أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة السابعة عشر

                                          

                      د.عبدالرزاق محمد جعفر


     أعمى بطريق مُظلم!الحلقة / السابعة عشر

  
في اليوم الأول من وصول "صابر" الى بغداد زار زملاؤه ,.. ومن ضمنهم رئيس قسـم الأحياء في دارالمعلمين العالية ,الدكتور(الآلوسي), صديقه منذ أيام الدراسـة في جامعة موسكو  ولكنه لم يوفق,وقال له أحد الأساتذة:

الدكتورخرج قبل قليل,وسـيسافراليوم الى جزيرة "آلوس", فطلب منه "صابر", تبليغه السلام, وهنا تلعب الصدفة لعبتها أوقل "الحظ",.. فما أن غادرذلك الأستاذ الكلية حتى وجد الدكتور(الآلوسي),.. منهمكاً بتصليح (بنجر) سيارته,.. فأخبره بعودة الدكتور"صابر" من ليبيا,..وعلى الفورأصلح (البنجر), وعاد الى الكلية, والتقى بـ "صابر", ثم الغى ســفرته, وأصرًعلى اصطحابه لتناول الغداء في بيته,..فلبى"صابر" الدعوة, وخرجا
معاً,.. وفي الطريق عَـرجَ (الآلوسي),على مدرسة البنات الثانوية ليصطحب أخته,.. وما أن هَمـت بالصعود, حتى رشـقها "صابر" خلسـة بنظرة واحدة أشبعت فضوله!, ثم أبدى الحشمة,
وبعد الغداء دارت محادثة ودياة بين الصديقين, وبَينَ "صابر" رغبته  بالزواج من عراقية,..   فأسـتحسـن المُـضيف الفكرة , ووعده بالتحري عن بنت الحلال التي تليق به ,.. وارتبط معه بموعد عند المساء ,.. وفي الموعد المحدد,..  راح " صابر" يسأل زميله عن سبب تأخر أخته في دراستها , فشرح له الأسباب, ومنها عدم وجود مدرسة متوسطة في "آلوس",..وبعد هجرة العائلة الى بغداد,عادت لدراستها,وهكذا أقتنع "صابر" بكل ما سمعه عنها,وبعد يومين, تحرى "صابر" عنها بمساعدة الأهل والمعارف,..ثم فتح الموضوع مع صديقه (الآلوسي), وبعد جهد جهيد أستطاع أقناع شيوخ العائلة بعدم أهمية الخلاف المذهبي وزكى زميله الدكتور "صابر", وهكذا, بدأت الخطوات العملية, وتقدم " صابر" بطلب يـدها, وفق الخطوات المتعارف عليها.
  وفي 11 شـباط (فبراير) اقيمت حفلة عشاءعائلية, وفي صباح اليوم التالي, توجه "صابر"  وعروسته  الى ليبيا , ووصلا طرابلس في ساعة متأخرة من الليل.
وما أن علم اصدقاء "صابر" بالخبر , حتى توافدت معظم العوائل العراقية عليهما للتهنئة,  وفي مساء كل يوم,..كان "صابر" وعروسته  يتجولان في شـوارع مدينة طرابلس الجميلة, التي كانت تعتبر قطعة مصغرة من روما .
من أهم ما يلفت نظر السائح عندما يتجول في شوارع طرابلس,..مركز المدينة الذي أنجز  بعد ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 م., حيث تم توسيع الساحة الرابطة بين شارع الرشيد ونقطة التقاء شوارع اول سبتمبر والفزان والمكريف, وصارت من اكبر الساحات ,.. وقد توسعت هذه
 الساحة بعد ازالة مسجد قديم قرب مصرف الأمة, حيث قا مت بهدمه شركة بلغارية خلال 24 ساعة !, وهكذا استيقظ أهل طرابلس وهم في دهشة حيث اختفت معالم ذلك المسجد, وعبدت الطرق حوله , وباتت الساحة تعرف بـ (الساحة الخضراء),..وبساحة الشهداء بعد الأطاحة بنظام العقيد معمر القذافي ,.. في ثورة 17 من فبراير (شباط),.. أحد ثورات الربيع العربي!

        

               ساحة (الشهداء), الخضراء وسط طرابلس

   ومن أهم أهم الساحات الأخرى في مدينة طرابلس, (ساحة الجزائر), حيث كانت هي مركز المدينة, لغاية 1972, .. وهي تضم دائرة البريد المركزي, و الكنيسة, وبنك الأمة,.. اضافة الى مقاهي وحوانيت, و(بارات) بنيت على الطراز الروماني في عهد الأستيطان الأيطالي !     
 وفي سنة 1972 م., قرر مجلس قيادة الثورة,.. تحويل تلك الكنيسة الى مسجد, تحت أشراف مهندس عراقي, يعمل في وزارة الأشغال, الا ان تدخل الكنيسة في روما وبعض الدول الصديقة في ليبيا,استطاعوا تأجيل ذلك القرارالى اجل آخر,.. واكتفى مفتي ليبيا بوضع الهلال مكان الصليب على قبة الكنيسة, فتحولت الى مسـجد, ما زال على وضعه ليومنا هذا !
 اول ما يلفت نظر الزائر المتجول في شوارع طرابلس هو جمال العمارات والمعارض التجارية على جانبيها, والأبرز من كل ذلك, نظافة أرضية تلك الشوارع, بحيث لو سار المرئ من دون حذاء لما تلوثت قدماه!
ولا بُـدَ  للمتسـكع  من التوقف قليلاً أمام واجهات المعارض  للتمتع بروعة البضاعة الراقية ورخصها و قراءة لوحة التسعيرة على اي نوع من المعروضات ,.. وبصورة عامة فأن أسلوب البيع في طرابلس , مشابه لما هو متعارف عليه في اي بلد اوربي, فما ان يدخل الزبون حتى يستقبله البائع ويعرض عليه كل ما يطلبه بسعة صدر وابتسامة, والمساومة غير متعارف عليها, وقد أدخلها السواح العرب وبخاصة المصريون , الا ان تلك العادة يرزت و تجذرت بعد سنوات وخاصة في الأسواق الشعبية المبنية منذ العهد العثماني, مثل سوك الترك قرب المتحف !
الأسواق الشعبية في طرابلس تشبه الى حد ما اسواق شارع النهر والشورجة في بغداد , وسوق الحميدية في دمشق, ومن اغرب ما لاحظته في تلك حقبة السبعينيات, الأمان والثقة في التعاملات, فقد لاحظت مرات عديدة عصا يوضعها التاجر  امام دكانه عندما يذهب لقضاء حاجة ما او  لتأدية الصلاة , ومن اكثر رواد تلك الأسواق الأجانب من دول أوربا الشرقية بسبب رخص المعروضات وتنوعها , حيث الأستيراد مسموح به من كافة ارجاء المعمورة.
كان الدينار الليبي يساوي اكثر من ثلاثة دولارات وهو مقسم الى ألف درهم , الذي حل محل المليم وفق العملة في العهد الملكي, اما اسواق الخضرة والفاكهة فهي في غاية الروعة ورخيصة,..

           

فسعر صندوق من البرتقال آنذاك لا يتجاوز ثمنه النصف دينار,..  وبقية الخضروات أسعارها زهيدة , واهم ما يلفت نظر المغترب هو  رغبة الليبيين لشراء الخضرة بكميات كبيرة من الأسواق المختصة المنتشرة في أطراف ووسط المدينة مثل سوك الثلاثاء وسوك الجمعة , مثل الكرفس والخس والفجل والسبانخ واللهانة والجزر والشلغم والقرنابيط وانواع الفاكهة. كما ان معظم المخازن المختصة ببيع المواد الغذائية, تخصص جانباً منها لبيع الخضار والفواكه, وبخاصة المخازن الواقعة وسط الدور السكنية.
***
بدأت مسيرة حياة "صابر" الجديدة، محاولاً النسيان وتجاوز السلبيات السابقة التي كادت أن تمزقه . ودارت الأيام،... وإذا بالزوجة الأجنبية ترسل رسالة له !,.. تعترف فيها بذنبها،.. وتطلب منه السماح والعودة، وان الله قد انتقم منها ،.. وتطلب مقابل ذلك طلاق زوجته ! ,..فأهتز لتلك الرسالة,.. وراح يصارع الرواسب العاطفية المطمورة والحنان لطفله البكر الذي سـُرقَ منه بأسـم القانون,.. وبين شـهامته التي عُرفَ بها, والتي جعلت عائلة زميله تثف به وتزوجه أبنتهم,.. وهكذا, لم يجد"صابر", غير التضرع الى الله وترديد عبارات دينية !
لم يحجب الدكتور"صابر" قصته السابقة ومشاعره عن عروسته ، وكان صريحاً معها إلى أبعد الحدود ،.. فقد كانت امرأة بمواصفات نادرة، ولم تكترث لماضيه ،وشَمَرًَتْ عن ساعديها، ووفرت له الجو الأسري الذي كان تواقاً له، وأنساه بعضاً من الماض,.. وبدأ يشعـربالاستقرار العاطفي والنفسي وخاصة عندما رزقه الله  بولد عوًضً به الفراغ الذي عاشه عندما فقد ولده البكر وزوجته الأجنبية.
***
في العطلة الصيفية لسـنه 1974, ســافر "صابر" وزوجته العراقية وولده (عوض), الى  باريس,.. حيث تمنح الجامعة الليبية في كل عطلة صيفية تذاكر سفر لكل عضو هيئة تدريس وعائلته ذهاباً وأياباً من بلد التعاقد أو وطنه ,.. وهكذا توفرت لديه فرصة لتطبيع زوجته على نظام الحياة الأوربية, وبعد أسبوع سـفر زوجته وأبنه الى أهلها في بغداد,

  

ألا أنه شـعر بالوحدة  ولذا قررعمل سياحة إلى (اسـتوكهولم), عاصمة السويد ,.. عن طريق ميناء (لندن).
***
ظـلً "صابر" صابراً ومتعطشاً للتعرف على حواء تخفف من لوعة الشوق الدفين لحبه الأول,أو كصورة بديلة ، قد تحجب صورة المحبوبة, الا انه لم يستطع أطفاء النار الخامدة في صدره لأنه لا يحب ممارسة النزوات على الطريقة الغربية، فما زال الحياء خطاً أحمر بينه وبين كل انثى يتعرف عليها,.. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين !,..وهكذا,..  أسـتمـر"صابر" سواحاً في كل قطرأوربي يحلَّ به ,جاعلاً منه محطة للأستراحة وللتزود من عبيق الجنائن الفواحة,.. عسى أن يتمكن من طمر الذكريات,.. وفق نظرية علماء الأجتماع ,..يمكن أزالة صورة أجمل أمرأة بوضع صورة أخرى فوقها,.. ولكنه لم يفلح لأنه أعمى بطريق مُظلم ؟!
ولا تغمض عينه ألا بعد سماع المطربة الراحلة نهاوند,..مردداً معها:
قد كرهت الليل والأحلام والأشواق يأسا = ليتني ألمـــس هواكم ثم أنــســى   
يتبع في الحلقة 18 / مع محبتي


للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/13736-2014-11-26-10-17-42.html


أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع