أخطاء شائعة في ذكرى الهجرة // الحلقة الثانية

                                        

                      د .محمد عياش الكبيسي

في طريق الهجرة ورد أن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال وهو يخاطب مكة: (إنكِ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت

وقد أصبح هذا الحديث مستندا لما يسمّى اليوم (العقيدة الوطنية) وهي فلسفة نشأت ونمت في ظل (الدولة الحديثة) ولا علاقة لها بالتراث الإسلامي ولا حتى بالتراث العربي، فقد كان العربي يتنقل مع قبيلته طلبا للماء والكلأ، وهو إن تحدّث عن الأرض فإنما يتحدث عن الأطلال التي ألفها والتي ارتبطت بعلاقاته العاطفية أو الاجتماعية، بغض النظر عن حدودها أو موقعها الجغرافي، أما في التراث الإسلامي فحركة التنقل كانت أوسع بكثير مما كانت عليه القبيلة، حيث أصبح المسلم إنسانا عالميا بحق، فالأمويون يحكمون الشام ثم الأندلس، والعباسيون يحكمون العراق ويصلون إلى أطراف الصين! أما تنقل العلماء وطلبة العلم فقد كان دأبا معروفا وسنّة متّبعة، ومن يتابع هجرة الإمام الشافعي من الحجاز إلى العراق ثم إلى مصر، وتقبّل هذه المجتمعات له واحتضانها لمذهبه على مرّ الأجيال يدرك تلك الحقيقة، ويدرك أن هناك فلسفة لعلاقة الإنسان بهذه الأرض مختلفة تماما عن الفلسفة التي نعيشها اليوم.
لقد نشأت اليوم في كل العالم فلسفة جديدة تعتمد هوية جديدة وثقافة جديدة، ولسنا بصدد مناقشة هذه الفلسفة، بيد أن محاولة البحث عن مقوّمات ومؤيّدات لهذه الفلسفة من تراثنا الإسلامي ومن سيرته عليه الصلاة والسلام هو محط النظر والمناقشة.
إن مكة بالمفهوم الإسلامي هي (خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله)، وبالمفهوم النفسي والعاطفي هي البلدة التي ألفها أهلها كما يألف كل إنسان بلدته ومنطقته التي يعيش فيها، والحنين إليها لا يخرج عن هذين المفهومين، ومثل هذا الحنين معتاد حتى فيمن ينتقل من منطقة إلى منطقة داخل البلد الواحد، فما بالك بمكة؟ أما تفسير حنينه عليه الصلاة والسلام بأنه كان تأصيلا للهوية الوطنية وللانتماء الوطني بمفهومه المعاصر فهو مما لا يحتمله النص ولا يتسع له.
لقد تحوّل الحنين الفطري لأرض المنشأ لدى الكثير من الخطباء والوعّاظ إلى (ولاء وبراء) لخارطة سياسيّة ربما رأيتَها أو رأيتَ بعضها أو لم ترَها أصلا كما هو حال كثير من المهاجرين الذين ولدوا وعاشوا خارج بلادهم الأصلية، لأنّ (حب الوطن من الإيمان) وهو حديث لا يصح أصلا، ومنهم من راح يفتي أن (لكل وطن رؤيته) في رمضان وشوّال، ففسّر البلد الجغرافي بالوطن السياسي، وفسّر اختلاف المطالع باختلاف الحدود!
وترى بعضهم يحاول أن يعتذر عن بقائه في غير (وطنه) بالاضطرار و (الظروف القاهرة) وكأنه يرتكب جرما حينما يعيش في بلد آخر، ولو كان هذا البلد خيرا له في دينه ودنياه! وربما ترى من وُلد في (ديار الغربة) وتعّلم ونشأ وتزوّج فيها لا يرى الوفاء لها إلا ضعفا في (الوطنيّة) وخدشا للمروءة، فالوطن الذي يجب أن نحبّه وأن نعمل له وأن نختزن ذكرياته في ضمائرنا وضمائر أطفالنا إنما هو ذلك الوطن وتلك الخارطة التي رسمتها (سايكس بيكو)، ومن المؤسف حقا أن تتسلل هذه المفاهيم إلى العمل الإسلامي نفسه والعلاقات البينيّة بين العاملين، فكل مجموعة (إسلامية) إنما تعمل داخل خندقها (الوطني) حتى وهي تعيش خارج حدودها (الوطنية) وربما ترى المعيار الوطني مقدما على معيار (العلم) و (التقوى) و (العمل الصالح)، ومن الغريب أن ترى هؤلاء أنفسهم ينتقدون بشدّة (التيار القومي) لأنه يريد أن يضيّق مفهوم الأمة!
إن احترام (العقد الاجتماعي) وسياسة الدولة التي ننتمي لها أو نعيش فيها هو من متطلبات الحياة المعاصرة، والخروج عن ذلك إنما هو فتنة وشرّ مستطير، لكن هذا لا يخوّلنا أبدا أن نوظّف الدين والتاريخ بحسب رغباتنا وأهوائنا.
لقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحا، وكان بإمكانه أن يستقرّ فيها، لكنه قفل إلى المدينة متخذا منها عاصمة لدولته الجديدة، ومعربا عن حبّه ووفائه للأنصار الذين آووه ونصروه حتى قال: ( لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكتُ شعب الأنصار)، فأي القيمتين كانت أرقى وأثقل في الميزان النبوي؛ قيمة الوفاء للناس الذين آووه في (أرض الغربة) أم الولاء لأرض الآباء والأجداد؟ وهجرات الأنبياء كلها لا تخرج عن هذا، فإبراهيم -عليه السلام- ترك أرضه وقومه وهاجر إلى فلسطين ومصر والحجاز، وليس هناك من إشارة واحدة لارتباطه بأرضه التي جاء منها أو رغبته بالعودة إليها، ويوسف -عليه السلام- جيء به قسرا إلى أرض غير أرضه وقوم غير قومه وهم على دين غير دينه، فعمل لهم بإخلاص لا حدود له لأنهم آووه وأحبوه، ولم يفكّر -عليه السلام- بالعودة إلى الأرض التي جاء منها، بل بعث إلى أبويه وإخوته ليعيشوا معه في أرض الغربة!
في زيارة لبعض البلاد الأوربية وجدت بعض (الدعاة) ممن ضاقت بهم بلادهم ظلما وقهرا وتعذيبا نفسيا وجسديا، وقد حلّوا هنا بأمن وأمان وحقوق لا تفرق عن الأوربيين الأصليين، لكنّهم لا زالوا يرون الاعتراف بفضل هؤلاء (كفرا) وإخلاص العمل لهم (خيانة)، وقد ظهر أحدهم من على شاشات التلفزيون ليقول: إن بقائي في هذه البلاد كبقائي في (مكان قضاء الحاجة)! وأذكر يوم كنت أخطب الجمعة هناك وقد ذكّرت إخواني المصلّين بأنهم مكلّفون شرعا بالإحسان إلى من أحسن إليهم ولو كان على دين آخر (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، وأن دعوتنا الإسلامية دعوة عالمية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وأن حماسنا للخير والإصلاح في هذه البلاد ينبغي أن لا يقل عن حماسنا في بلادنا الأصلية فقام أحد الشباب محتجا وهو يقول: (لا والله، هؤلاء الكفار يجب أن ندعسهم بالأحذية)! وربما نسي هذا الشاب أنه عند نهاية الشهر سينتظر المساعدات الإنسانية التي يقدمها له هؤلاء الكفار!
إن ضعف التربية والتعليم قد ينتج خللا وشذوذا في السلوك والتعامل مع الآخرين، وهذا متوقّع في ظل الفوضى التي نعيشها، لكن الخطورة أن يلبس هذا الشذوذ لباس الإسلام، فتكون الكراهية (براء) والعنصرية (ولاء) والانتقام (جهادا).

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع