يوم دفع مخرج "الحرب والسلام" ثمن الحرب الباردة نيابة عن الكرملين

مشهد من "الحرب والسلام" للروسي بوندارتشوك (موقع الفيلم)

الاندبيندت/إبراهيم العريس:لا شك أن أموراً كثيرة تتبدل جذرياً في عالم اليوم. تتبدل أحياناً بطريقة طبيعية يمكن توقعها، وفي أحيان أخرى بطريقة مدهشة. لا يكفينا المجال هنا للغوص في مثل هذا التأكيد عبر أمثلة كثيرة. وليس فقط لأن المجال ضيق، ولكن أيضاً لأن التغيرات باتت أكثر وضوحاً وبداهة من أن تحتاج إلى أن نرصدها.

لكننا في ما يخص مجالنا هنا سنتوقف عند مثل واحد يتعلق تحديداً بالسينمائي السوفياتي سيرغاي بوندارتشوك. فهذا الممثل الكبير الذي منذ ظهر في سنوات الـ60 كان دائماً ما يعتبر رجل النظام الحاكم في سينما بلاده.

من هنا حين انتقل إلى الإخراج منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وعلى رغم أنه انطلق وراء الكاميرا في ثاني فيلم كبير له من تحفة مواطنه ليون تولستوي "الحرب والسلم" محولاً تلك الرواية الجبارة إلى فيلم سينمائي، حتى هوجم كمخرج ونصح في الصحافة الغربية بأن يعود إلى التمثيل فقط فهو بارع فيه، كما اتهم الفيلم بأنه دعاية للنظام الشيوعي. وبالمقارنة مع محاولة هوليوودية سابقة قام بها الأميركي كينغ فيدور لأفلمة الرواية نفسها، اعتبر "الحرب والسلم" السوفياتي مملاً. وأخذ عليه أنه يستغرق نحو سبع ساعات من العرض، في ثلاثة أو أربعة أجزاء متلاحقة، فيما رحب بفيلم فيدور وأثني على كونه قدم الحكاية في أقل من أربع ساعات.

ضربات تحت الحزام

والحقيقة أن ذلك الزمن كان زمن الحرب الباردة والصراع بين "الكتلتين" فكانت كل الضربات متاحة بما فيها تلك التي تسمى عادة "تحت الحزام". وكان هذا السماح يغض الطرف عن كون نسخة بوندارتشوك حققت نجاحات عالمية كبيرة (شاهده في فرنسا وحدها أكثر من مليون ونصف المليون متفرج) وتدافع في موطنه أكثر من 50 مليوناً ليشاهدوه في عروضه الأولى. وتحدثت الصحف العالمية عن كونه أكثر الأفلام كلفة في التاريخ، ليس فقط حتى ذلك الحين (فبحسابات سعر النقد اليوم بلغت كلفته حينها نحو 700 مليون دولار وحقق من الأرباح ما يزيد على ذلك أضعافاً) بل نال أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية في هوليوود نفسها بين ما لا يقل عن دزينتين من الجوائز الحقيقية الكبرى.

كل هذا يومها جرى تناسيه حينها لأن "المعركة الأيديولوجية كانت حامية". وكان عيب الفيلم السوفياتي الأكبر حكاية الإقدام على تحقيقه، إذ قيل يومها إن الحكاية انطلقت من الكرملين بالتحديد.

في عام 1906 كانت العروض العالمية لـ"الحرب والسلام" الهوليوودي. وكان فيلماً رائعاً على أي حال يشهد على ذلك أكثر من 31 ألف متفرج شاهده في عروضه في شتى صالات المدن السوفياتية نفسها واستمتعوا به وكان على شفاههم سؤال هو نفسه الذي طرحه على الفور مسؤول كبير في الكرملين (قيل إنه سيد البلاد خروتشيف نفسه) في اجتماع ضم كبار مساعديه، "ترى هل نحن عاجزون عن تحقيق فيلم على مثل هذه الجودة عن الرواية التي نعتبرها من مفاخر إبداعنا؟".


الفنان الذي التقط قفاز التحدي

ونعرف طبعاً أن طرح مثل هذا السؤال في مثل تلك الظروف كان يعني شيئاً واحداً: الانطلاق لرفع التحدي. ورفع التحدي معناه "أن نفعل خيراً مما فعلوا من دون أن يغرب عن بالنا أن ما فعلوه عظيم". وأمسك الفنان الشاب بوندارتشوك بالقفاز ليكرس أربعة أعوام من حياته وحياة مساعديه وممثليه، اشتغلوا خلالها على ذلك الفيلم الذي لا بد من الاعتراف اليوم أنه أتى أفضل كثيراً حتى مما كان يأمل سيد الكرملين أو يتوقع.

كانت النتيجة المعنوية أنه كان في وسع السوفيات حكاماً وشعباً ومبدعين أن يشعروا أنهم تفوقوا على أعدائهم الألد في ميدان كانوا دائماً ما يشعرون أنه نقطة ضعف لديهم: السينما الاستعراضية الكبرى. والحقيقة أنهم كانوا يشعرون بذلك الضعف خصوصاً في كل مرة تنطحت فيها هوليوود للنهل من الأدب الروسي لأفلمة روائعه. ولكنهم في تلك المرة أحسوا بما يشبه الانتصار الكبير.

لقد تضافر ذلك الإحساس مع انتصارات أخرى كان السوفيات يحققونها في الفضاء حيث انقلبت الآية في هذا المجال وبدأ الأميركيون يشعرون بالقلق بل حتى بالدونية الصريحة. والسوفيات، لكي يزيدوا الطين بلة، راحوا من ناحيتهم يمعنون في إصدار تقارير وجردات كاذبة في مجالات أخرى تتعلق بالزراعة والصناعة والتعليم، في وقت راح كل تكذيب غربي لبياناتهم يبقى في سلال المهملات. فانتصارات الفضاء ماثلة لتكذيب التكذيب وها هو الانتصار السوفياتي الكبير في مجال السينما نفسها، المجال الذي احتكرته هوليوود طويلاً، ينسف "الدعايات الغربية المغرضة"، أليس كذلك؟

البحث عن عيوب

إزاء هذا التقاطع والتضارب، راح باحثون كثر ولأغراض شديدة التنوع بالطبع، "يتعمقون" في تحليل لغة بوندارتشوك السينمائية أملاً في أن يعثروا على ثغرات ينفدون منها لتحطيم ذلك "الانتصار".

قيل، إنه فيلم "أكاديمي بارد" وقيل فيلم رسمي وإنه لئن صمد أمام الجمهور بفضل مكانة صاحب الرواية لا أكثر سيطويه النسيان في غياهبه وما إلى ذلك. لكن الزمن مر وها هو نصف قرن وأكثر يمضي ولا يزال "الحرب والسلام" كما حققه سيرغاي بوندارتشوك حيا حتى الآن، في وقت بالكاد يذكر أحد فيلم كينغ فيدور رغم أنه فيلم رائع من دون منازع وأنه أعطى أودري هيبورن واحداً من أعظم أدوار حياتها.

لعل في مقدورنا هنا للتدليل على بقاء فيلم بوندارتشوك، أن نعود اليوم إلى "الصدفة" التي جعلته ينزل إلى الأسواق في عدد من الصالات الباريسية مقابل فيلم أميركي آخر يتعلق به بشكل أو بآخر. يعتبر نوعاً من تحد جديد يخوضه "الحرب والسلام" السوفياتي إذ يواجه فيلماً تاريخياً آخر، أميركياً هذه المرة من جديد، هو "نابليون" الذي أنجزه الهوليوودي الآتي من بريطانيا ريدلي سكوت خلال العامين الأخيرين.

الترحيب كبير هذه المرة

لكن الذي حدث كان أمراً غريباً: يستقبل النقد والجمهور الفرنسي الأجزاء الثلاثة التي ينقسم إليها فيلم بوندارتشوك (ساعتين ونصف تقريباً للجزء الأول، ساعة ونصف وأكثر قليلاً للجزء الثاني، وثلاث ساعات تقريباً للجزء الثالث والأخير) استقبالاً رائعاً يتضافر مع الإقبال على اقتناء الأسطوانات المدمجة التي تباع بها نسخ الفيلم بالآلاف، وذلك في وقت نسيت فيه كل الهجومات القديمة على "رسمية" الفيلم و"نزعته الأكاديمية" لتستبدل بأحكام من أقلها حماسة ذلك الحكم بأن هذا الفيلم الذي يعيش حياته المستقلة عقوداً بعدما طوى النسيان صناعة وسادتهم في الكرمين و"موسفيلم" كان يجب مقارنته في الماضي بتحفة لوكينو فيسكونتي "الفهد".

يتساءل أحد النقاد المخضرمين: ترى كيف لم نتنبه حينها إلى التماثل في الضخامة والهيبة والجمال بين الحفلين الراقصين اللذين زين كل منهما واحداً من الفيلمين؟ وللتعويض على ذلك قد يجدر بنا اليوم أن نقارن بين معركة نابليون على أبواب موسكو كما صورها بوندارتشوك في فيلمه، والمعارك التي يقدمها اليوم ريدلي سكوت في فيلمه التعيس عن نابليون. حتى ولو وافقنا النقاد المعاصرين لنا، الذين كتبوا عن فيلم هذا الأخير معتبرين أن تلك المعارك هي المشاهد الوحيدة في الفيلم التي تستحق المشاهدة".


التاريخ ينصف

مرة أخرى قد يكون من حقنا هنا أن نتحدث عن "معجزة" السينما و"معجزة" الزمن الصغيرة التي في صدفة ما أتت لتنصف فناناً مجتهداً أبدع وحقق لبلاده واحداً من أعظم الانتصارات الفنية في تاريخها.

وإذ نعرف أن تلك البلاد لم تنصفه رغم ما فعل من أجلها، بينما دفع هو ثمن معارك سلطات تلك البلاد، ها هو التاريخ وفنه نفسه ينصفانه وهو يكاد يكون منسياً تماماً وتحديداً بأقلام أولئك الذين حاربوه يوماً لمجرد أنهم إنما كانوا يريدون خوض معركتهم ضد سلطات بلاده لا أكثر. ونذكر أخيراً أن بوندارتشوك كان قد حقق قبل "الحرب والسلام" فيلم "مصير إنسان" عن رواية لميخائيل شولوخوف وصولاً لتحقيقه "بوريس غودونوف" الذي ختم به حياته كمخرج.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

438 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع