أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثامنة عشر

                                   

                      د.عبدالرزاق محمد جعفر

         
                                               
      أعمى بطريق مُظلم ..الحلقة الثامنة عشر

                            

تلقى الدكتور "صابر" دعوة في منتصف سنة 1978 من زوجته الروسية لمساعدتها في تقويم سلوك ابنها, فقد تذكرت, بعد فوات الأوان,.. ان للطفل أب مسؤل عن تقويمه قبل ان ينحرف !

أقتنع " صابر" بالفكرة ,.. فقد كان في شوق لرؤية أبنه,.. وتمكن من الحصول على فيزة  الأتحاد السوفيتي آنذاك,(روسيا الأتحادية / حالياً), وفي بداية العطلة الصيفية في حزيران (أغسطس) سنة 1978 , تمكن من تسـفير زوجته العراقية وأولاده الى بغداد, ثم توجه الى موسكوعلى متن طائرة الخطوط الجوية السوفيتية (الأيروفلوت).

                    

وصل "صابر" مطارموسكو الدولي,.. وكانت الزوجة باستقباله ورفعته معها إلى شقتها، وما أن أستقر فيها , حتى سـرح مع ذاته وراح يتسائل :هل حان وقت الانتقام لشبابه الذي ولى من غير رجعة,  أم عفا الله عما سلف؟ وعلى كُل, فالطيبة التي تطبع عليها جعلته ينسى كل شيء من حوله , ومع ذلك حاولت (اليمامه),.. التقرب منه  في تلك الليلة, إلا أنه لم يُد نـس حياة
زوجته التي على ذمته لـيُسـعد التي طعنته في أصعب مراحل حياته وحرمته من ابنه الوحيد !
استمر صابر يصارع  الليل الطويل , ويطوي بين جناحيه الآهات وكلمات العتاب الممزوجة بالدموع تارة, وبالابتسامة المفتعلة تارة أخرى، ولا يدري متى وكيف نام ,.. وفي الصباحً بدأ يستعد للقاء ابنه , مصغياً لحديث امه عن عاداته وتصرفاته السـاذجه !,ثم طلبت الزوجة منه
 أن يطبخ  لهم الأكلة العراقية التي أحبتها والموسومة بـ " الـخبيطه " التي تشبه (التهجين)!

          

                        الخبيطه أو التهجين 

وعلى أية حال , كان لها ما أرادت، وخرجا معاً للتسوق وعادا إلى الشقة بسرعة ،.. وبدأ صابربأعداد الطعام الممزوج بالدموع ألمنهمرة بلا أرادة ,...فأحست الزوجة بأنهياره وراحت تهون عليه ، إلا أنه لم يستطع،وما إن دخل أبنه الشـقة واقترب منه,وضمه إليه وعاد للنحيب,    
فتمكنت الأم من فـك ابنها من بين ذراعـيه, وخيمت لحظات صمت ، ثم عاد "صابر" لوعيه وراح يحدث أبنه ويسأله عن أسمه، فنطقه بالعربي, كالمدون بجواز ســفـرامه عند ولادته,.. ولكن ما الفائدة, فقد غيرته  الى الروسي , وفق مخطط والدها !
 عرض "صابر" على ولده بعضاً من تصاوير اولاده الثلاثة من العراقية , ففرح وتمتع بمشاهدتهم , وأشارإلى أحدهم, وكان على شبه كبيرمعه !, وهكذا استمرت الجلـسة  وتناولوا طعام الغداء معاً ، ثم قرروا الذهاب إلى مركزالمدينة لشراء ملابس له,وقد حاول صابرأن يختلي به ولو للحظات ليشرح له الحقيقة, وسبب انفصال والديه, إلا أنها لم تسمح بذلك مطلقاً
الا ان الأبن لم يعرأهمية لكلام والده, فقد غـُسـلَ دماغه جيداً,.. ولذا يأس  "صابر" من أي أرتباط ودي مع مطلقته وأبنه,.. فقررالعودة الى بغداد لأصطحاب زوجته  العراقية وأولاده ,.. والعودة بمعيتهم  الى مقر عمله في جامعة الفاتح في ليبيا.   
***  
وجد"صابر" في كتب الأدب العربي ضالته وبلسماً لعواطفه الملتهبة، وأحس بمتعة لتدوين ذكرياته من ماض الزمان قبل أن يطويها النسـيان, فكتب القصة الواقعية, والشعر المنثور!,..    وتشاءت الصدف أن يتعرف "صابر", بالمُمثل المصري" زكي عبد المجيد", بطل مسلسل (السـاقية), في اوائل السبعينات, حيث كان يعمل كمدرس للتمثيل في جامعة الفاتح في طرابلس وتوطدت اللائق بينهما, وفي احد الأيام شـعـرالأستاذ زكي بطريقة سـرد"صابر" (الكوميديه), عند سرده لأي حدث !،.. ولذا أقترح عليه كتابة مسرحية " فكاهية ـ علمية " للطلبة ، ومرت الأيام, وكتب فكرة علمية كانت تستخدم كوسيلة ايضاح في دروس الكيمياء بأسلوب (كوميدي),
وهكذا ظهرت له  أول مسرحية بعنوان : ( محكمة العناصرالكيميائية),.. لاقـت استحساناً لدى الطلبة والمسؤولين، وبعد نجاح تلك التجربة, كرر كتابة مسرحيات أخرى هادفة وتربوية ذات فصل واحد مثل :" الدكتور هيمان"، والدكتور "سرحان"  و"المحكمة الزراعية".
***
أسـتمر"صابر" بالعمل بقسم الكيمياء بجامعة الفاتح بليبيا لغاية سبتمر (أيلول) 1979,وكان بيته ملتقى الجالية العراقية فيعمل وليمة, في الأعياد الدينية وميلاد أولاده, ولأي عراقي يتعين في الجامعة,.. وروى لي حادثة تذكرها بمرارة,.. فقال: كنت ماراً يوماً ما بكلية الزراعة لتفقد الزملاء,فقال لي أحدهم : وصلنا اليوم دكتورعراقي جديد, ففرحت للخبروطلبت منه مرافقتي للسلام عليه, فلم نجده, فقلت لرفيقي : أخبرالدكتورالجديد والقدامى, ليتفضلوا بتناول الغداء غداً في بيتي ,.. وهكذا حضر الضيف والزملاء, وتناولوا الغداء وحضى برضى الجميع.
أستمر الدكتور الجديد في علائقه مع الدكتور "صابر",.. لفترة طويلة,..وكان يزوره بمكتبه في قسم الكيمياء, وما أن يدخل الغرفة حتى يقف "صابر"ُمـُستقبلاً ضـيفه كعادة أهل العراق,... ( الليبيين لا يقفون لتحية أي أنسان البته),.. ويبقى جالساً في مكانه,.. ماداً يده للقادم!  
 وفي أحد الأيام,..دخل ذلك الدكتور,..فوقف " صابر" ليستقبله كالعادة, وأذا بالزائر يصرخ بأعلى صوته: (هاي بعدك لهسـه أمعيدي!؟), فأمتعض"صابر" مما سمعه !
***
بعد تسع من السنين في المهجر, أصاب "صابر", الهوس والسأم من حياته ، وبدأت لديه مشاعر الكآبة أو قل الانطواء والخوف من الموت بالرغم من علمه (أن الموت حق)، ألا أنه لم  يهدأ, إلا بعد أن اتخذ قراراً بالعودة للوطن ، قبل نهاية  السنة الدراسـية  1979, حيث صـدرفي تلك السنة قانون اطلق عليه ( قانون الكفآت), يشجع عودة العقول المهاجرة, وأضافة الى ذلك,.. فقد استلم رسالة من صديق له ببغداد ينبأه بمنصبه المتقدم في الجامعة, و هو على أتم الأستعداد لأصدارأمراً بإعادة تعيينه في  جامعة بغداد في اليوم الأول من مباشرته.
    ***
قدم"صابر", استقالته وسـفـَّرعائلته الى بغداد ليتفرغ  لتصفية أعماله وقبض مُستحقاته عن مكافئة نهاية الخدمة ، وبعد ان اكمل اجراءآت نهاية الخدمة, سافرإلى أوروبا لشـراء أثاث لبيته في بغداد وسيارة, معفوة من الكمرك, أضافة الى مزايا عديدة  وفق القانون الموسـوم بقانون "الكفاءات "  ولكن ما إن وصل "صابر" الى  بغداد حتى علم بألغاء للقانون!,  بسبب استغلال بعض الدكاترة ذلك القانون تجارياً, مما حَملَ الدولة على أيقاف العمل بموجبه !
***
أسـتأجر"صابر" سكن بسيط يطلق عليه "مشتمل",.. وهو عبارة عن كراج سيارة أضيف له حمام شرقي و مرحاض يسمى زولراً بـ (بيت راحه),..فوقه (دوش),..بمثابة حمام ,.. كل ذلك بأجرة (110 دنانير) مع العلم أن صافي مرتبه (110 دنانير,أي حوالي $ = 300 دولار),في حين كان راتباه في ليبيا عند أستقالته من جامعة الفاتح  بحدود ($ = 10150 دولار),..ولذا أضطر لصرف المال الذي أدخره من عمله في ليبيا لمدة 16 سنة,.. ,وما أن أكمل بناء الدار حتى بدأت الحرب العراقية - الإيرانية!
وبمرور  الأيام صارت الأعمال العسكرية مألوفة, وبدأ وعائلته يتعايشون مع الحالة الجديدة ، والأطفال يذهبون لمدارسهم بشكل منتظم.
***  
استمر"صابر" على تلك الحال لسنوات, و بالرغم من كل المطبات التي اجتازها،لم يذعن لأحد ولم يمد يده لأي كائن ، وتمكن من السـيرفي شـمـوخ متحدياً كافة العقبات!,.. وقد روى لي قصة لقاء أولاده في مسبح حي العدل في بغداد, مع الأستاذ جعفرالسعدي ,احد عمالقة المسرح العراقي,.. حيث ذاعت شهرته في ليبيا, بعد عرض مسلسله " أين محلي من الإعراب " !    وعلى أية حال, ففي ذلك اليوم راح أولاد "صابر" يؤشرون نحو شخص يجلس قرب حوض السباحة, لفت نظرهم وقالوا لأبيهم,أنظر, أنظر (هذا الممثل أللي شفناه بتلفزيون طرابلس! ),.. فتوجه  "صابر", نحوه برفقة أولاده, وسلموا عليه,..وعرفه "صابر" بنفسه وشرح للفنان شهرته بين الليبين,فعلت جبهتة الغبطة,.. ثم طلب من "صابر" مشاركته في الجلسة وشرب القهوة ,فرحب "صابر" بالفكرة,.. ثم طلب من أولاده السباحة في حوض الأطفال,..وجاـس بجانب الفنان,.. وراح يحدثه عن فلم (الرساله),... الذي أخرجه المخرج السوري (العقاد), وكان من بينهم الفنان القدير(عبدالله غيث ), وأنتوني كوين وزوجته الشابة المغربية.
***
   

الفنان جعفر السعدي مع "صابر" صيف عام 1979 م. في مسبح العدل

وبمرورالزمن, توطدت العلائق  بين " صابر" و الفنان جعفر, وتطرق للمسرحيات التي ألفها والتي مثلت على مسرح جامعة طرابلس,..والآن قد أكمل كتابة مسلسل باللهجة العراقية,  الموسوم بـ (لهيب الحب),.. وهو بحاجة الى شركة تتولى أنتاجه في التلفزيون.
 وجد "صابر" تشجيعاً من الأستاذ السـعدي,.. وتعهد بتنقيح المسلسل,.. وخلال سنة أكمل "صابر", مسودة ذلك المسلسل ، وفي أحد الأيام أتفق والأستاذ جعفرعلى أرساله الى  شركة  (الشـمس والقمر), في الكرادة الشرقية , وتم تسليمه للأدارة  لمراجعته من قبل مختصين في الشركة ، وبعد يومين اجتاح العراق الكويت فأغلقت الشركة أبوابها, لأنها عراقية – كويتية، وهكذا اختفى المسلسل,..وضاع الخيط والعصفور!,..كل هذا ويكلون "صابر" أمفتح باللبن!
 ***
ومرت الأيام ,..ودارت الأيام ,..والكل منهمك بتوفير قوت عائلته ,..فما أن دخل "صابر"   في دكان قصاب في حي العدل ببغداد ايام الحصار الغاشم الذي فرض على العراق,.. حتى وجد  داخل الدكان, الفنان جعفر السعدي,.. وبعد السلام وتبادل حديث الساعة معه,.. سأل القصاب  الفنان عما يطلبه ؟ .. فقال  الفنان : كيلوين عظم بقر صافي !
وفي الحال وزن القصاب العظام وسلمها للأستاذ جعفر!
وما أن هم الفنان جعفر بالخروج,.. حتى تبعه "صابر" ليودعه,.. وسأله بأستغراب؟!
هل لديكم  كلب؟! فنفى الفنان وتعجب "صابر" ثم سأله: أذن لمن هده العظام؟!,..   
فقال مبتسماً : لنا !,.. فقد اصبحنا نحن الكلاب!    
تألم " صابر" من حديثه وفهم ما يعانيه هذا الفنان من شحة المال, وفي الحال: غير الأستاذ جعفر الموضوع وقال:  هل سمعت بهذه الحدوثة؟  
وفوراً قلب الأستاذ  الموضوع من التراجيديا الى الكوميدية , وقال:
 في احد الأيام كنت انتظر في السره (الطابور) عند الخبازة لتخبز الطحين الأسود من حصتنا التموينية , وطال الأنتظار , حيث كانت الخبازة منهمكة في خبز الطحين الأبيض لسـائق أحد الشـخصيات, وكلما تخرج (رغيف),. ينظر له الواقفون في الطابور بحسرة  وهم صامتون,.. كصـمـت اهل المقابر!
 وبالصدفة,.. كان بالقرب من المشجب الذي تضع الخبازة عليه أرغفة الخبز,"حمارالخبازة"   وأذا به, ينهب (رغيفاً) من الخبز ويهرب!, فزاغت روح سائق الباشا,.. وراح يركض خلفة
وتبرع بعض المارة بمساعدته لسـحب الرغيف من فم الحمار,وفي الحال توقف الحماروقال:
أشبيكم أشكد صارألكم تاكلون علفنه , أشو ما فـًد يوم اعترضنا عليكم؟!

يتبع في الحلقة 19 / مع محبتي       
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعة عشر

http://www.algardenia.com/maqalat/13860-2014-12-03-15-36-19.html
 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع