تيه الجنوب - الجزء العاشر / اليـأس وسط ركام التيه

تيه الجنوب / الجزء العاشر / اليـأس وسط ركام التيه

انفتح المدخل على باحة واسعة مكشوفة الى فضاء مفتوح بانت منه السماء صافية مسالمة، في زاويتها اليمنى نخلة مكتوم، فاق سعفها أغصان التينة العجوز، خجلة من انحناءة جذعها قبل الأوان، وفي زاويته اليسرى تنور يجثم فاتحاً فاه، استعداداً لوجبة خبز لازمة للعشاء، فالضيف القادم من بغداد له شأن كبير، والتوصية الآتية من السيد قاسم تثبت هذا، وان كان تفسيرها توصيةً، ظاهرها احتفاءً بوجود بطل تحدى الرئيس، وحقيقتها تعويض نفسي عن الشك المتبوع بتهم اقتربت من تقديمه كبش فداء على ناصية الموت. اختفت مع فتح الباب الواسعة مشاعر التوجس في عقول الموجودين، حلت محلها انطباعات بطل تحدى الرئيس، سجنته أجهزة النظام، تسلل عبر موانعها المنصوبة نقاطاً في العقول، ومئات السيطرات العسكرية القائمة على ذاك الطريق القادم من بغداد، وصل منها سالماً الى آخر محطة له في سوق الشيوخ. ضيافته حصراَ في هذا البيت الذي يعود تاريخه الى عشرات السنين تكريماً له. كان البيت واسع المساحة مبني على الطراز العثماني القديم، ضم في أيام عزه ثلاثة أخوة بوالدهم الكبير حمزة السهلاني. ورثه وأعاد ترميمه حسن قبل عشر سنوات. قيل ان هذا البيت ضيّفَ نوري السعيد في أربعينات القرن الماضي طوال زيارته سوق الشيوخ. تديره الوالدة المعروفة بسيطرتها على كل شيء. حاولت إحياء تراث العائلة بتزويج ولديها، واسكانهم معها في ربوعه الرحبة، حيث حلت به أولاً زوجة في عامها الرابع عشر. تزينه ثلاث بنات بعمر الشباب. تُقدم العمة وجيهة، مساعدة لأهل البيت منذ استقرارها في أحد غرفه عندما كان حسن، الأخ الأكبر لها ظلاً وارفاً على أركانه العامرة، رافضة الزواج من شباب تقدموا لخطبتها، إثر استشهاد حبيبها الملازم صابر في معركة المحمرة عام 1982 بعد زواج لم يدم اسبوعاً، حتى فاتها قطاره السريع، فأصبحت بعدم توقفه في محطتها العتيقة جزءاً من هذا البيت.
حاول مازن كبير العائلة أخذ الدور الذي كان عليه الأب مسيطراً قبل اعدامه بتهمة ايواء أحد الثوار العاملين في الأهوار، يتبعه عدنان التسلسل الثالث بين الأخوة، يقلده في كل شيء، عدا المشاكسة واللهو مع طلاب صفه الخامس الثانوي. ترك المشاكسة فعلاً مع بدء الانتفاضة مصاحباً شقيقه في أعمال القتال ضد قوات الرئيس، رغبة منه، أخذ الثأر المتبقي تحت وهج الذكريات لمقتل والدهما غلاً دون مقدمات.
وقف أهل البيت على أقدامهم، خلية نحل مَلكَتِها ناصحة، احتراماً لضيفهم وتقديراً له، بطلاً ترك الرئيس، التحق بالثوار مناصراً لتوجهاتهم في اسقاطه. هكذا هي الاشاعة التي سرت بين أهل المنطقة، وعموم سوق الشيوخ بعد أخرى سبقتها، عدته جاسوساً مساعداً لوزير التصنيع، كادت تحشره ميتاً مع أعوان الرئيس. يسعون بوقفتهم اتمام مستلزمات الضيافة، كما هي عندهم ريفيون اعتادوا اكرام ضيوفهم من أي مكان يقدمون.
في خضم إجراءات الضيافة انفردت رسمية الأبنة الثانية بعد مازن بالآنسة شيماء في الغرفة العائدة لها، ضمن غرف أخرى في الطابق العلوي من البيت، احتفت بها دون غيرها من البنات. حاولت اقتناص فرصة السؤال عن بغداد والحياة والشباب وقضاء الوقت وأخبار السينمات. وقفت منزعجة عندما علمت بانتهاء عهد السينمات التي لم تشبع من الفرجة على أفلامها العربية، وحلول عصر الفيديو، وافلام خاصة تُجلب الى البيوت. ركزت في حديثها على الزواج والحب غير المسموح به في سوق الشيوخ. نزلت مسرعة على صوت الأم تناديها بقصد المشاركة في نصب مائدة العشاء.
مُد العشاء على بساط ملون من النايلون قريباً من انتصاف الليل، الضيف المحتفى به ورجال أهل البيت، وسطهم السيد قاسم، يبارك ويشيد بمازن وعائلته المعروفة بالضيافة، يستذكر شهامة والدهم ومناصرته الثوار، واستشهاده من أجل قضيتهم، حاول الايحاء بوجود الوالد ضمن تنظيماتهم السرية لحزب الثوار الاحرار، تعهد بتكثيف الدعاء على روحه الطاهرة، تمنى دخوله الجنة، واعداً تسجيل أحد شوارع سوق الشيوخ باسمه اللامع، تخليداً لذكراه.
بساط آخر للعشاء في مكان آخر من البيت نُصب للنساء، وقفت على حافته أُم مازن ومساعدتها العمة وجيهة. يصدران الأوامر، ضرورة تناول كل الطعام المطروح على البساط جزءاً من الخروف المذبوح إكراماً لضيوف أعزاء.
هكذا انتهى اليوم بأحداثه المتناثرة متأخراً عن المعتاد في هذا البيت. الظروف لا تساعد على التأخير، فالتيار الكهربائي مقطوع، وأصوات الرصاص رشقات تسمع بوضوح. خلدوا جميعاً الى النوم، الا رسمية، بقيت محاولاتها سارية لامتصاص المعرفة كاملة عن أهل بغداد، وبنات بغداد، وسبل العيش والعلاقات، وكذلك مازن المشغول بالاعتذار عن الشك الذي وجههُ جزافاً، وما آل اليه تهماً كادت تقدم ضيفه الى الموت المحتوم.
غيّر نبرة الحديث ووقعه من الاعتذار المتكرر الى الرغبة في استيعاب تفاصيل القصة الكاملة لسجن أبو غريب، بعد ان وجد رغبة لسرد وقائعها كمن يريد تفريغ وعاء مملوء بالسم الانفعالي المكبوت لست سنوات.
بدأت بإفراغ المكبوت أو جزء من المكبوت مع انتصاف الليل، لكن المكبوت في العقل الموجوع كثير لا يمكن افراغه بجلسة واحدة، لذا سار المنحى باتجاه ترك التفاصيل، وعذابات الجوع، وموت الزملاء. والمسك بحال البقاء في وضع التعري لستة أشهر متواصلة، عندما أمر چاسب وعلى وفق أمر تسلمه من لامع، ضابط أمن الجهاز خلال زيارته القاطع صباح اليوم أن نبدأ يومنا بالتعري، كانت الصدمة التي تسببها أول يوم تعرٍ لا توصف، حتى أني كتبت على الحائط بأظافري، أخشى الموت عارياً.
كان يوم شتاء، برده قارص، وقف فيه چاسب والحراس على جنب، يتفرجون علينا عراة ونحن نرتجف برداً وحياءً، لا نعرف ماذا نعمل، كأننا فقدنا السيطرة العقلية على حركة أجسادنا العارية لفترة وجيزة في مشهد درامي محبوك الإخراج. وكان الأسبوع الأول هو الأقسى على النفس الغائصة في عتمة الحياء، الى أن بدأ الجسم يقبل شكل التكيف قليلاً الى برد الشتاء، والتحرك كثيراً لاكتساب الطاقة، والابتعاد عن احتمالات الموت انجماداً بعد ان ذاب الشحم في الأجساد، وبقيت الجلود ملتصقة بالعظام والعضلات.
لقد استمر وضع الايادي على الاعضاء التناسلية لعموم ذاك الأسبوع، حتى أعتاد الجميع رفعها والتجول تكيفاً لنوع جديد من الحياء، وأستمر الخفراء والحراس من جانبهم يتمتعون بالمنظر غير المألوف لما يقارب الأسبوع، حتى اعتادوا هم أيضا على الأمر بشكل مألوف.
أسبوع التعود القسري المحزن انتهى بوقع سريع، ابتكر من بعده چاسب بعد تعيينه رئيساً للحراس، طريقة تعذيب تنسجم وحالة التعري. جمعنا في الساحة المغلقة، هجم ومن معه بالهراوات وأنابيب المطاط على أجسادنا العارية، انهالوا ضرباً على كل بقعة جلد لم يحتبس فيها الدم الأزرق بعد، حتى تكورنا جميعاً في زاوية، بدأنا نتدافع الواحد مع الآخر، نتنافس فيما بيننا على تفادي الضربات، لم يكن أحد منا مهتم بنزول العصي والأنابيب على غيره وإن كان أعز صديق. يا لها من لحظات تعيسة، تكونت نتيجتها كتلة أجساد منحنية اختفت وسطها الرؤوس، ظهرت في حافاتها الخارجية المؤخرات في وضع يثير الاشمئزاز، تلذذ بمنظره الحراس الى المستوى الذي زيّدوا فيه الضرب على تلك المؤخرات، حتى نزلَ منها الدم بغزارة، يشتهونه لإشباع ساديتهم المستثارة.
عند هذا الحد بت أتلوى في مكاني من بؤس الذكريات، وصوتي قد تغير كما لو انه ليس صوتي، وانما صوت شخص آخر حزين أحمله في داخلي، فتوقفت قليلاً عن الكلام، وعدت الى ما بدأته مسترسلا في رواياتي، بالقول، تخيل الألم الذي يحسه من يضعوا قطب التيار الكهربائي على أذنيه مرة، وعلى مقدمة عضوه التناسلي مرة أخرى، وتخيل الحيرة عندما يطلبوا منك اختراع قصة جنسية أنت طرف فيها، مدعومة بالتفاصيل والحركات، بعض منا أخذ النضال من أجل الحزب جل وقته فلم تكن له قصص جنسية، ولم يشفع له النضال، فبرع باختراع قصص ومواقف جنسية أكثر حبكة من تلك التي ترد في الروايات الجنسية الجريئة التي كتبت بأقلام نسائية. أمر يصعب تخيله. آه كم كان مؤلماً، إذ وقبل أن يتمكن الواحد منا من تماسك نفسه، واكمال قصته الوهمية، يسارع الحارس بفتح التيار الكهربائي وغلقه، ليكون ألماً أكبر حقاً من عذابات القبر التي تخيلها المتدينون للكفار. أقولها بصراحة لقد فضلت في حينها عذابات القبر على ألم التيار الكهربائي، ونسيتُ آنذاك نعمة الدفء في زمهرير الزنزانة الذي لا يوصف، ونسيت التجمع حول المدفأة النفطية، علاء الدين، ومواقد النار عند أهلي في قرية الجمجمة.
كان حلول الليل في تلك الشتاءات ايذانا بيوم الحساب، والسقوط من على الصراط المستقيم الى جهنم نارها نوع من الصقيع. إنها كانت مختلفة، جهنم التي عرفتها وهج من نار، كنت أتمنى هذا الوهج من النار لتفادي لسع الزمهرير، خاصة عندما أقف على قدم واحدة وسط الزنزانة المليئة بماء تقترب درجة حرارته من الانجماد، وأحس الهواء فيها وكأنه مصنوع من قضبان الحديد، عندها تراودني رؤى تتقافز فيها جثث وجرحى حروب مشوهين، فيتهدل رأسي مثل مريض مخدر لا يقوى على رفعه من على طاولة العمليات. أتذكر الدثار الذي كان يلفني والحبيبة فتزداد حاجة جسمي الى الدفء وأصاب بالغثيان، وأفقد السيطرة على ذاتي المتجمدة، وفي بعض المرات تسوء الحالة حد الهذيان، والتباس التخيل.
في إحداها تخيلت، جنياً بعمر الشباب يسكن معنا في الزنزانة، كلمته فقال عاقبني كبير الجان بالعيش في زنازين البشر، حاول مضاجعة صاحبي عندما غط في النوم، فخفت حقاً حتى فارقني النوم، وفي أخرى تخيلت كتابات على حائط الزنزانة الأمغر القاتم، تلعن الرئيس، وعندما سألت حليم فيما اذا كان يراها هو الآخر، زيدّت مخاوفي إجابته عندما قال، من يكتب هنا وفي هذه الزنزانة بالذات أحد الذين صُلبوا فيها من قبل.
استمر مازن يسمع رواياتي بشغف كبير. سأل عن بعض التفاصيل كأن في أسئلته المتوالية محاولة جادة، لمعرفة أوليات السجن الخاصة بوالده، وفيما إذا مر بالخبرة المؤلمة نفسها، لان أقاويل تسربت عن سجن له تم في قاطع الاحكام الخاصة قبل اعدامه، واختفاء سره الى الابد. ولما أدرك كونه قد اكتفى ببعض التفاصيل، استفسر عن أي صبر هذا الذي أبقاني دون تنفيذ خطة الهروب الى هذا اليوم، وسأل: ألم يكن الهروب مفروضاً والعائلة منذ الأيام الأولى للخروج من السجن؟.
فأجبت: كان الرئيس شكاكاً، عمل على قتل الحمداني أقرب أصدقائه وغيره آخرين، وهو إن تناهى الى سمعه بأن حزبياً او انساناً عادياً أبتعد قليلاً عن الطريق، سوف لن يكتفِ بقبول الاتهام دون أي دليل، بل سيجري لاهثاً الى قطع رقبته. كان مرتاباً يعتقد أن الحزبيين نصفان، نصف له، والنصف الآخر عليه، فسخر جل جهده والأجهزة الأمنية لمتابعة النصف الآخر. مجموعتنا التي نجت من غياهب أبو غريب اعتقدها النصف الآخر، وضعها تحت المراقبة الدقيقة. كان جهاز المخابرات يحصي علينا أنفاسنا، يتابعنا حتى في غرف النوم، إذ وبعد أن صادروا بيوتنا التي كانت في معظمها متوزعة على مدينتي اليرموك وزيونة، وزعوا علينا شققاً حكومية في الطالبية. وفي أحد الأيام، وبينما كنت عائداً اليها بعد انتهاء الدوام الرسمي، وجدت عمال من البريد يقفون في باب الشقة، يقومون بنصب هاتف أرضي، وأنا لم أطلب هاتفاً أرضياً، ولا حاجة لي باستخداماته، لأني فقدت السمع يوم خرب چاسب طبلة أذني، وتسبب في وجود التهاب مزمن الى هذا اليوم، حتى اذا ما دخلت قطرة ماء في احداها يكون ذاك اليوم أشد ألماً من هراواته المعروفة بشدة أذاها، على هذا لا ينفعني الهاتف الأرضي، كما لم أفكر به في الأصل خوفاً من استخدامه للتجسس عليّ. لكن العامل الذي يعمل في المخابرات، أشار الى أهمية الوظيفة التي أشغلها قائلاً: أنك شخص مهم، ومؤسسة الكهرباء كذلك مهمة، وبالتالي سيحتاجون اليك في أي وقت، واذا ما حكمت الحاجة في أي وقت من الليل أو النهار كيف لهم ايجادك؟.
وبعد أن أتم مقدمته شبه التحذيرية هذه، طلب مني إخباره فيما اذا كانت هناك وسيلة للاستدعاء عند الحاجة غير هذا الهاتف. وأضاف فوق هذا وذاك فان المؤسسة هي التي طلبت نصب الهاتف، رغبة منها في الاتصال بموظفيها المهمين متى أرادت. ثم سأل فيما اذا كنت راغباً الاطلاع على طلبهم؟. وأشار الى جيبه تأكيداً على وجود الطلب. أجبته يومها بالنفي، وانه صادق فيما يقول، فدخل الهاتف الى بيتي آلة تأكدتُ أن لاقطة للصوت وضعت داخلها، كانت تنقل كل تفاصيل عيشنا، وهنا تساءلت: هل تعتقد أن شخصاً يُراقب بهذه الطريقة، سيكون قادراً على تنفيذ خطط الهروب في الوقت الذي يشاء؟.
...........
بدأ الصباح يشق نوره فاتحاً أبواب الأمل من جديد، في يوم جديد، كنا فيه ضيوفاً لسوق الشيوخ. أُعدَ طعام الفطور لبناً خاثراً وزبداً محلياً، وبيض طازج، وخبز من التنور حار، بعد انتهائه مباشرة أستأذن مازن الذهاب الى الناصرية في مهمة قتالية كلفه بها السيد قاسم، وأبقى عدنان مسؤولاً عن الضيافة، حثه بصيغة الأمر على تلبية الطلبات التي نريدها ضيوف أعزاء. استوقفته والدته قبل خروجه من الباب، راضية بل فرحة بالمهمة. تفحصته أعجاباً واعتزازاً به، ولدٌ يَسرُ والده شهيداً يرقد في قبر تنيره الملائكة، من ظلمة واقعٍ كوّنها الحكم القائم في بغداد. سألَتهُ عن السلاح الذي يحمله على كتفه العريض.
قبّلَ يديها وقال: قاذفة روسية (RBG7)، كما ترين.
أجابت بعتب: أعرف كونها قاذفة، وأعرف حتى اسمها وجهة صنعها، ثم سألت: ألا أتعلم يا ولدي أن السبب الذي أعدم على أساسه والدك المرحوم؟. وأجابت: هو لإخفاء قاذفة من هذا النوع، في هذا البيت الذي نسكنه، وتحت تلك النخلة بالتحديد. لو كان في هذه النخلة روح ادمي يا ولدي، لشهدت أن القاذفة تخص أحد المقاتلين الآتين من الهور، لا نعرفه وليس لنا علاقة به، جار بنا مضطراً فأجرناه. مكث متخفياً ليلة واحدة، خرج في اليوم التالي قبل أذان الصباح، وتركها مخبئة في ذاك المكان، وعندما جاء شخص آخر لاستلامها بعد أيام، حسب كلمة متفق عليها ألقيَ عليه القبض وهو في الطريق، ومن شدة التعذيب أعترف بالقصة كاملة، وزاد عنها انتماء الوالد لنفس التنظيم.
أخذت نفساً يعبر عن حسرة وأكملت: أقول هذا يا بُنيّ وعلى الرغم من انقضاء سنين على هذه الحادثة، الا إن صورة القاذفة ما زالت في عقلي، مثل نقش على حجر، لا تزيله عوامل التعرية، ولا تخفيه تقلبات الزمن.
تَوقفتْ عن الكلام فجأة، وسألت مستغربة، لِمَ تحمل صاروخين مع هذه القاذفة؟، سألت وهي تستحم بدموعها، كيف تأمن لنفسك حملها هكذا؟، وكيف تتصرف بعد نفاذ الصاروخين؟، وماذا تعمل في حالة الاشتباك القريب؟. وأجابت في الوقت نفسه، ستصبح القاذفة مجرد عصا، لا تنفع.
نشفت دموعها وقالت قف مكانك، ثم ذهبت الى غرفتها، أخرجت بندقية كلاشينكوف بثلاثة (شواجير) محشوة بالعتاد الروسي الاصلي، وبعد ان عادت الى الامساك بخيط حديثها قالت بصوت أرادت سماعه من قبل الضيوف، وكأنها تريد اثبات شجاعتها عامل تقدير آخر لشخصها يضاهي الضيافة التي عرفت بها:
خذها، احملها مع القاذفة، لقد أخذتها من مركز الشرطة عندما شن الثوار هجوماً عليه، كنت أحسب هذا اليوم وأيام أخر، لا نعلم ما يخبأ لنا القدر فيها. تنهدت بأسى، وضعت كف يدها اليمنى على كتفه، وأكملت القول: دم والدك عزيز عليَّ.
وضعت البندقية على كتفه الفتي، فتزين بها وكأنه كان محتاجاً لها ليتزين، ثم ربتت بحنو على الكتف الذي تعلقت به البندقية، وقالت: هذا هو يومها.
حل اليوم الثاني هادئاً بلا قتال، ولا واجبات خارج المنطقة، عرض مازن خدماته مرافقاً في التجول، وعوناً في مسعى العثور على السائق السابق عودة محمد شنيار في قرية الكرمشية التي لا تبعد كثيراً عن سوق الشيوخ، فقصدناها سوية بعد اتمام الفطور، قيل عنها جميلة تلفها بساتين، وحقول حنطة تنتصب سنابلها خضراء، ينتظر أصحابها قرب اليباس لحصادها، وتهيئة الارض من جديد لزراعة رز من نوع العنبر تشتهر به المنطقة.
قطعنا معاً طريقها الترابي بسيارة الفولفو، كانت على جانبيه وقريبة منه نخيل، كأنها متلفعة بعباءة الشفق، وكأن فسائلها تركض مسرعة للحاق بالسيارة. بضعة لقالق مهاجرة، ومثلها من الأوز العراقي تحلق منتشية فوق السيارة. أوقفتنا مراراً جماعات تحمل رايات عشائرها العريقة، تطلق نيران بنادقها في الهواء دون تحسب لنزف العتاد، فالعتاد وفير من مخازن الجيش التي استبيحت بسهولة في وضح النهار. تجمهروا في بستان الحاج محمد، يلقون الشعر الشعبي، يطلقون الاهازيج، يدبكون بوقع الناي، يهيئون أنفسهم الى قتال قوات الرئيس في سوح، لا يعرفون مكانها.
أطل وجه من وسطهم له سمرة ليل، نادى بأعلى صوته: من القادم الينا؟. أراه أبو شيماء، عينيَّ لن تخطئه مهما طال الزمان.
ألتفتَ الى من حوله، أعاد المناداة بصوت علته رشقة رصاص من بندقية كان يحملها، تبدو وكأنها مأخوذة تواً من العسكر المنسحبين قائلاً: هذا هو اللواء أبو شيماء، سجين الرئيس، ها هو بيننا الآن.
تعاظم التكبير، خفتت أصوات الحشد، توقفت الاهازيج، أنقطع الرمي. تبين وجه المنادي، رزاق شقيق السائق عودة. تقدم راكضاً باتجاه السيارة التي تم الترجل منها، أخذنا بالأحضان، ومن النظرة الأولى أدرك بالفطرة الريفية الحصيفة غاية المجيء الى هذه القرية النائية في هذا الوقت الصعب، استفساراً عن شقيقه عودة، فبادر بالإخبار عن فقدانه في حفر الباطن. لعن من كان السبب بطريقة فهمها السامعون قاصداً الرئيس. فقلت: كيف؟، ألم يأتي خبر منه عن طريق المعارف أو الأصدقاء؟.
فأجاب دون الحاجة الى التفتيش في خلايا العقل من أن الرواة قد اختلفوا في موضوعه، بعضهم قال تم أسره، وأرساله مع عسكريين آخرين الى السعودية، والبعض الآخر أشار الى استشهاده في طريق الانسحاب مشياً على الاقدام.
انتهى المشوار، والسائق عودة لم يكن موجوداً، والعود الى منزل الضيافة في سوق الشيوخ بات لازماً، لم يكن هناك غيره من أهل المنطقة قادراً على تقديم المساعدة التي أريد، ولم يكن هناك أمل في العثور عليه بين المفقودين.
شعرت بنوبة احباط تملكتني من هذا الفقدان، وفشل التعويل على المساعدة في عبور الصحراء. لابد والحالة هذه الاعتماد على الذات الساعية الى تحقيق أهدافها في العبور، الى عالم ما بعد الحدود مهما كان الثمن.
طريق العودة كان مكتظاً بالخطى المتعثرة للماشين، قسم باتجاه القتال، والقسم الآخر هارب من ويلاته. حاول مازن وسطهم استغلال الدقيقة التي تمر من أجل الاستزادة بما يروى عن آلام السجن، ومعاناة رجال حسبوا من أهل النظام.
***

للراغبين الأطلاع على الجزء التاسع:

 https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/68336-2025-07-24-09-03-59.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1083 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع