تفاوضت وزارة المالية مع وزارة الدفاع لتعيين مقدار المصاريف اللازمة لتطبيق الخطة المقترحة من قبل الجنرال ديلي، في خصوص تاسيس جيش وطني قوي وعرض النتيجة على مجلس الوزراء لاصدار القرار النهائي.
فلما تسلمت الوزارة العسكرية الثانية مقاليد الحكم، واتضح لديها نضوج الموضوع قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 24 اذار 1927 قبول لائحة قانون الدفاع الوطني التي اعدتها وزارة الدفاع تمهيداً لعرضها على البرلمان. والظاهر ان مشروع التجنيد الاجباري لم يلق تاييد بعض العناصر التي اكتوت بنار هذه الخدمة في العهد التركي وقاست الامرين من هولها فأخذت تعارضه بطرق مختلفة خشية ان يؤدي الى النتائج نفسها التي اسفر عنها نظام التجنيد الاجباري في ذلك العهد الزائل.
فقد نشر نائب لواء اربيل اسماعيل الراوندوزي الكوردي في جريدة الاوقات البغدادية الانكليزية الكتاب التالي بتاريخ 12 تشرين الثاني 1927:
ارجو نشر الكلمة الاتية خدمة للحقيقة واطلاعاً للجمهور على امر واقع ازاء الاكراد والتجنيد الاجباري هو ان بعض الناس يظن ان المخالفين للتجنيد الاجباري هم أخواننا الشيعيون فقط واني اسف لغفلة هذا البعض عن حقيقة راهنة لم يشعر بها حتى الان وهي ان الاكراد مخالفون للتجنيد الاجباري.
نعم ليعلم بأننا نحن الاكراد متفقون مع اخواننا الجعفريين تمام الاتفاق على ان قانون التجنيد الاجباري لا يتفق ووضعنا السياسي وبسويتنا العلمية الحاضرة ونحن نعتقد ان قانون التجنيد الاجباري ليس مفيداً ويسبب في الوقت الحاضر مضاراً عديدة وسيكون قنبلة هائلة لبلادنا المحبوبة، ولذا نوصي الحكومة بالانصراف عن هذه الفكرة في الوقت الحاضر.
وقد اكد “النائب الكردي الراوندوزي” في اليوم التالي لنشره هذه الكلمة بأن هذا الراي لم يكن رأيه الخاص وانما هو رأي الكورد بأسرهم.
والواقع ان الانكليز انفسهم كانوا يعارضون مشروع التجنيد الاجباري وكانت معارضتهم هذه تتقمص اثواباً منوعة وقد سجلوا اسباب معارضتهم هذه في كتبهم الرسمية التي تبادلوها مع الحكومة العراقية.
وخير ما يمكننا ان ننشره في هذا الصدد الكتاب الذي بعث به المندوب السامي البريطاني السر هنري دوبس الى رئيس الوزارة العراقية جعفر العسكري في مطلع شهر كانون الثاني من عام 1927م وهذا نصه:
عزيزي رئيس الوزراء:
كنت اتخابر مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية بخصوص اقتراحات الحكومة العراقية المتعلقة بعرض لائحة قانون التجنيد على البرلمان العراقي لاعرف رأيها في الاحتمال القائل بأن السلطات العراقية قد ترغب في بعض الاحوال في الالتجاء الى مساعدة بريطانية لتنفيذ احكام هذا القانون اذا ماصدق عليه في نهاية الامر واعتقد ان فخامتكم متفقون معي على انه لابد للبرلمان ان يعلم، قبل ان يطلب اليه البت في امر مهم كهذا ماهي الوسائل التي سوف يجري استخدامها للتغلب على ماقد يبديه بعض الاهلين من المقاومات.
اطلعت على آراء حكومة صاحب الجلالة وقد فوض الي ان اعرض على فخامتكم مايأتي:
من الواضح انه لافائدة من اتخاذ تدبير كتطبيق التجنيد ما لم يعتقد الشعب العراقي بضرورته ويقبل عليه مدفوعاً بعوامل الاخلاص والوطنية. فأذا استند مشروع التجنيد الى مساعدة وطنية بدرجة معتدلةـ تمكنت الحكومة العراقية التي تسيطر الان على قوة ادنى قليلاً من تلك التي كانت للاتراك في العراق قبل الحرب، من تطبيقه بدون الالتجاء الى مساعدة بريطانية واذا لم يصادف هذا المشروع اقبالاً من الجمهور فأن التشبث بأكراه الشعب على قبوله بمساعدة الجنود الاجنبية يؤول الى الضرر ويجعله في نظره ممقوتا اكثر. ان حكومة صاحب الجلالة بعد التفكير في هذا الامر. بينما تستحسن رغبة الحكومة العراقية في اقامة جيش كفؤ، وادارته بأدنى نفقة ممكنة قررت ان من الامور المضرة والمخالفة لمنافع العراق الكبرى ان تؤمر القوات البريطانية بأكراه الشعب العراقي على الدخول في الجيش على اساس التجنيد الاجباري” وان من الواجب عليها ان تطلق يد الحكومة العراقية في التشبث بتطبيق احكام المشروع استناداً الى معونة الجيش والشرطة العائدين لها اذا استصوبت هذا العمل.
وتجعلوني ممنوناً لو تفضلتم بانبائي بالوقت المناسب وقبل استئناف النظر في لائحة قانون التجنيد بمبلغ تأثير قرار الحكومة البريطانية في آراء الحكومة العراقية في التدبير المقترح.
“هـ.دوبس: المعتمد السامي
ومع ان الحكومة العراقية لم تاخذ بنظر الاعتبار التهديدات البريطانية الملمع اليها في كتاب معتمدها السامي هذا فأن المعتمد طلب الى رئيس الوزراء العراقي ان يدلي في البرلمان ببيان مآله: ان الحكومة البريطانية ليست مستعدة لاسناد الحكومة العراقية في حالة اصرارها على امرار لائحة قانون التجنيد الاجباري من مجلس الامة فلم يسع رئيس الوزراء الا الرد على هذا الطلب بالكتاب الاتي:
الرقم 2058
التاريخ 25 ايار 1927
ياصاحب الفخامة!
اطلعت زملائي على كتاب فخامتكم المرقم بي او /154 والمؤرخ في 12 ايار سنة 1927 الذي طلبتم فيه الي ان اصرح الى مجلس الامة قبل ان يتخذ قراراً بشأن لائحة قانون التجنيد انه اذا حصلت معارضة للتجنيد من بعض فئات من الاهلين فالحكومة البريطانية مع استعدادها لمعاضدة العراق ادبياً لاتوافق على استخدام القوات البريطانية في سبيل تأييده. وقد اشرتم فامتكم في ذلك الكتاب الى كتابكم المرقم بي او /11 والمؤرخ في 12 كانون الثاني سنة 1927 المتضمن آراء الحكومة البريطانية في مسألة التجنيد.
ان زملائي يقدرون الموقف حتى قدره ويعلمون جيداً الشعور البريطاني العام نحو لوائح التجنيد. ولكنه لم يتمكنوا من ادراك ما يرمي اليه فخامتكم في بيان ضرورة اخبار اعضاء مجلس الامة، قبل اعطاءه قراره ، ان القوات البريطانية لاتساعد الحكومة العراقية فيما لو حصلت معارضة ضد هذا القانون من بعض الناس، لان مثل هذا التصيح يكون مشوقاً لرفض اللائحة من قبل المجلس بكل تأكيد وقد رغبوا الي في ان احيط فخامتكم علماً بكل ما يشعرونه من حراجة الموقف. وصعوبة العمل في هذه الظروف.ان الحكومة البريطانية لم تحد في جميع الادوار التحالف عن المبدأ القائل بأن تلقي على عاتق العراق مسؤولية الدفاع ضد التجاوز الخارجي وحفظ الامن الداخلي خلال اربع سنوات على الاكثر وقد تأيد هذا المبدأ بكتاب فخامتكم المرقم بي او /64 والمؤرخ في 13 ايار سنة 1927 الذي فيه طلبت الحكومة صاحب الجلالة البريطانية الى الحكومة العراقية الدخول في مفاوضات جديدة لتعديل الاتفاقية العسكرية. تنفيذاً لهذا المبدأ على اساس ابقاء قوة هوائية بريطانية مع وحدة او وحدتين اخريين في العراق وعلى ان يدفع العراق النفقات الاضافية الناشئة من وضع وحدات بريطانية في العراق. وقد ابدى زملائي ولايزالون يبدون رايهم بكل صراحة بأن تولي هذه المسؤولية بالنظر الى موارد البلاد المالية لا تتكلل بنجاح بدون تطبيق التجنيد الاجباري الذي اوصيتم فخامتكم في كتابكم الانف الذكر انه من الاصلح للحكومة العراقية ان تنجز بسرعة مذكراتها فيه.
ان جل ماطلب زملائي في هذا الشأن هو معاضدة الحكومة البريطانية الادبية في امرار هذه اللائحة من مجلس الامة وتنفيذها تلك المساعدة التي وعدت الحكومة البريطانية بأسدائها كتاب فخامتكم المرقم بي او / 11 والمؤرخ في 12 كانون الثاني سنة 1927 المشار اليه قبلاً. وقد شرحت الحكومة العراقية هذه المساعدة الادبية في توصيات اللجنة الوزارية التي وافق عليها مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 24 اذار سنة 1927وهي تعتقد ان هذه السياسة وحدها كافلة لتطبيق مبدأ القاءمسؤولية الدفاع على العراق وان الاقتراحات المتعلقة بالاكتفاءالوحدات قليلة وقوة صغيرة من الطيران لاتؤمن الغاية التي يتوخاها العراق وحكومة صاحب الجلالة البريطانية من تولي المسؤولية المبحوث عنها. ومن تاريخ ذلك القرار اخذت محادثات فخامتكم سواء كان مع الوزراء او معي ترمي الى عدم انتظار تصريح الحكومة البريطانية والاسراع في امرار لائحة قانون التجنيد من مجلس الامة.
يظهر من المكاتبات الدائرة حول لائحة التجنيد ان الحكومة البريطانية ترغب في التخلي مقدماً عن كل مسؤولية عما قد يحدث في المستقبل بسبب التجنيد وهذا يعني بالنظر الى الفقرة الاخيرة من المادة 8 من الاتفاقية العسكرية ان الحكومة البريطانية لا توافق على اللائحة. وبما ان نجاح مساعيها بتوقيت على تضامن الحكومتين المادي والادبي فزملائي يرون ضرورة للتثبت من موقف حكومة صاحب الجلالة البرطانية ازاء هذه المسألة قبل تقديم اللائحة الى البرلمان ويرجون الجواب على هذه النقطة بأسرع ما يمكن.وقد طلب مني زملائي ان اصرح لفخامتكم انهم باتوا يشعرون بان الامل في حل المسائل الموضوعة على بساط البحث والتي تحتاج معالجتها الى جهود عظيمة وتفاهم تــام من كلا الجانبين وقد تضاءل جداً.
ان هذه الحوادث قد اظهرت لهم ان مسؤولية الملقاة على عاتقهم تضطرهم الى مفاتحة جلالة الملك فيصل ليتفضل بعرض الامر على حكومة صاحب الجلالة البريطانية بغية إزالة ها الجو المتلبد بالشكوك ومعالجة الامور الهامة التي اصبح امر البت فيها ضرورياً جداً. اني مقدم نسخة من هذا الكتاب بصورة مستعجلة الى جلالة الملك فيصل. تفضلوا ياصاحب الفخامة بقبول فائق الاحترام.
من تاريخ الوزارات العراقية
797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع