل هذا الفساد, فيتهم بتهم لا تخفى على معاليكم مثل شيوعي أو قومي متطرف أو من الأخوان المسلمين أو حزب الدعوة أو شعوبي,.. وغيرها من التسميات التي لا حصر لها,..ويضيع الأستاذ الوافد, أو يبقى سـائراً بطريق مُظلم الى ما شاء الله, ثم تأتي فئة لترمي كل تخلفنا على سابقتها, وهكذا تتكررالقصة, ويضع الخيط والعصفور!
 * يعتذرالدكتور سرحان لسرده المطول,وينزوي الوزير وسرحان بأحد أركان الغرفة, ويثني   على كلامه, وأنه حمل نفس المبادئ أيام شبابه عندما كان طالباً في كلية الحقوق,وأيام أشتغاله بالمحاماة,..ولكن للأسف لم أجد السـند لأفكاري, فجرفني التيار المادي وسلكت الطريق السهل, وسايرت التيارات المعادية لكل فكر تقدمي,..فقد شارفت على الموت من العزلة والفقروكم من يوم أنام وأنا أتذور جوعاً, فلم أجد أحداً مما كنا نهتف خلفهم بسقوط الأستعمار, مهتم بوضعي وعلى العكس وجدت الكثير منهم صعد سلم المجد بسرعة قياسية, جعلتني أعيد التفكير بالنهج السائر فيه, وتغيرت ظاهرياً يوم أرتبطت بزوجتي من السلالة التركية المتنفذة وصارت كل أفكاري مستحسنة حتى لو كان ظاهرها مناوء الى الدول الأستعمارية,..وهكذا تمكنت كغيري من المتلونين الوصول لأعلى مرتبة في الدولة,..وصرت مكروهاً من عامة الناس ومن الشباب  القومي والتقدمي,أنا اليوم شخص بأحضان زوجة,لا تربطني بها رابطة عاطفية! فأنا وأياها كضفتي نهرفي كل صغيرة وكبيرة,.. فقد عشقت صبية في شبابي وتركتها يوم أن أخترقت صومعتي هذه (السـعلوه) التي تراها, وها أنا زاهد بكل المكتسبات التي نلتها, لو أن من تعلقت بها سابقاً ترجع لي, وهذا من رابع المستحيلات, لأنني سببت لها كدراً لا يحتمله نبي الله أيوب (ع),  وها أنا أحاول أن أخرج من الطريق المظلم الذي لم أجيد السيرفيه,... وضاع كل شيئ! ** يخلد أبو عزام للصمت, ويتأثر الدكتوربأسى ودموع التمساح لهذا الثعلب, فقد أنطلت عليه شخصيته وحقيقته, وراح يطلب من الوزير أن(يفطفط) كل ما في صدره, وهواذن صاغية له, فيهدأ أبو عزام ويستطرد بالقول: كنت يادكتورأتضور جوعاً,.. ووصل الأمرالى عدم مقدرتي دفع أجور مكتب المحاماة!, فجرفني التيار الموالي للدولة, ولم أستطع مقاومتة,.. وأبتعدت عن تلك المثل التي حدثتني عنها , والتي كنت مشبعاً بها, والمغروسة في ذهني منذ أن كنت طالباً في الأبتدائية, ومن المطالعة لكتب خارجية, ومع الأسف أن من بقى متمسكاً بتلك المبادئ جرفه تيار البؤس والقهر ولا من مجيب أو معين,.. ومن من سحق بالضربة القاضية ومنهم من بقى يقاوم فسحق ونسته الجماهير التي ثار من أجلها !, ولقد تعثرت في البداية ودخلت الطبقة الأجتماعية الجديدة, حتى وصلت الى ما أنا عليه الآن!
* يستوعب الدكتور سرحان ما قاله الوزير وهو عذر كل من يترك النضال ويكون تابعاً لقوى الشَـر, وما أن يمتصون منه كل ما في جعبته,.. يرمونه رمية الكلاب, وينطبق عليه المثل:(لا حظت برجيله ولا أتزوجت سيد علي), ووقع في وحل هذا المستنقع آلاف الشباب,فالمشكلة يا معالي الوزير تكمن في أختيارالطريق, فالقطارلا يفتح أبوابه لمن لا يجيد الصعود أليه!
* يفيق الوزير من غفوته,لأنه كان يتابع تحركات السيدة" لهيب " وهو غيرمطمأن لهدوءها, فقد يكون هذا الهدوء هو الذي يسبق العاصفة,..ويقول: طبعاً,..طبعاً,..أهم شيئ هو الأخلاص بالعمل وعدم النظر للمكاسب المادية,..لقد دخلنا في موضوع ليس له نهاية, ثم يسأل المعينة :
أين المحروسة نيران؟,..فتجيبه: أنها في غرفتها تلعب مع أحمد بن الدكتورسرحان,.. فيطلب رؤيتها, لأنه في شوق لها!,.. فيسأله سرحان : هل هذا نابع من حبكم للأطفال,أم أنه أعجاب خاص بنيران؟,..فيتشنج الوزير وتغص الكلمات بفمه, ويطأطأ رأسه, وتنهمر دموع عينه,.. ويخرج منديله لتجفيفها ويعتذرمن الدكتورسرحان لأنفعاله وتعلقه بالأطفال, لأنه فقد أبنه البكر عزام وهومازال في المهد صغير!,..ويصادف مرور السيدة " لهيب " أمامه, فينظرلها نظرة تنم عن أنهياره التام ,.. مستجدياً رحمتها, فمشكلته حلها بيدها, وقد فقد القدرة على الصمود!, ويقول بصوت عال ليسمع صوته للسيدة " لهيب " , والله منذ أن رأيتها في الروضة وهي لم تـَغيب عن عيوني وخاطري,..فصورتها قد هيجت كل مشاعري المطمورة,.. فتهب أم عزام بعد رؤيتها أنفعال زوجها وتثني على مشاعرها وتقول : منذ فقداننا لطفلنا الرضيع , ومعاليه شغوف بحب الأطفال , وقد حرمنا من طفل آخر بسبب رفع الرحم مني,.. وكم كان بوده أن يتبنى طفلة  فقدت والدها وهي في بطن أمها " صبرية " التي كانت تخدم معاليه عندما كان قائمقام قضاء الشطرة, قبل أربعة سنوات وفتشنا عنها, ولم نعثرعلى أي أثرلها !
**  أستمعت السيدة " لهيب" لأفتراء معالي الوزير, وصمتت, الى أن أستكمل مسرحيتة,.. ثم دخلت على الخط قائلة : ولماذا رغبتم بتبني طفلة الخادمة " صبرية " بالذات دون غيرها من أطفال العديد من العوائل الفقيرة المحتاجة لمن يعينها في تربية أطفالها؟!,.. فيتلقف الصفعة,.. ويجيبها: كما في الأمثال (الشـَين أللي تعـرفه أحسـَن من الزين أللي ماتعرفه!), فتخزره بحقارة  وتسأله فيما أذا كانت له صلة بعائلتها ,فينفي ذلك,..فتستغرب السيدة لهيب لتلكأه في الجواب,.. ولم يستطع ان يبوح بالحقيقة,.. ويتكهرب الجو,..ثم يَعم الهدوء عندما تدخل المعينة نبعة طالبة من الجميع التفضل الى غرفة الطعام , فتحرج السيدة " لهيب " وتتوقف عن الكلام المباح,..ثم تهيمن على مشاعرها, وتصطنع أبتسامتها, وتؤشرللضيوف قائلة : تفضلوا العشاء جاهز!,... فيعتذرالوزير, ويطلب الأذن بالأنصراف, قائلاً: لأن حضورنا بلا موعد قد يكدر ضيوفك!,..
فتجيبه " لهيب " قائلة: العشاء جاهز ومن الضروري (توجيب الزاد!),ألا أذا كنت لا تأكل ألا من يد أم عزام !,.. فترد عليها بغباء المرأة الشمطاء : بالعكس طبخي لا يعجبه,.. وكان دائماً يمدح طبخ خدامته " صبرية ", فتتلقف " لهيب " هذه الهفوة من أم عزام وتسال: ولماذا طردتم تلك الخادمة المسكينة من منزلكم أذا كان معاليه يستسيغ طبخها ويفضله على طبخك ؟!,...هل كانت قبيحة, أم كبيرة في السـن؟,..فتضحك أم عزام,..من المستحيل زوجي يسمح لشغالة في بيته ان لم تكن وسيمة,..ولو أني لم أرى " صبرية ",فأنا واثقة بأنها في غاية الجمال!,.. فلو لم تكن جميلة لما دوخ رأسي بمساعدته بالبحث عنها,..فيعقب على قولها : أنني أرغب بمعينه لها ألمام بما  يدور بالبلد وتجيد القراءة والكتابة, فالجمال يزول بمرور الزمن, فتتعود عليه العين ويخفت شعاعه!, وقد قيل: صورة أجمل امرأة يمكن أزالتها بوضع صورة أخرى فوقها !,..  فقالت السيدة " لهيب " : هذا يعني أن معاليكم قد وضع عليها صورة حرمكم المصون الوسيمة أم عزام , فأزالت كل رغبة عندكم لرؤية خادمتكم " صبرية " ثانية؟,..فبلع أبو عزام الطـُعم,..   وراح يوتت باحثاً عن جواب يستربه ما قد ينجم من كشف حقيقة زواجه من صبرية وهروبه منها يوم أن طُرد من الشطرة  لتحرشه بـ" نسمة " أبنة بائعة الكيمر, فيجيب بأقتضاب :
* وحتى لو وجدتها,..فأنني على ثقة من أنها ستزدرني ولن تقبل بالعمل عندنا البته!,فلقد أذنبتُ بحقها ومن المستحيل أن تغفر لي أبداً, وهكذا بطشت "لهيب" بالثعلب وبينت له خسـته المعشعة
في ذهنيته, فأشفقت على ضيوفها من الأنهيار,أذا ما أتضحت الحقيقة, فهما(كالأطرش بالزفة), لم يستوعبا المسرحية, ولم يتمكنان من المشاركة في الحوار,وهكذا تمكنت "لهيب " من تحويل مجرى الحديث,..وتعتذر من ضيوفها وتطلب منهم أبداء المساعدة لحث معالي الوزير وحرمه بمشاركتنا العشاء,..فالوليمة جاهزة , فهل هذا جائز في عرفكم؟,..وهنا يعقب الدكتور سرحان على ما تفضلت به صاحبة الدار, ويترجى معالي الوزيربالمشاركة! ,.. وذكره بقول الشاعر بن زريق البغدادي عندما تحاملت عليه خطيبته وهو في بلاد المغرب يصارع المرض وكتب:
وأستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عنفه = فهو مـُضنى القلب موجعه
*** نظرت " لهيب " صوب الدكتورسرحان معبرة له عن أمتنانها بتفهم مشاعرها وحدسه بوجود شيئ ما يربط مابين " لهيب " و" صبرية " ولم يتمكن من حل اللغز, وخاف ان تتعقد الأمور, ويتم الأتفاق بتناول العشاء,
 ويتبع في الحلقة /17 مع محبتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/20531-2015-12-06-22-27-45.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

628 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع