صورة الإسلام على الأرض كما يعرضها المسلمون وقفات مع سلوك المسلمين في مناسكهم

                                                  

                              د محمد عياش الكبيسي
 
يعرض المسلمون هنا بعفوية بالغة كثيرا مما تعلّموه عن دينهم، ونتائج تربيتهم، وطبيعة المجتمعات التي جاءوا منها، وللمثال على ذلك أنك إذا رأيت مجموعة مهتمّة بنظافتها وهندامها ومنظّمة في أدائها مع ضبط في الحركة وخفض في الصوت وبعد عن الزحمة وإيذاء الآخرين قلت إنّهم من تركيا أو ماليزيا، وهناك من يقرب من هؤلاء ومن يبعد، فالتفاوت في هذا ظاهر، وهو مؤشّر على مستوى الوعي ومستوى الإعداد النفسي والتربوي في تلك المجتمعات.

يجمع هؤلاء جميعا فطرة دينيّة أصيلة ورغبة شديدة في التعبّد، وصبر لا مثيل له على أداء الشعائر والقربات، فالمطاف لا يهدأ أبدا، والمنافسة على أشدّها دائما للصلاة في الصفوف الأماميّة أو في الروضة النبوية مع ما في ذلك من تحمّل للانتظار والسهر والجلوس الطويل، وهي ظاهرة إيجابية ينبغي البناء عليها، وفي تقديري أن الحماس لأداء هذه العبادات لم يختلف حتى عن عصر السلف الصالح، فما قرأناه عن سلفنا من مصابرة ومطاولة في التعبّد و قيام الليل والرقة والخشوع والدموع نراه هنا من أبسط الناس، بل عندنا من لم يكتف بما ورد فراح يزيد من نفسه بدعا وإضافات ثقيلة ومرهقة، وهذه مع ما فيها من جوانب سلبية في الميزان العلمي والشرعي لكنها تعبّر في الوقت ذاته عن رغبة شديدة في التديّن وتقديم أقصى ما في الوسع والطاقة.

في مقابل هذا تجد أن هذا الصبر وهذه القدرة على التحمل تتلاشى عند الكثيرين حينما يتعلّق الأمر بالتعامل مع الناس! وقد اختصر هذا أحد الشباب ونحن خارجون بعد صلاة العصر من الحرم المكي بقوله: عجيب أمر هذه الأمة، كلّهم يعبدون الله، وكلّهم لا يتحمّلون بعضهم بعضا!

إن التعبّد قيمة عليا في الإسلام، بيد أن الله الذي أمرنا بهذا التعبّد قال: (وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه) ومحبة المسلمين بعضهم بعضا فرض، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا) فكيف نحرص على النوافل والمستحبّات كل هذا الحرص ونضيّع الفرائض كل هذا التضييع؟! بل كيف يكون الحرص على هذه المستحبّات سببا في تضييع الفرائض؟ إن هذه المفارقة لوحدها تحتاج إلى مراجعات طويلة في مناهجنا التربوية وفي دروسنا الدينية ومواعظنا وطريقة فهمنا وتفهيمنا للإسلام.

 حقيقة أن معاني الأخوّة موجودة لكنها في الغالب ليست تلك الأخوّة المرتبطة بالإيمان (إنما المؤمنون إخوة) وإن بدت كذلك لأوّل وهلة، فإنّك تجد مثلا أبناء البلد الواحد يتعاطفون فيما بينهم في أماكن الزحمة والأوقات الحرجة ولو كان هذا التعاطف على حساب مسلمين آخرين، فالولاء للأوطان موجود وهو يزاحم الولاء للإيمان حتى في هذه البقاع، وأذكر بهذا الصدد قبل سنوات أن مجموعة من الحجاج المصريين اشتبكوا مع مجموعة من الحجّاج الجزائريين على خلفية المشكلة التي حصلت أثناء لعبة كرة القدم بين المنتخبَين المصري والجزائري! وهناك أيضا (الأخوّة الحزبية) التي تطغى لدى البعض على (الأخوّة الإيمانيّة)، حيث توظّف كل نصوص المحبة والأخوة والإيثار والتسامح لتمتين العلاقات التنظيمية، بينما يكون هناك شيء من التهاون في حقوق الآخرين يصل إلى درجة استباحة غيبتهم واحتقارهم والانتقاص منهم، وبتخريجات دينيّة أيضا، وقد سمعت أحدهم يقول مرة: لا يغرّنك الغثاء، المهم هم حملة المشروع الإسلامي، وهو يقصد بالغثاء عموم المسلمين، وأما حملة المشروع الإسلامي فهم الذين يلتقون معه في لافتة التنظيم ولو كان لا يدري عنهم شيئا، وهذا يعني في النهاية إضعاف مفهوم الأمة وضياع حقوق المسلمين التي شرّعها الإسلام تحت عنوان الأمة وليس تحت عنوان الحزب، مثل: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) و (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) فهذه الأحاديث الشريفة الصحيحة قد انتزعت عمليّا من دائرة صناعة الأمة الواحدة إلى صناعة الولاءات الفرعية الضيّقة القُطرية أو الحزبية وحتى العنصريّة.

من المفارقات الأخرى أيضا أنّك تجد هذا العاشق للكعبة المعظّم لها إذا فترت عاطفته واستراح بعض الشيء لا يتورّع أن يترك بعض مخلّفات طعامه وشرابه في الحرم وما حول الحرم وحتى في المطاف و المسعى، مع أن هذا لا يليق بالمسلم حتى في الطرقات العامة أو الحدائق أو المحطّات ووسائط النقل وفي أي بلد كان، فكيف في هذه البقاع المقدّسة؟ أما الاتكال في هذا على عمّال النظافة فهذه نظرة تفتقر إلى قدر كبير من الفهم واللياقة.

هناك أيضا من يتعمّد مخالفة الدلائل الإرشادية والتعليمات التي تنظّم حركة الدخول والخروج وضبط الأمن واستخدام المرافق العامة ونحو هذا لأنه يرى أن كل هذه توجيهات (بشريّة) لا تحمل صفة (دينيّة) وهذا خطأ فادح، فالالتزام بالنظام العام في كل مسارات الحياة واجب شرعي حتى تلك الأنظمة الموضوعة لإدارة المطارات والمستشفيات وحركة المرور وغيرها، ومن ظنّ أن هذه الأنظمة ليست لها قيمة دينيّة فإنه يتجه بالضرورة لصناعة (التديّن الفوضوي) الذي يُخرّب الدنيا ويشوّه الدين.

إن أمتنا أمة طيّبة ومتديّنة بحق ولديها القدرة على العطاء والبذل والتحمّل، لكن تصوراتها عن الدين لا زال فيها غموض والتباس وطغيان جانب على جانب، والمسؤولية الأولى في هذا تقع على المُتصدّين للتربية والتعليم من مسؤولين وعلماء ودعاة وكلٌ بحسب موقعه وقدرته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع