من أوراق مدير الشرطة المرحوم محيي الدين عبدالرحمن كيف انقذتني ارادة الله من حكم الاعدام؟

      

   من أوراق مدير الشرطة المرحوم محيي الدين عبدالرحمن
           كيف انقذتني ارادة الله من حكم الاعدام؟

           

                                

من الاوراق الخاصة بمذكرات مدير الشرطة/ المرحوم محيي الدين عبدالرحمن نقلها بتصرف ولده عميد الشرطة المتقاعد عدنان محيي الدين عبدالرحمن.

               

                     بقلم ولده عميد الشرطة الحقوقي
                      عدنان محيي الدين عبدالرحمن

كثيرا ما تكون تصرفات بعض الاشخاص العفوية سببا في إلحاق ضرر فادح تحو أشخاص آخرين قد يكونون غافلين عنها.

في عام 1939 كنت معاون شرطة السراي في بغداد، وكان مركز شرطة السراي اهم المراكز في قلب العاصمة بغداد وتتبع له مقرات الحكومة في السراي ومواقع عدد من الوزارات الهامة كما ان البلاط الملكي كان من ضمن الرقعة الجغرافية لهذه المعاونية.
خلال عملي في هذا المركز تمكنت من كشف بعض الجرائم المهمة ومنها على سبيل المثال سرقة سيف المرحوم الملك فيصل الاول في البلاط الملكي، وسرقة حصلت في دار رئيس الوزراء ارشد العمري، وسرقة في دار وزير العدلية المرحوم محمود صبحي الدفتري، وجرائم مهمة اخرى حتى ذاع صيتي في الاوساط العدلية والشرطوية وعموم الوزارات.
وحصلت حادثة سرقة دار احد وجهاء البصرة وكانت المسروقات نقود ومخشلات ذهبية ولم تتمكن شرطة البصرة من الوصول الى المجرم، ويبدو ان الرجل وصلت الى مسامعه وجود ضابط شرطة في بغداد له باع طويل في كشف الجرائم، وكان الرجل على صلة وثيقة مع مدير الشرطة العام حسام الدين جمعة، فما كان منه الا ان يركب القطار قاصدا بغداد فيصلها ويذهب فورا لمواجهة مدير الشرطة العام ورجاه ان يوعز بتنسيب المعاون محيي الدين عبدالرحمن لمعاونة شرطة البصرة في التحقيق بهذه الجريمة، وفعلا وعده خيراً.
كنت في مكتبي ولم يسبق لي علم بالموضوع حتى حضر مراسل مدير الشرطة العام يطلب حضوري لمقابلة المدير العام في مكتبه المجاور لمعاونية السراي، وحين دخلت مكتبه أدّيتُ التحية والسلام.. إلا أنه لم يرد التحية والسلام، وكان الغضب بادياً على وجهه، ثم وجّه كلامه لي قائلاً: (يبدو أنك أخذك الغرور في أداء الوظيفة، بحيث تطلب من أحد وجهاء البصرة أن يطلبك للتحقيق في جريمة سرقة داره)!!.

                   

              حسام الدين جمعه مدير الشرطة العام

أستغربت جداً من هذا الكلام وهذا الإتهام فأنا لا أعرف هذا الوجيه ولم يسبق لي اللقاء به او معرفته.. فقلت للمدير العام (ياسيدي.. أنا لا علم لي عما تحدثني به، فأنا لا أعرف أي شخص من وجهاء البصرة).. فقال لي (إنه من بيت الذكير) قلت له (لا أعرفه).. فأشار بيدد إلى الباب وقال (أخرج وسوف تصل إليك الأوامر) فأديت التحية وخرجت عائداً لمقر عملي في السراي.
عدت الى دائرتي وانا في ذهول وحيرة من هذا الامر الذي فاجأني وصدمني، وبعد مرور ساعة واحدة طلبني مدير شرطة لواء بغداد وقال لي: (ما الذي جرى بينك وبين المدير العام)، اجبته (سيدي انه يتهمني باني طلبت من احد وجهاء البصرة ان يسعى لترشيحي للتحقيق في حادث سرقة وقعت في داره)، فقال لي مدير بغداد: (لقد صدر امر نقلك من بغداد الى معاون شرطة عفك في الديوانية والالتحاق خلال 24 ساعة حتماً.
امتثلت للامر وغادرت مع عائلتي الى الديوانية ولدى وصولي واجهت مدير شرطة لواء الديوانية (المرحوم عبدالجبار الجسام) وشرحت له ما حصل لي مع مدير الشرطة العام فقال لي (لا تذهب الى عفك، وستكون معي معاونا لشرطة الديوانية وتكون ساعدي الايمن لما اعهده فيك من كفاءة وظيفية عالية).
مضت ايام واسابيع وانا في الديوانية ازاول واجباتي وعملي بكل اخلاص كرد جميل للرجل الذي اكرمني وابقاني معه في مركز لواء الديوانية. ويبدو ان بعض الوشاة سرّبوا خبراً الى مدير الشرطة العام بان المعاون محيي الدين عبدالرحمن لم يلتحق الى وظيفته في عفك فأضمر الشر من اجل الايقاع بي.

         

وحلت سنة 1941 وقامت انتفاضة مايس بقيادة العقداء الاربعة والمرحوم رشيد عالي الكيلاني ضد الامير عبدالاله والانكليز، وحصلت مناوشات حربية بين الجيش البريطاني في قاعدة الحبانية مع الجيش العراقي بقيادة العقيد فهمي سعيد، وعندما تأزمت الحالة في الفلوجة ، انتهز حسام الدين جمعة مدير الشرطة العام الفرصة فأرسل برقية من الشرطة العامة ببغداد الى شرطة الديوانية بنقلي من شرطة الديوانية إلى معاون شرطة الفلوجة على أن يكون التحاقي بها قبل 24 ساعة. وفعلا التحقت وحين وصلت الفلوجة رأيت الأوضاع فيها على أسوأ ما يكون والأهالي في حالة فزع شديد بسبب قيام الدوريات الانكليزية باطلاق النيران نحو البلدة من الجانب الآخر لنهر الفرات.
أسرعت بإخراج دوريات من الشرطة للحفاظ على الأمن ومراقبة الطرق وجسر الفلوجة الحديدي والاسواق، وبينما كنت بالقرب من الجسر سقطت قنبلة وأصيب قائد الجيش العقيد سعيد يحيى الخياط، وأخذت الدماء تنزف منه فأسرعت بنقله في سيارة الشرطة الى المستشفى حيث بادر الاطباء إلى إسعافه.
وفي اثناء عودتي من المستشفى اقتربت مني مدرعة بريطانية ونزل منها بعض الجنود المسلحين بالرشاشات، وقاموا بالقبض عَلَيَّ واصعدوني في المدرعة حيث سارت بي نحو القاعدة العسكرية في الحبانية، وهناك أودعت في السجن الحربي وبقيت فيه عدة أيام دون استجواب من آمر القاعدة، ثم سمعت بعض الجنود يتحدثون عن وصول رتل عسكري من الأردن بقيادة الجنرال (غلوب باشا).

                

ولدى وصول الرتل الى القاعدة في اليوم التالي حضر القائد الى السجن ومعه آمر القاعدة واخذ يتفقد المساجين وحين وصوله الى مكاني سألني: (هل انت ضابط في الجيش العراقي)، فقلت له (أنا معاون شرطة الفلوجة، وبينما كنت اقوم بواجباتي في المحافظة على الامن في البلدة قبضت علي دورياتكم واودعت السجن العسكري)، فامر على الفور باطلاق سراحي واعادتي الى محل عملي في الفلوجة).
وحين وصلت مدينة الفلوجة استدعاني قائد الجيش سعيد الخياط الذي نقلته بنفسي للمستشفى وبعد ان شفي من جروحه، وسألني: (لماذا اطلق الانكليز سراحك؟)، فحكيت له ما جرى لي مع قائد الجيش القادم من الاردن، فقال لي (معنى هذا انك اصبحت جاسوسا للانكليز فاطلقوا سراحك من الاسر لغرض جمع المعلومات وارسالها الى العدو!!!).

ثم امر بايداعي في السجن الانفرادي، وارسل برقية الى وزارة الدفاع ببغداد بانه قد تم القبض على جاسوس يعمل لصالح العدو الانكليزي، فجاء الجواب من بغداد بارسالي مخفورا الى وزارة الدفاع، واودعت السجن في الانضباط العسكري ولم يسمحوا لي بالاتصال باهلي.
بعد ايام اقتادوني الى المجلس العرفي العسكري المنعقد في معسكر الوشاش، وبعد الاطلاع على اوراقي والاستماع الى افادتي وبعد المداولة صدر الحكم عليَّ بالإعدام رمياً بالرصاص، وأعادوني إلى السجن العام في باب المعظم بانتظار المصادقة على الحكم من قبل الشريف شرف الذي نصب وصيا على العرش بدلاً من الأمير عبدالإله الذي هرب للبصرة ثم الى خارج العراق.
أما أهلي فحالما سمعوا الخبر بصدور حكم الاعدام حتى نصبوا مجالس العزاء في داري وأخذ الأقارب والأصدقاء يتوافدون لتقديم المواساة.
كنت في السجن قابعاً انتظر مصيري، وقلبي مطمئن بالإيمان بالله من أنني لم أقم بعمل يغضب الله سبحانه وتعالى، ولم أخن وطني، وكنت أكرر دائماً مع نفسي ((حسبي الله ونعم الوكيل)).
لم تمض سوى أيام قليلة حتى سمعنا ونحن في السجن أصوات انفجارات قوية في بغداد، ويبدو أنه فصف مدفعي من مكان قريب، ثم ازدادت الضوضاء وحركة عجلات عسكرية، وجاء من يخبرنا أن الجيش البريطاني قام باحتلال بغداد، وان القادة العقداء الاربعة هربوا الى إيران، وكذلك هرب المرحوم رشيد عالي الكيلاني الى السعودية. وبعد ساعات وصلت مدرعة عسكرية ونزل منها ضابط انكليزي برتبة نقيب ودخل الى السجن وامر باطلاق سراح جميع المسجونين فوراً.
خرجت من السجن وانا اتلفت يمينا ويسارا واذا بي ارى اهلي واقاربي يهرعون نحوي وهم يهتفون: الله اكبر.. الله اكبر.. والنساء يطلقن الزغاريد.. وكان هناك قبلا ودموع حتى وصولي الى داري في محلة العاقولية.
وبعد مرور يومين وصلت طلائع الموكب الملكي من الاردن حيث عاد الامير عبدالاله وحاشيته من الاردن الى بغداد، وباشر بمزاولة عمله في البلاط الملكي.

              

وحينها تشكلت وزارة جديدة برئاسة نوري السعيد، حيث قامت باجراءات سريعة لتمشية الامور وكان من ضمنها الغاء جميع الاحكام الصادرة عن المجلس العرفي في الحكومة السابقة.

اما وزارة الداخلية فقد قررت تاليف لجنة برئاسة المفتش العقيد لطفي مصطفى وعضوية مدراء الشرطة كل من بهجت الدليمي ومزاحم ماهر السامرائي، للنظر في موضوع التهمة المسندة لي من قبل قائد جيش الفلوجة العقيد سعيد يحيى الخياط.
وباشرت اللجنة اعمالها في مديرية الشرطة العامة واطلعت على جميع ما يتعلق بهذه التهمة ثم استمعت الى افادتي وفي الختام اصدرت قرارها بعدم ثبوت اي عمل مخالف لمقتضيات الوظيفة من قبلي، واوصت باعادتي الى مباشرة وظيفتي في مسلك الشرطة، وبعد الاطلاع على قرار اللجنة تقرر تنسيبي الى معاونية شرطة السراي.
وبعد سنوات عديدة ترقيت خلالها الى رتبة مدير شرطة حيث اشغلت منصب مدير شرطة كربلاء ومدير شرطة الموانئ في البصرة، واخيرا مدير شرطة لواء المنتفك (اي الناصرية) سنة 1953، وصادف وجودي في الناصرية زيارة المرحوم الملك فيصل الثاني ومعه خاله الامير عبدالاله وبعض الوزراء ومن ضمنهم حسام الدين جمعة الذي شغل منصب وزير الداخلية وخلال مراسم الاستقبال شاهدني حسام الدين جمعه ضمن المستقبلين للملك وحين ذهبت للسلام عليه فقد رد تحيتي ببرود واستعلاء كما هو شان استقباله لي حين كان مديرا عاما للشرطة. ولدى انتهاء زيارة الملك والوفد المرافق له وردت برقية من وزارة الداخلية ببغداد بنقلي من منصب مدير شرطة لواء المنتفك الى مدير سجن نقرة السلمان في صحراء البادية الجنوبية.
اكرر ما قلته في بداية ذكرياتي هذه انه كثيرا ما تكون تصرفات بعض الاشخاص العفوية سببا في إلحاق ضرر فادح تحو أشخاص آخرين قد يكونون غافلين عنها، وان الانسان الناجح لابد ان يدفع ضريبة نجاحه وتميزه لان بعض البشر يتملكه الحقد والحسد والبغض حين يرى انسانا ينجح في مجال عمله فيسعى للانتقام منه.. لكن لا يصح الا الصحيح وارادة الله فوق الجميع.

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

621 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع