هل من سقف للخشونة والابتذال السياسيين؟

                                              

                           د. منار الشوربجي

الأسبوع الماضي، كان في تقديري عنوانه، الخشونة والابتذال! فالأخبار كانت حافلة بتصريحات فظة، فيها من العنف اللفظي، بقدر ما هي مخيفة. خذ مثلاً، تصريح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي وصف فيه زعيم حزب العمال الجديد جيرمي كوربن، بأنه «كاره لبريطانيا».

والحقيقة أن مثل ذلك التصريح، يبدو أقرب للمكارثية منه إلى لغة التنافس السياسي المشروع. فجوزيف ماكارثي، السناتور الأميركي، الذي قاد حملة شعواء في الخمسينيات ضد من أسماهم «أعداء الداخل»، كان يستعمل تعبير «غير الأميركي»، لوصف أولئك الذين اتهمهم زوراً بالشيوعية، وهي الحملة التي لاحقت الكثيرين وشردتهم وطردتهم من وظائفهم في الجامعات والوزارات المهمة، ومنها وزارة الخارجية.

وكانت المكارثية مسؤولة بدرجة كبيرة عن الهزيمة المدوية في فيتنام بعد ذلك بسنوات، لأن وزارة الخارجية حين بدأت الحرب، كان قد تم «تطهيرها» من أصحاب الخبرة في الشؤون الآسيوية. فهؤلاء اعتُبروا شيوعيين، لأنهم حذروا مبكراً من أن الصين والاتحاد السوفييتي، ليسا الشيء نفسه، بل وأن ذلك الوقت كان يشهد صدعاً في العلاقة بينهما. ولأنهم قالوا أيضاً إن حركة الفييت كونج في فيتنام الشمالية، وقتها، حركة تحرر وطني أكثر منها حركة شيوعية.

وعلى الساحل الآخر للمحيط الأطلنطي، كان الابتذال هو العنوان الرئيس أيضاً. فقد بدأ الأسبوع بقصف أميركي لمستشفى تابع لجمعية «أطباء بلا حدود» في كوندوز بأفغانستان، أدى لمقتل 22 شخصاً وجرح عشرات آخرين، فجاء التصريح الأميركي الرسمي الأول، ليعتبر ما جرى «ضرراً مصاحباً». وهو تعبير مبتذل وبالغ القساوة في ذاته، لأنه يستخدم عادة في حالة قتل المدنيين وسط قصف أهداف أخرى.

لكن حين يستخدم ذلك التعبير بخصوص موقع تم قصفه، كما اتضح لاحقاً، لمدة ثلاثين دقيقة كاملة، يصبح التعبير فضيحة، لأنه ليس «ضرراً» وإنما خراب ولا«مصاحباً»، إذ الواضح أنه كان عمدياً. وقد ظلت الولايات المتحدة تناور أياماً كاملة، وتغير تبريرها لما جرى على مدار الساعة، حتى اضطر أوباما للاعتذار بنفسه عن قصف المستشفى، دون دخول في التفاصيل.

وقد تزامنت تصريحات «الضرر المصاحب»، إياها، مع تصريحات لمرشح الرئاسة الأميركية جيب بوش، لا يقل في استهانته بالأرواح عما جاء في التصريحات الرسمية الأميركية بخصوص المستشفى. فقد كانت الولايات المتحدة قد شهدت واحدة من حوادث القتل الجماعي البشعة التي تشهدها المدارس والجامعات بين الحين والآخر.

ففي ولاية أوريجون، وقف شاب في فصله الدراسي، حاملاً بندقيته، وأطلق النار على زملائه ومدرسه، فقتل تسعة وأصاب مثلهم، قبل أن يقتل نفسه أو تقتله الشرطة.

وقد اتضح أن الشاب كان في جعبته داخل الكلية ستة أسلحة أخرى. ولا تسألني، عزيزي القارئ، بالمناسبة، لماذا امتنع الإعلام الأميركي على إطلاق وصف الإرهابي على الشاب الذي قتل وجرح العشرات! المهم، سأل أحد الصحافيين، جيب بوش عما إذا كان ما جرى يستلزم اتخاذ سياسات مختلفة، فرد بالنفي، قبل أن يقول إن «أموراً تحدث»، وكأن ما جرى أمر قدري. وتعبير «أمور تحدث» هذا ليس جديداً على مسامعي. فهو التعبير الذي استخدمه وزير الدفاع الأميركي وقت غزو العراق، دونالد رامسفيلد، حين سئل في مؤتمر صحافي عن نهب كنوز المتحف العراقي وغيره من المواقع بعد الغزو مباشرة، وكأن الأمر كان قدرياً، بما يعفي سلطة الاحتلال من المسؤولية؟.

لكن الاستهانة بالأرواح حين تأتي من طبيب جراح، مهنته في جوهرها رحمة بالعباد، وعملاً من أجل الحفاظ على أرواحهم، تصبح الخشونة والابتذال كلمتين غير مناسبتين لوصف كلام الطبيب. فمرشح الرئاسة الجمهوري بن كارسن، جراح الأعصاب الشهير، علق على حادث أوريجون نفسه وما تلاه من مطالب، بوضع سياسات جديدة تنظم عملية الحصول على السلاح في المجتمع الأميركي، بقوله «لم أر أبداً جسداً به ثقوب بفعل اختراق الرصاص، أكثر تدميراً للنفس من حرماننا من حقنا في تسليح أنفسنا» (يقصد طبعاً تسليح المواطنين الأميركيين كأفراد، لا الحكومة الأميركية).

والحقيقة أنني لا أعرف ما إذا كانت اللغات الحية بها من الكلمات ما يمكنه أن يصف مثل ذلك التصريح. فالمقارنة التي عقدها الطبيب، عصية على الفهم. إذ ما هي تلك الحالة بالضبط التي يمكن أن يكون عليها الإنسان، بصفته إنساناً، ناهيك عن كونه طبيباً، التي يمكنه فيها أن يختار صورة جسد مخضب بالضرورة بالدماء، حيث تملأه الجراح التي تصل إلى حد الثقوب بفعل طلق ناري، من أجل عقد مقارنة، تكون نتيجتها أن تلك الصورة البشعة لذلك الجسد المسكين، أفضل من شيء آخر، أياً كان ذلك الشيء، بالمناسبة؟!

وفى كل مرة صدرت مثل تلك التصريحات البائسة طوال الأسبوع الماضي، كانت تصدر في معرض تنافس سياسي، أو في حالة مستشفى أفغانستان، في معرض توفير الغطاء السياسي لعمل عسكري. لكن أي سياسة تلك التي تتخطى حدود الإنساني، لتصل لحد الخشونة والابتذال أحياناً، ثم تتخطاه لتصل إلى حد غير آدمي أصلاً في أحيان أخرى؟!

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

786 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع