

تيه الجنوب / الجزء الحادي عشر - قتلة الشيطان
أطل وجه له سمرة ليل الأهوار، كان شيخاً وقوراً بوجه فيه مسحة شباب عالقة حتى الآن، تبدو على سحنته سيماء التقوى، ولحية كثة مدورة بيضاء بلون القماش الذي يرتديه قميصاً تحت زبون رصاصي. يتدلى من على جنبه مسدس ألماني، العقال ومن تحته (اليشماغ) جنوبيان، يخفيان لون شعره الأبيض.
قالوا أنه الشيخ الريسان، عرفه أهله شجاعاً، يقدرون وقفاته معهم أيام الشدة، وبعد ان سلم وهو ماشٍ في طريقه داخل الحسينية، جلس في مقدمة الجالسين شيخاً، فهو كذلك ابن شيخ. نَظرتُ اليه ملياً فوجدت أنه بلغ من الوقار عمراً، أصبحت فيه متعة الاستماع اليه تفوق متعة التكلم معه، وانتظار ما يقوله أكثر زهواً من زهو انتظار الأشياء. المترددون معه ومع غيره أعداد كثيرة، ثوار قادمون من القرى وأطراف الهور، يحملون سلاحاً ورثوه عن الآباء، وآخر أخذوه من مخازن للجيش تركها حراسها، فانفتحت أبواب مشاجبها مرحبة، يسعون جميعاً الى مقاتلة الرئيس، عدوهم الأول ومن بعده الحزب الذي يديره. اعتقدوا غالبيتهم أن الفرصة مواتية، إثر غياب السلطة عن الأنظار، بعد أن تبخرت بفعل الصدمة التي كونتها خسارة الحرب في الكويت. أسئلتهم لثلاث أيام بلياليها، صباحاً وكذلك في المساء عن المستقبل والدولة، أما السيد قاسم، فبات يأخذ الرأي مني في كل المسائل القتالية، حسبني المستشار العسكري الأقرب الى الانتفاضة، أو له شخصياً باعتباره أحد قادتها المهمين، وباعتباري ضابط كبير، وسياسي معروف وسجين للنظام أصبح معروفًا، بعد زوال غبار الشك من على هيئته العامة.
في الدقيقة التي تمر تدخل جماعة دون أن تخرج أخرى، آخر جماعة حضرت لهذا اليوم كانت تلك القادمة من ناحية النصر، اقتربت بسلاحها لاهثةً، دخلت المكان وهي تهزج للانتفاضة. رحبَ بها السيد، شد على أزرها قوة إضافية سيكون لها فعل التأثير العظيم في مجريات الانتفاضة، وتحطيم عرش الرئيس. جلس أفرادها في اماكن نهض منها آخرون جاءوا من قبلهم فاسحين لهم المجال، وحال جلوسهم، بدأوا في تبادل الحديث مع من سبقهم. سألوا عن الموقف القتالي، فأوكلت لي صلاحية الاجابة، وهكذا أصبح الايضاح سياقاً اشبه بالمستمر لمن يأتون على شكل جماعات، حتى تسلل الملل الى داخلي من فرط التكرار. أول ما أبدأ به الايضاح اشارة الى المعنويات العالية للثوار، وأعداد المقاتلين التي تتزايد كل يوم، والى المخاطر المحتملة... هجوم قد يشنه الحرس الجمهوري من محورين، أولهما من اتجاه الكوت - الناصرية، سوق الشيوخ جنوباً الى البصرة، والأخطر منه الآتي من حافات الصحراء، باتجاه السماوة - الطريق السريع، إذا ما وصله، سيفرز قوة باتجاه سوق الشيوخ ويستمر باتجاه البصرة.
في كل مرة يتم التطرق بها الى هذا الهجوم المحتمل، ينكسر الصمت بسيل من الاسئلة التي تعبر عن كم القلق الموجود في النفوس، لكن انكساره هذه المرة جاء من صوت في آخر الصفوف، علا كل الاصوات، قدم نفسه العريف حميدي ترك لواءه العشرين أثناء انسحابه القسري من حفر الباطن، قال بصوتٍ عالٍ فيه حدة الواثق من القول:
- هذا كلام غير دقيق. الجيش منكسر يا سادة، والحرس الجمهوري مشغول بحماية الرئيس، ثم ان بغداد ستسقط بيد الثوار هذه الليلة أو التي تلي على أكثر تقدير، كما قال لي صديق جاء منها هذا الصباح ماراً بسوق الشيوخ في طريقه الى البصرة.
استنتاجك سيادة اللواء بعيد الاحتمال. الحرس الجمهوري قابع في ثكناته يخشى الخروج منها. ما تقوله كلام نظري.
انكسر الصمت مرة أخرى. وانقسم الجمهور في جداله فئتين، بل أكثر من فئتين، مؤيد لقول العريف، ومعارض لجرأته في انتقاد ضابط كبير بهذه السذاجة، وثالثة هي الأكثر عدداً "أولئك الباقون" على الحياد بين الفئتين، ينتظرون غلبة احداها ليكونوا معها على الفور. وعلى إثرها تزايد وقع الضجيج، واقترب العقد من الانفراط، ونهض السيد من مكانه متجهاً لاعتلاء المنبر بالاستفادة من سلطته الروحية في التأثير على المتلقين. أشار بكلتا يديه الى الجمهور، إشارة السكوت، وأخرى رد على قول العريف حميدي بالقول كل شيء ممكن، وكأن الشك قد تسلل اليه ثانية، أو إنه هكذا في أوقات الانفلات يلجأ الى سلطته الروحية، والى لغة الاشارة التي خبر ضمان تأثيرها النفسي على المتلقين. ومع هذا عاد وأعطاني فرصة الرد، كمن لا يريد التفريط بمستشاره العسكري.
بدأت في ردي التأكيد على أن الاستنتاجات التي قدمتها قبل قليل، بنيت على مشاهدات من قبلي لجماعات استطلاع من الحرس الجمهوري، كانت تعمل على محور الكوت –الناصرية. وأعدت التأكيد على أن هذا قد حصل قبل ثلاثة أيام، بالإشارة الى مبدأ عسكري قوامه عدم الاستخفاف بالعدو. عند هذه الاشارة زاد في مشاعري الحماس، فوجدت نفسي كمن يلقي خطبة عندما قلت:
- ان عدوكم وعدونا أيها الأخوة معروف بعناده، وقدرته على تعبئة الرجال، آلاف الرجال بقليل من الساعات. انه يمتلك أسلحة ومعدات مُخزنّةٌ في مواقع خاصة تكفيه قتالاً لستة أشهر، ثم ختمت قولي بأن الحرس الجمهوري لم يزجه الرئيس في قتال الحلفاء، أحتفظ به احتياطي استراتيجي ليستخدمه بالضد منكم منتفضين، كأنه يتوقع حصول الانتفاضة.
لا أتفق معك، قال العريف وكأنه يريد الاستمرار في السجال، ثم اردف:
- أعيدُ وأكرر أن هذا كلام نظري، اعتاده الضباط في المواقف الصعبة. بغداد ستسقط بيد الثوار هذه الليلة أو التي تلي على أكثر تقدير، هذا ما أكده الصديق الذي مر بيّ هذا الصباح كما قلت قبل قليل.... عن أي هجوم تتكلم سيادة اللواء؟.
تعمدتُ حرف السجال، ووضع العريف في حرج، فقلت:
- أرى من الضروري إرسال جماعة من الشباب الشجعان المجربين بقيادة العريف حميدي، لاستطلاع طريق الكوت الناصرية، بغية التأكد من صحة الاحتمالات الخاصة بالهجوم.
لقى المقترح ترحاباً من السيد قاسم الذي نادى في طلب مازن، الشجاع الذي أثبتت الأيام الأولى للانتفاضة ذلك. ناقشه بأمر الشباب الممكن اصطحابهم معه في مهمة الاستطلاع بقيادة العريف حميدي. وهو كذلك يشرح، التفتَ صوب العريف، ساعياً إبلاغه استعداد الشباب تنفيذ المهمة بقيادته اعتباراً من هذا المساء، فتبين له أنه غير موجود.
قال عنه القريبون من مكان وقوفه، أنه قد تسلل من بينهم منسحباً لا يعرفون وجهته، يعتقدون أنه جبان، وقال آخرون، لقد شاهدوه مصمماً على إجراء الاستطلاع لوحده، وإنه سيعود، في الوقت الذي استنتج آخرون بالقول أنه مندس من قبل الاستخبارات العسكرية ليشيع الفوضى وسط المنتفضين. وبين أولئك القائلين وهؤلاء المستنتجين قال فريق آخر، أنه استعراضي مهرج، حاول ركوب الموجة من أبوابها الأمينة مثل غيره الكثيرين.
.......
فرقٌ قسمها النقاش العقيم زادت عن الثلاثة، وكاد الأسلوب المتبع لتأكيد الذات الشعبي بادعاء المعرفة أن يحدث بينها ضغينة، لكنها لم تحدث، بل وانتهت حال توقف النقاش عند دخول القطان والدكتور مهند أستاذ علم النفس في جامعة البصرة، الابن البار لسوق الشيوخ، المعروف بحسن علاقاته، وامتداد انتمائه الى أكبر عشائر المنطقة. وهم كالمعتاد اتجهوا في السلام على السيد، ثم من بعده أنا الذي أخذت الموقع الثاني، وعندما لم يجدا مجالاً لاستمرار الحديث بسلاسة لكثر الصخب وعلو الأصوات، أقترح مهند خروجنا لغرض المشي، بحجة الرغبة في الحصول على نسمة هواء نقي تصلح للشم، بعد شعور داخله بالاختناق.
سألني أولاً عن القناعة بالتواجد هنا، مبيناً بالأمثلة عدم امكانية تحقيق أي شيء في هذا المكان، وقال:
- هؤلاء هم أهلي وناسي، وأنا الأعرف بطبيعة سلوكهم، وطريقتهم في التفكير، سيبقون هكذا يتكلمون ويتجادلون، وعند الفعل ستجد بعض منهم يغادرون المكان، وكأنهم غير معنيين فأجبته دون عناء تفكير:
- لكني لم أحضر الى هنا من أجل الاشتراك في الانتفاضة، بل وجدت نفسي في هذا المكان أسيراً في بداية المشوار، ثم ثائراً بالغصب فيما بعد، وخلاصة القول بصراحة إني أحاول التخلص من هذا المأزق، والاستفادة من هذا الوضع المضطرب، ومن ضعف أو انعدام سلطة الدولة لتحقيق هدف الهروب، لقد تملكني الشعور بملل البقاء قلقاً طوال الوقت.
- لكن زمن القلق قد قاربت نهايته، لم يبق من زواله الى الأبد غير القليل، لابد والحالة هذه العمل جدياً لتسريع هذا الزوال، ثم أن الحدود يا سيدي لن تذهب بعيداً، ستبقى ماثلة في مكانها، وسيبقى الوصول اليها من هنا أسهل الخيارات.
- كلامك مبهم، هل لك ان توضح ما تريده بالتحديد؟.
- لقد شاركت في انتفاضة البصرة التي نجحت في انهاء سلطة الرئيس في ربوعها كافة، وجئت هذا اليوم لأشارك مع أهلي في انتفاضة الناصرية، عرضت الأمر على الشيخ الريسان فأيدني بشدة، وأقترح عرض الموضوع عليك، لكن الحال الذي شاهدته هنا أقصد في الحسينية لم يعجبني، كأن الجميع في أعياد شعبية، وليس قتال شخص لديه الاستعداد لفعل أي شيء من أجل المحافظة على الحكم.
هززت رأسي متفقاً معه، وكذلك فعل الريسان، الأمر الذي شجعه على الاستمرار في خطواته بالكلام الى الأمام قائلاً:
- ما علينا إذن سوى وضع الأيادي مع بعضها البعض، والتوجه الى تشكيل جهد عسكري معارض للنظام، تقوده أنت كضابط محترف. "هنا أشر بيده اليمنى إلى جهتي، وكأنه يحاضر على مجموعة طلاب"، وأكون فيه مسؤولاً عن تعبئة العسكريين الفارين من وحداتهم، وكذلك يفعل الريسان والقطان، أنا من جهتي سأجلب لك في اليوم الواحد ما لا يقل عن خمسمائة عسكري.
- من أين لنا السلاح، والعتاد والقيافة العسكرية، أراك تُبسط الأمور، وكأننا في أحراش بوليفيا زمن جيفارا. المسألة ليست هكذا في العراق.
رد بالإيجاب، قائلاً:
- نعم انها ليست هكذا، وبالتأكيد هي ليست هكذا، لكن علاقاتي الاجتماعية، والعشائرية هنا تتيح لي فرصة التأثير على الشباب، وسترى مئات بل آلاف سيأتون بسلاحهم ولباسهم العسكري بين يديك، دعنا نجرب. ما الخسارة في التجريب؟.
لم يدم الوقت إلا ساعات، وكانت المدرسة الابتدائية لسوق الشيوخ مقراً لهذا الجهد العسكري المقترح، وغرفة المدير موقعٌ للقيادة والحركات.
في صباح اليوم التالي تجمع أول مائتي مقاتل بسلاحهم، ولباسهم العسكري. قليل منهم جاء معتمراً بندقية بلباس مدني بسيط. ثلاثة يحملون قاذفات (RBG7). واحد فقط جاء ومعه هاون ستون مليماً دون قنابر. فأصبحت باحة المدرسة ساحة عرضات، يقف على أرضِها المتجمعون بالنسق الثلاثي.
رَحبتُ بهم أولاً، وأشاد الدكتور بشجاعتهم ووطنيتهم أبطال، مُضَحيِن من أجل العراق. ومن ثم انتقلنا الى الجانب العسكري، إذ لا وقت لدينا للتأخير، سألت إن كان من بينهم ضباط، فتقدم شاب في العشرينات من عمره، عرّفُ عن نفسه الملازم كريم من صنف الهندسة الآلية الكهربائية، ووقف جانباً، طلبتُ من ضباط الصف التقدم خطوة الى الأمام. فتقدم عشرون ضابط صف برتب مختلفة.
بدأت وإياهم تقسيم المتطوعين الى فصائل، على رأس كل فصيل ضابط صف. سحبتُ سجلاً جديداً من سجلات المدرسة، سلمته الى الملازم كريم لتسجيل المتطوعين حسب الفصائل، والى حين تيسر عدد كاف من الضباط سيتم تشكيل سرايا. وقبل أن يتركنا الدكتور قال، ان ما تم التوصل اليه هذا الصباح خطوة جيدة تبعث على الاطمئنان، فأيدته وكذلك فعل الملازم كريم. وطلبت من المتطوعين باللباس المدني، ضرورة بذل الجهد بغية الحصول على لباس عسكري، سروالاً على أقل تقدير، لكي نوسم التشكيل بالمهنية العسكرية.
عند هذا الحد غادرنا الدكتور، وعاد قبل مغيب الشمس ومعه خمسمائة وخمسون عسكرياً بكامل أسلحتهم، بينهم النقيب صلاح من الفوج الثالث اللواء الخامس عشر، وزعوا مثل أقرانهم الى فصائل. اقترح النقيب توزيع الفصائل الى سرايا، وإطلاق تسمية "لواء النصر" على هذا الجهد العسكري المميز.
.......
وحدات من الجيش العراقي تتمرد على الرئيس بقيادة لواء النصر، هكذا هي الاخبار التي انتشرت في الاذاعات العالمية، وَسرت اشاعات بين الناس عن تهيؤ ضباط عديدون الى الالتحاق بلواء النصر، وعن حصول اللواء على دبابات بات يخفيها بين قصب الأهوار. حضر الريسان الى المدرسة، أي مقر لواء النصر في اليوم الثاني ومعه مائتي عسكري مسلح من ابناء عشيرته، وما زال يحث الباقين بقصد الالتحاق. كلفَ شقيقه خالد مع اثنين من أبناء عمومته بالتجول بين بيوت العشيرة لهذا الغرض، وَعدَ بالتحاق العقيد حمزة الى هذا اللواء في اليومين القادمين، حسب اتفاق تم بينهما، سيحصل بعد توديع عائلته في الناصرية.
لقد أخذنا نفساً فيه ثقة عالية بأننا سنعمل للانتفاضة شيئاً لم يعمله غيرنا، وفي نشوة الثقة هذه وربما لتعزيزها أكثر سار بنا الحديث الى رموز الحزب وأخطائه، وكوارث حروبه، ولولاها وظلم الرئيس، لما حدثت انتفاضة وكان العراق سائراً باقتدار في طريق التطور والاستقرار. بين الريسان في مجرى حديثه أن السيد نعيم حداد عضو القيادة رئيس المحكمة الخاصة بالمؤامرة موجود في مضيفه الآن، فتذكرت وقع المؤامرة، ومجموعتنا فيها، واختلاف العراقيين وبينهم الحزبيين في تسميتهم، متآمرون أم ضحايا تآمر، أم قرابين قدمهم الرئيس والقريبون منه لالتهام المناصب العليا في الدولة والحزب.
قلتُ ومازال السباب الجارح من چاسب ومجموعته يتضخم صداه في اذنيَّ العاطلتين، بضخامة تقترب من ضخامة الدق من على أبراج الحفر:
- كم هي الدنيا صغيرة. عالم بائس بلا أمان، أو بالأحرى، عراق هو هكذا بلا أمان. يكون الله له في العون بهذه اللحظات الحرجة.
التفتُ الى الريسان ثم أكملت قولي:
- أرجوا أن تأخذ بالك من نعيم وتجنبه الخطر، إنه وإن كان قد أصدر ذلك الحكم الجائر بحقي وباقي الزملاء، لكنه إنسان طيب، وقع في ذاك الوقت الصعب تحت مطرقة الرئيس، كان عارف حقاً استحالة عصيان أمر الرئيس، متأكد أنه سيحشر معنا في قفص الاتهام إذا ما تأخر قليلاً عن التنفيذ.
استمرت المدرسة نشطة في تنظيمها للمتطوعين، ورص الصفوف، وتهيئتهم لمرحلة قتال ندرك صعوبتها. عصر اليوم الثاني لتأسيس اللواء كان مزدحماً بتوزيع المنتسبين على السرايا، وفي نيتنا الانتقال خطوة الى الأمام لتشكيل أفواج خفيفة، قادرة على التحرك للقتال في أكثر من مكان بغية ارهاق الجهاز العصبي لجيش الرئيس.
كان دفء الشمس لذيذاً، وقبل أن يذهب دفئها بساعة، دَخلت من باب المدرسة التي يحرسها جنديان من جنودنا المتطوعين، سيارتان، لم يستأذن أصحابها الدخول، ولم يمنعهما الجنديان، لأنها سيارات تحمل علامات مميزة لمحطة (CNN) الفضائية الأمريكية، ولأن خلفهما حماية من ثلاث ناقلات أشخاص مدرعة نوع همر.
ترجل منها شاب بملامح غربية، ينطق العربية بضع كلمات، إعتاد الاستفادة منها في التقرب الى أشخاص، يستهدفهم في اللقاءات التي يبعثها مباشرة الى محطته في واشنطن. وجه كلامه اليَّ وأنا جالس على كرسي المدير خلف مكتب بسيط.
سأل:
- هل أنت سيدي قائد لواء النصر.
- نعم.
- جئنا من واشنطن، لتغطية الانتفاضة الدائرة، علمنا بوجود مقر لكم في هذه المدرسة، وددنا نقل حقيقته الى المشاهد، وصاحب القرار الأمريكي.
قال قوله هذا وهو ما يزال يسهب في القول لغرض التهيؤ لإتمام اللقاء، مد الفنيون أسلاكهم داخل الغرفة التي بقيت ملامحها غرفة مديرٍ لمدرسة ابتدائية. فتحوا صحونهم المطوية فوق أظهر السيارات، بدأ اللقاء بسيل من الأسئلة عن حقيقة هذا التشكيل، وهل هو فعلاً عسكري الطابع والتوجه، وعدد المتطوعين، وفيما إذا كان بينهم أشخاص قادمين من خارج الحدود، ومدى استعدادهم لصد هجمات متوقعة للحرس الجمهوري؟.
لقد أكمل اللقاء بالوقت الذي حدده مسبقاً نصف ساعة، ثم سأل عن القيادة الأخرى في الحسينية، فسارع الملازم كريم لإيصالهم اليها.
لقد خرجوا باستعجال واضح، وكأنهم حضروا لمهمة محددة أتموها كما يريدون، وبعد خروجهم أقترب الدكتور مهند والنقيب صلاح ليسألوا، فقلت أني لم أكن مقتنعاً بالإجابات التي أعطيتها، لأسئلة وضعتها الشبكة مقننة مسبقاً، لكني لم أجد غيرها سبيلاً لتفادي استفادة الرئيس وقادته العسكريين من مضمونها.
بعد دقيقة واحدة وصل أفراد الشبكة ذاتها الى الحسينية يتدافعون مع ظلالهم، لأن نشرة أخبار العاشرة في واشنطن أوشك بثها على الانتهاء. دخل الشاب ذاته صاحب الملامح الغربية، ومعه مساعدوه وكذلك الفنيون. سأل عن القائد في هذا المقر، أشار السيد قاسم بيده اليمنى الى الصورة المعلقة خلفه قائلاً:
- إنه القائد رضوان الله عليه.
- لقد جئت الى هنا بقصد المقابلة الفورية لقائدكم، أرجو أن تدلني على مكانه بينكم، لم يبق لي من الوقت ما يكفي لبث ما يقوله على الهواء مباشرة. فأعاد السيد اشارته الى الصورة واقفاً هذه المرة ومعها كرر القول:
- سلام الله عليه، وكما قلت لك هو القائد الأعلى لنا، ولغيرنا من المجاهدين المنتفضين.
- جئت لمقابلته. فرد عليه السيد قاسم بسؤال لا لبس فيه:
- كيف لك أن تقابله، وهو شهيد من ألف وأربعمائة عام؟. مشكلتكم أيها الأمريكيون لا تعرفون ثقافتنا، ولا نهج تفكيرنا نحن المسلمين.
- نعم ما ذا تقول؟.
- أقول لك أن قائدنا الامام، شهيد منذ ألف واربعمائة عام مضت.
لم يجرؤ الشاب على مواصلة الحوار.
لملم شتات نفسه، وأخذ كثير من الهواء المخلوط بدخان السكائر الرديئة، واتجه على رأس مجموعته ببطء نحو الباب، ومن ثم الى المدرسة التي أوقف رتله بجانبها. ترجل قاصداً إياي قائد لواء النصر، أشرَ الى صاحبه بعدم التصوير، فاللقاء هذه المرة خاص، وقال:
- عدت لأسأل عن ماهية حربكم؟.
فأجبته دون جهد لإخراج ما عندي من الكلمات:
- في هذه الحرب رأيت جندياً يسير بلا رأس.
سأل وبعد أن أرتد خطوة الى الوراء:
- من أنتم؟.
قلت بسذاجة، قتلة الشيطان.
أستفسر وهو في الطريق منسحباً:
- أين يعيش الشيطان.
أجبت أيضا بسذاجة، بيننا من الفرات الى النيل.
...........
حضر الريسان مقر اللواء في يوم وجوده الثالث، كان حضوره مبكراً على غير العادة، دخل الغرفة الخاصة بالقيادة، أي غرفة المدير، مثل واحد مهموم، قال لم يأخذ فطوره بعد. تكلم عن خطورة الموقف، وعن قيادة ثالثة للانتفاضة في سوق الشيوخ بزغت قبل شروق الشمس، شكلّها السيد حسين البنا، بعد تجميعه أكثر من مائة شاب من عمال البناء، شرعوا في أول خطوة لهم بمقاتلة قوات السيد قاسم حول خزاني وقود، تركها الجيش قبل انسحابه من المنطقة، وكذلك على النفوذ.
ومن هو حسين البنا بحق السماء؟. سأل الدكتور مهند، فأجابه الريسان:
- انه الابن البكر للأسطة حسون، يعمل خَلفة في مجال البناء، يسكن مع والده في حي الوحدة، لف عمامة من أول يوم حصلت فيه الانتفاضة، يدعي أنه من جماعة الامام.
- أي امام؟.
- لا أحد يعلم.
أكمل الريسان جام غضبه، ومن بعد طلب مناقشة ما جرى وباقي التطورات الحاصلة، وتم له ذلك فالدكتور والنقيب والملازم كريم شاركوا هم أيضاً في المناقشة، التي تمخض عنها أوامر صدرت بتأجيل المهام التي كلف بها الملازم كريم، لاستطلاع احتمالات حصول هجوم من جهة الكوت، وكذلك النقيب صلاح لجس نبض الفوج الثاني اللواء التسعون في معسكره المؤقت شرق الطريق السريع، وإمكانية تطوير عملية الجس هذه الى اقتحام بهدف الحصول على أسلحة وعجلات، فالموقف الحاصل لهذا اليوم يحتّم التأجيل، وضرورة عمل وجبات حراسة على المقر لتفادي أي احتكاك بجماعة البنا.
مرت الليلة هادئة، نشاطات للبنا بعيدة عن المدرسة، تقترب أكثر من الحسينية، كمن يريد حسم الموقف التصارعي معها أولا، ومن ثم التفرغ الى المدرسة فيما بعد، لكنه ومقاتليه مَنعوا مع حلول الصباح رتل من المتطوعين العسكريين كانوا قادمين في طريقهم الى المدرسة، صادف مرورهم قريب من دائرة الزراعة التي يتخذها البنا مقراً له، أسمعُوهم بعض كلمات نقد، وتجريح للجيش الذي فرّ من ساحة المعركة مكسوراً كما كانوا يقولون، حتى سحب أحد المتطوعين أقسام بندقيته للرد قتلاً، لمن تطاول على الجيش الذي أُقحِمَ في معارك غير متكافئة، خسرها لعدم رغبته القتال الخاسر، فتدخل آخر لتهدئة الوضع، واقتراح الالتفاف من بعيد بغية الوصول الى المدرسة.
في هذا الوقت الحرج تسرب عن السيد قاسم، عدم رضاه عما يجري في المدرسة التي أخذت بعض متطوعيه من العسكريين، وقللت كثيراً من حشود كانت تقف صفوفاً داخل الحسينية وخارجها ساعية لتقديم الولاء. فتكون بسبب عدم الرضا هذا، وطموح البنا في تزعم المنتفضين، مؤشرات عراك محتمل لاحت في الأفق القريب، ليس بين جماعة البنا وبين جماعة السيد قاسم، بل وَحُشرت المدرسة طرفاً ثالثاً باحتمالات ليست قليلة، حتى أضحت التهديدات المغلفة بقدر من العتب تصل تباعاً، ومعها اتهامات تساق مباشرة من دون غلاف، اكثرها قساوة تلك التي تقول ان البعثيين يحاولون إعادة تنظيم صفوفهم في المدرسة تحت مضلة الانتفاضة، ينتظرون الاجهاز عليها حال اقتراب الجيش من مقراتها، وأكثرها خطورة ظهور العريف حميدي في الحسينية مُرحباً به، مدعياً الذهاب شخصياً لاستطلاع الطريق الذي لم يجد فيه آثاراً لأي حرس جمهوري، ولا إشارات لنوايا هجوم، فعززت عودته الفكرة التي جاء بها من قبل عن عدم دقة الضباط، بل وزيدَ الشك بنوايا وجودهم بين الصفوف. أفكارٌ وجدها نافذةً الى عقول السامعين بسرعة البرق.
عند هذا الحد، شعرتُ بغزةٍ في جهة قلبي، كمن صعقه تيار كهرباء، وقلت:
- إنه لأمر خطير فعلاً.
قلتها لإسماع الموجودين، وأضفت أنها الأخطر من مواجهة الرئيس، عدواً معلوماً. كما إن المواجهة أو الصدام من أي نوع، وبأي مستوى سيكلفان دماء من بين الثوار، وسيجهضان الانتفاضة في سوق الشيوخ وخارجها، وهذا ما لم أسهم فيه بأي حال من الأحوال.
وما العمل؟، سأل مهند وباقي الضباط. فأجبت والشعور من أن رجالات النظام في أبو غريب عاودوا مداهمتي بصمت مثل كومة قاذورات:
- الخيار الوحيد التحاقكم جميعاً الى قيادة الحسينية، ضباطاً وجنوداً، وما لديكم من أسلحة، عسى أن ترجحوا كفتها على حسين البنا، لأن تعادل الكفتين صراع يتطلب فضه صدام مسلح، نتيجته خسارة أكيدة لكلا الطرفين.
أنا لن التحق لأية جهة غير عسكرية، سأعود الى أهلي في قضاء الحويجة، قال الملازم كريم، تبعه النقيب صلاح قائلاً:
- أحس الخذلان يتملكني من أعلى قمة شعري حتى أخمص قدميَّ، أشعر أني مخنوق، وقد صار حالنا مثل حانة يبكي فيها السكارى على حالهم، سوف أصطحب أتباعي وأغادر الى مدينتي الحلة، فهي الأقرب الى القيام بأعمال هجومية على معقل الرئيس.
قلت:
- أنا لا أتفق معك، ورحت بعيداً في القول:
- ان طبيعة الانتفاضة والقتال في مجالها، يحتاج الى قواعد إدارية وجماهيرية والى سند فكري، وهذا لم يتيسر لنا ولك، إلا إذا تمردت وحدات بكاملها وأتسع التمرد ليشمل فرقاً وفيالق، وهذا لم يحدث، وسوف لن يحدث على الأغلب، عندها ستجد أنك بمواجهة مجاميع بالعشرات يقودها أمثال حسين البنا، وستدفع حياتك وجنودك ثمناً قبل الوصول الى الحلة بهذا القدر من المتطوعين، وستعرض الانتفاضة الى خطر التآكل. أنصحك الالتحاق بالحسينية أو الانسحاب من العمل نهائيا والتواري عن الأنظار، لأن القادم خطير، لا تقوى على مواجهته.
وبعد قولي هذا سألت الدكتور عن خطوته التالية فقال:
- سأتجه الى البصرة، لقد حققنا فيها خطوات يمكن تطويرها، لدينا شباب جيدون، وبقايا عسكر متفرقون، سأعاود محاولتي إيجاد ضباط ينتظمون في الصفوف المنتفضة، وينظمّون جهدها العسكري. أرى في هذه الطريقة سبيلاً وحيداً لحشد ما يكفي من جهد لتأمين الهجوم على أزلام النظام، وإرساء قواعد الدفاع ضد ما بقيّ من عسكره متفرقين على بقايا معسكرات.
توقف عن الكلام وسأل:
- وأنت، ماهي خطوتك القادمة؟.
- أنا هدفي واضح، سأباشر طريقي الى تحقيق الحلم الموعود. سوف لن أتوقف حتى عبور الحدود.
نهضت من مكاني مكسوراً، ومع هذا أشعر بالثقة من أني تصرفت بشكل صحيح، وأسهمت في تفادي صِدام خطير، قد يحول دون تآكل الانتفاضة في هذه المنطقة التي أحببتها لأربعة أيام تمثلت في عقلي أربع سنين.
..........................
فجأة ودون استئذان شرخت شيماء درقة الصمت الذي حل مع انبلاج الصباح، وبلهفة طفل صرخت:
- سوف لن أغادر المكان، ابقوني هنا في هذا المكان.
لم أفعل شيء يغضبها ولن أتمكن من فعل شيء، يثير الموجودين في بيت حللنا فيه ضيوفاً غرباء، وكل ما فعلته، أشرت الى والدتها كي تتدخل، وتركتهم لأعيد الحسابات، وتدقيق الاتجاهات، فقرار المغادرة قد اتخذ، ولا شيء يحول دون التنفيذ بعد قطع التماس مع الثوار، خطوة واحدة وأكون في الضفة الأخرى من العالم الذي حلمت به خالياً من السجون، ومن أحكام تقام على الانسان بمجرد الشك بنواياه وبعض الظنون. وكانت الخطوة الأولى تهيئة السيارة، لتكون جاهزة للعبور وسبيلاً لتحقيق هذا الحلم، فأشرت الى مازن أن نبدأ، وبدايتنا تجوال لنصف يوم بين بيت الأسطة جواد الميكانيكي الوحيد في المنطقة لهكذا نوع من السيارات، وبين محله في الحي الصناعي، لإجراء فحص شامل وتصليح بعض أعطال أخشى تأثير بقائها على السير في الصحراء، وجدال عن استيفاء أجور التصليح، فقال:
- أرفض أن أتقاضى أجراً من ثوار دعموا أهل سوق الشيوخ، وأضحت سيرتهم هذه تتردد على كل الألسنة. هل تقبل أنت هذا لو شاءت الظروف، وحللت عليك ضيفاً في بغداد؟.
فأجاب مازن وهو في الطريق الى ركوب السيارة:
- لا لن يقبل.
بعدها جلس الى جانبي، وأكمل:
- ان كل شيء جاهز للشروع باتجاه الحلم الذي تريد، وجهتنا ستكون المستوصف الصحي الذي أقامه الأمريكان لتقديم العلاج المجاني لأهل السوق.
فسألته:
- ماذا عن المهام التي كلفت بها من قبل السيد؟. كيف لك أن تتركها وترافقني الى ذلك المستوصف؟.
رد وهو الواثق من نفسه:
- أنا متفرغ لك هذا اليوم ومهمتي أدلك، بل أوصلك الى مكان وجود الأمريكان في المنطقة، وهذه مهمة وضعتها لنفسي تفوق باقي المهام ومن أي طرف كان.
***
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/68918-2025-09-12-10-15-33.html

529 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع