«الإرهاب السني» في الميزان

                                 

                     د. محمد عياش الكبيسي

 مليار ونصف من سكان هذه الأرض، يمتدون من المحيط إلى المحيط، وينتشرون في القارات الست، بحضاراتهم وإنجازاتهم وإسهاماتهم الكبيرة في مختلف المجالات والتخصصات، أولئك هم (أهل السنة والجماعة) وهم أمة الإسلام الأصيلة والسواد الأعظم،

هم الأنصار والمهاجرون، وهم الراشدون والأمويون والعباسيون والعثمانيون، لا ينتسبون إلى سلالة ولا إلى عرق ولا إلى لون (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) مضوا خلف طارق بن زياد الأمازيقي وصلاح الدين الكردي ومحمد الفاتح العثماني، كما مضوا خلف عمر وعلي وسعد وخالد، واتبعوا حديث (البخاري) ومسلم (النيسابوري) وتفسير (الطبري) و(القرطبي) وفقه أبي حنيفة (الكوفي)، كما اتبعوا مالكا (المدني) ومحمد بن إدريس الشافعي (القرشي) وأحمد بن حنبل (الشيباني)، يقدمون بلالاً (العبد الحبشي) وابن مسعود (راعي الغنم) على أبي سفيان (سيد مكة)، ويحافظون على وجود مخالفيهم وحقوقهم وهم في أوج القوة والسلطان، ولولا ذلك لما بقي للأقباط مكان في مصر ولا للشيعة مكان في العراق، مع أنهم حكموا هذه البلاد لما يزيد على ألف سنة!
هذا التاريخ كله يتعرض اليوم لحملة من التشويه وقلب الحقائق تقودها مؤسسات ثقافية وإعلامية كبيرة على مستوى العالم لإظهار السنة وكأنهم نتوء ناشز في المجتمع البشري، وأنهم يشكلون بطبيعتهم النفسية والاجتماعية وبثقافتهم وتصوراتهم الدينية الحاضنة الأكبر للإرهاب!
أما أهل السنة فينظرون إلى هذه التهمة أنها محاولة لتوظيف (ظاهرة الإرهاب) وليس لمكافحته، وذاك من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وإن كان في هذا التوظيف ما يقوي الإرهاب ويمد الإرهابيين بأدوات البقاء والتمدد، بمعنى أن أهل السنة يردون التهمة على أصحابها ويشككون في نوايا (المجتمع الدولي) ومصداقيته.
قبل الدخول في (مقاضاة التهمة) لا بد من التذكير ببعض الحقائق والوقائع التي يفترض أنها محل اتفاق بين مختلف المتابعين والمراقبين:
أولا: أن عمليات التخريب والقتل العشوائي واستهداف المدنيين سمة ظاهرة في أغلب الحروب التي يخوضها الإنسان ضد أخيه الإنسان منذ فجر التاريخ وإلى اليوم، باسم الله أو باسم السلطان، بالدوافع الدينية أو بالدوافع الدنيوية، تحت راية الحزب الواحد والقائد الضرورة، أو تحت خيمة البرلمان والشرعية الدولية.

ثانيا: أن المقولات الدينية من مختلف الديانات والطوائف حاضرة بقوة في هذا المشهد الدموي، من (الحروب الصليبية المقدسة) و(الوعد الإلهي المقدس لبني إسرائيل) حتى حملات الإبادة الجماعية التي يشنها اليوم الرهبان البوذيون بحق المسلمين في بورما، ومن (الجمهورية الإسلامية) ودولة (الولي الفقيه) وتوابعها (حزب الله) و(أنصار الله) و(الجهاد الكفائي) حتى (إعلان الخلافة) و(إمارة المؤمنين) و(الجهاد العالمي).

ثالثا: أن (الإرهاب السني) هو الإرهاب الوحيد الذي لا يحظى بالشرعية (السنية) لا على مستوى الحكومات والأنظمة السنية، ولا على مستوى المؤسسات (الدينية) كالأزهر وهيئة كبار العلماء والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بل إن ثقافة المجتمع السني بالعموم تعد هذا السلوك نوعا من الشذوذ والخروج عن الدين الحق، حتى أن مصطلح (الخوارج) هو مصطلح سني أطلقه أهل السنة على التكفيريين الأوائل ويطلقونه اليوم بنفس القوة على التكفيريين الجدد، ولم يُنقل عن عالِم سني واحد تأييده لدولة (الخلافة) ولجهادها العالمي حتى مع كل هذه الضغوط والمظالم التي يتعرض لها أهل السنة، بينما تجد (المرجعيات الدينية الشيعية) وأحزابها السياسية ومن ورائهم إيران بكل ثقلها يتبنون المليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهي مليشيات طائفية عابرة للحدود وخارجة عن القانون، ومن المفارقات هنا أن (الإرهابيين السنة) الذين تقوم السعودية والدول السنية الأخرى بملاحقتهم لا يجدون ملجأ لهم إلا في طهران ولندن! أي في المناطق التي تدعي مكافحة الإرهاب وتتهم المجتمع السني بإيوائه وتقديم العون والرعاية له!
رابعا: أن الإرهاب السني هو الإرهاب الوحيد الذي يستهدف (حاضنته المفترضة) أكثر مما يستهدف الآخرين، ففي سوريا يجمع الثوار السوريون بكل فصائلهم أن الزخم الأكبر لمعارك (داعش) موجه ضد الثوار (السنة) وليس ضد النظام (العلوي)، وفي العراق تحظى مهمة بسط النفوذ في المناطق السنية وإجبار القبائل السنية على مبايعة (الخليفة) بالحظ الأوفر من الجهد العسكري مقارنة بالعمليات الخاطفة والتفجيرات العشوائية التي تستهدف عوام الشيعة دون المساس بمرجعياتهم الدينية أو السياسية! حتى غدا من المعلوم عند السنة والشيعة أن علماء الشيعة الذين استهدفوا من قبل (الإرهاب السني) لا يكادون يذكرون أمام العلماء السنة الذين سقطوا بالفعل على يد هذا الإرهاب، ومع إعلان (أبي محمد العدناني) الناطق الرسمي باسم (الخليفة) عن نقضه لالتزامهم المسبق مع إيران، إلا أنه لحد هذه اللحظة تم استهداف (عامرية الفلوجة) بما يزيد على عشر هجومات، واستهداف (كوباني) بمثل ذلك أو يزيد، وتفجيرات في (أربيل) وكل هذه مدن سنية خالصة، بينما بقيت إيران محصنة تماما من قبل ومن بعد!
في مقابل هذا فإن (الإرهاب الشيعي) بكل تشكيلاته الرسمية والمليشياوية لا يستهدف إلا السنة، فهو إرهاب طائفي بامتياز، وهكذا يكون السنة وحدهم هم ضحية الإرهابَين السني والشيعي، وفي مجالسهم وحواراتهم تجد عامة السنة وخاصتهم يختلفون في تقدير الخطر الأشد الذي عليهم أن يدفعوه بالخطر الأخف! وكثيرا ما تتغير المواقف وتتبدل المواقع بحسب الأخبار الواردة وحجم الجريمة المرتكبة هنا أو هناك، من هذا الطرف أو ذاك.

خامسا: أن (الإرهاب السني) هو الإرهاب الوحيد الذي أعلن حربه الشاملة على الغرب، وقد تبنى بالفعل بعض العمليات الجريئة في عمق الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، وغالب الضحايا كانوا من المدنيين الأبرياء، وكان المبرر بحسب الخطاب المسجل لزعيم القاعدة آنذاك أنهم مساهمون بالعدوان من خلال (دفعهم للضرائب)! ومع إعلان المجتمع السني بكل فعالياته الرسمية والشعبية عن براءته وإدانته لهذه الجرائم، إلا أن الغرب قد اتخذ منها ذرائع قوية لتدمير أفغانستان والعراق، وربما السكوت أو التواطؤ لتدمير سوريا واليمن أيضا، والقائمة لم تنته بعدُ، مما جعل السنة يواجهون نوعا ثالثا من الإرهاب مقنعا بالديمقراطية ومغلفا بقرارات الشرعية الدولية.
بغض النظر عن مصطلح (الإرهاب) ودلالاته وتطبيقاته، هناك جرائم عدوانية وبشعة ترتكب بحق المدنيين والأبرياء لا ينبغي أن ينكرها أحد، ولا ينبغي أن تتأثر بالمجادلات العلمية أو السياسية حول مفهوم الإرهاب، فهي أكبر من الإرهاب نفسه، وأبشع من البشاعة نفسها، وأهل السنّة يعلمون أن هناك عددا من أبنائهم قد تورّطوا بالفعل في مثل هذه الجرائم، بعد أن تمرّدوا على كل شيء و (خرجوا) أو (مرقوا) عن بنية الأمة الثقافية والحضارية، وهم مدانون عندهم إدانة متواترة ومتوالية إلى حد يقرّبها من الإجماع، بحيث إنك لا تكاد تجد عالما معتبرا في طول الأمة وعرضها قد رضي عن هؤلاء أو برّر لهم، حتى من أولئك الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد وعاشوا الظروف نفسها التي أنتجت مثل هذه الحالة النشاز، فها هم علماء بغداد والبصرة والموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين الذين قدموا المئات من الشهداء والمعتقلين في سجون الاحتلال الأميركي ثم في سجون المالكي والعبادي، وهم لا تنقصهم الشجاعة في قول الحق، فقد عرفتهم ساحات المقاومة ومنصّات الاعتصام، وخطاباتهم ومواقفهم مسجلة وموثّقة، فما الذي جعل هؤلاء يجمعون على النأي بأنفسهم عن (البغدادي) و (دولته)؟
وهذا الموقف ذاته هو موقف علماء سوريا الذين يواجهون اليوم ظروفا استثنائية قاهرة تبيح لهم الاستعانة بالنائي البعيد فضلا عن الصديق والقريب، وهؤلاء علماء السعودية المعروفون بمنهجهم السلفي الحازم، والذين يشعرون اليوم بالخطر (الإيراني) (الرافضي) الجاد ومع هذا لم يفكروا بالاستفادة -على الأقل- من (الإرهاب السنّي) في مواجهة (الإرهاب الشيعي)، والأمة كلها من مصر والسودان إلى تونس والمغرب ثم تركيا وماليزيا وغيرها وحتى غزة المحاصرة بحراب اليهود وظلم الحدود لم تفكر بالاستعانة بهؤلاء، فهل كل من ذكرت يتعاملون (بالتقية) أو أنهم فضّلوا (فتات الدنيا) على قيم الجهاد والشهادة والسعادة الأخروية؟
الموقف السنّي إذاً هو موقف أصيل ومبدئي ونابع من ثقافة متجذّرة وقيم دينية وسلوكية غير مصطنعة ولا متكلفة، والسؤال هنا: هل الأطراف الأخرى التي تتحالف اليوم لمكافحة الإرهاب تمتلك فعلا مثل هذه الروح في تعاملاتها ومراجعاتها؟
لقد استهلّ الأميركان مشروعهم (الحضاري) بضرب مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية، فراح من المدنيين في يوم واحد ما يزيد على مائتي ألف من رجال ونساء وأطفال، ثم كرروا هذا النهج نفسه مع العراقيين بأسلحة اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض، حتى زاد عدد الضحايا منهم على أمثالهم من اليابانيين، وما زال العالم ينتظر من الإدارات الأميركية المتعاقبة موقفا أخلاقيا واحدا لمواساة أولئك الضحايا وذويهم ولو بالاعتذار! ولكن دون جدوى، فهل نصدّق بعد هذا أنهم جادّون فعلا بقيادة الأرض نحو قيم (الديمقراطية) و (السلام العالمي)؟
في الوجه الثاني يستهل الشيعة عصرهم الجديد بمقولة (تصدير الثورة) لتستعر حرب الثماني سنوات، ثم تتكون الخلايا (الثورية) في أكثر من بلد عربي، تحمل السلاح، وتجتاز الحدود، وتصادر قرار الدولة، وتنزع عنها هيبتها وسيادتها، وهذا ما حصل في العراق ولبنان، ويحصل اليوم في اليمن، وهناك بشاعات متكررة وصلت إلى حد انتهاك الأعراض، فلم ينكرها مرجع، ولم يحقق فيها حاكم!
والحقيقة أننا لو قمنا بمحاكمة عادلة وفق النتائج الرقمية للعمليات الإرهابية، فإننا سنكتشف أن (الإرهاب السنّي) يأتي في ذيل القائمة، فمجموع ضحاياه من كل الجهات -بما فيها الجهة السنّية نفسها- لا يكاد يصل إلى نسبة مقروءة بالنسبة للإرهاب المزدوج أو المنفرد أميركيا وإيرانيا.
بالمعيار التكويني لشخصية الفاعل، وهو معيار معتبر في المحاكمات العادلة، نجد أن الكفّة تميل بقوّة لصالح (الإرهاب السنّي)، فالفاعل هنا هم ممن يطلق عليهم (سفهاء الأحلام) (حدثاء الأسنان)، وهناك نحن نتكلم عن (آيات) و (حكومات)، هنا نتكلم عن مجموعات فوضوية مارقة ومتمرّدة، وهناك نتكلم عن دول ومؤسسات وبرلمانات.
يعرف القضاء أيضا مصطلحا جديرا بالملاحظة وهو مصطلح (الظرف المخفف)، فالجريمة التي ترتكب في ظرف استثنائي تختلف عن الجريمة ذاتها إذا ارتكبت في ظرف اعتيادي، فالقتل الذي يحدث مثلا نتيجة شجار طارئ يختلف عن القتل الذي يحدث عن (ترصّد) و (سبق إصرار)، وإذا صحّ تطبيق هذه القاعدة على العمليات الإرهابية فإن (الإرهاب السنّي) سيكون الأولى بالأحكام المخففة، فالسنّة اليوم يعيشون تحت الضغوط الثقيلة التي تضيّق أمامهم خيارات الحل، فكلما جرّبوا طريقا أو سلكوا مسلكا واجهتهم الأبواب الموصدة، والرسالة التي يتسلّمونها بعد كل تجربة أنهم مرفوضون صقورا كانوا أو حمائم، يحملون السلاح أو يحملون البطاقات، وما تعرّض له عدنان الدليمي وطارق الهاشمي ومحمد الدايني ورافع العيساوي وأحمد العلواني وغيرهم الكثير قد أكّد مضمون هذه الرسالة، حتى أصبح معتادا مع كل دورة انتخابية أن يستعد السنّة لتقديم قرابينهم! وحتى بعض (العشائر السنيّة) التي انضمت إلى مشروع (الصحوات) بالاتفاق مع الأميركان والحكومة المركزية قد تُركوا في الآخر ليواجهوا مصيرهم بين مطرقة (ماعش) وسندان (داعش)، وهذه ليست أخطاء (مطبعية) قابلة للتصحيح! بل هي خطوات ممنهجة ومدروسة للتغرير بالشباب السنّي ودفعهم دفعا على طريق الإرهاب، ومن ثمّ يكون (المجتمع الدولي) قد أعدّ (قراراته المسبقة) وعدّته اللازمة للتعامل مع هذه الحالة وحرق المنطقة كلها أخضرها ويابسها.
لقد كنت أستمع للرئيس بوش وهو يوجّه خطابه للأميركيين: (لقد نجحنا في تجميع الإرهابيين من مختلف أنحاء العالم في هذه البقعة -العراق- وهنا سيتم القضاء على الإرهاب)، وقد ساءني أنّ هناك من صدّق هذه الفرية من الأميركيين وحتى من العرب، والحقيقة أن بوش قد نجح في تحويل (المسالمين) إلى (إرهابيين) ونجح في تحويل العراق كله إلى ماكينة عملاقة لصناعة الإرهاب بشقّيه الشيعي والسنّي.
إننا نستطيع أن نجزم وبمنطق علمي وموضوعي أن (الإرهاب السنّي) ليس صناعة سنّية، بل هو جزء من مشروع كبير ومعقّد يبدأ بـ (تصدير الثورة) و (الفوضى الخلاقة) وينتهي بـ (سايكس بيكو جديد) و (تصحيح الأخطاء التاريخية).

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع