يهود العراق، ذكريات وشجون ٤٢ عود وانعطاف، إلى أيام الحب والعفاف، في العراق

            

يهود العراق، ذكريات وشجون ٤٢ عود وانعطاف، إلى أيام الحب والعفاف، في العراق

    

كتبتُ في الحلقتين 29-30 من سلسلة "يهود العراق، ذكريات وشجون"، التي نشرتـُها في جريدتي "إيلاف" و"الأخبار"، عن الحب في العراق، ثم أردفتهما بحلقة جديدة (رقم 41)، اقتبست فيها من أديبين كبيرين هما الدكتورة هدى والأديب الألمعي الواقعي خالد قشطيني، فإذا بهجمة ظالمة تشن علي من حيث أدري ولا أدري، ومثلما كان يحدث في العراق بأن التهم التي يشترك فيها يهودي لا يحاكم عليها المسلمون، "وبس اليهودي ياكلها وحده"، حدثت معي الآن وكأن الزمن توقف عن سيره الحثيث وعاد بنا إلى عهد التهم الباطلة والمحاكمات الصورية والإرهاب الفكري والديني والعقائدي. وكما كان يحدث في الماضي من تكميم الأفواه وتشويه الحقائق، بتشغيل "القوانة المشخوطة" (الاسطوانة المشروخة)، بتهم الصهيونية والشيوعية وتلفيق المحاكمات الزور والبهتان، عادت هذه الممارسات في شلة جديدة في عهد العولمة وتعايش الحضارات. فإذا بالتهم تكال جزافا، والكذب والتهم الباطلة هي من شيمة الجبان الجاهل.

كنت في بداية دراستي في الجامعة مصنفا أيام حكم "حزب المباي"، في خانة "عراقي- جامعي- يساري- شيوعي"، كما حدث للكثير من الطلاب الذين لم يحصلوا على شهادة تأكد صهيونيتهم في العراق. وحتى اليوم لم أكن اعلم بأني "صهيوني قتلت فلسطينيين وطردتهم من ديارهم وسكنت دورهم"، هكذا بجرة قلم أخرق. ولماذا، لأنني هربت من اضطهاد مخطط لطرد يهود العراق ومن ديارهم وتجميد أموالهم، أي سرقتها بصورة قانونية. وقد تحدثت عن هذه الحياة الرغيدة في الحلقات المنشورة في "إيلاف" بعد طردي من العراق. "ويا نايم جتك التهايم"، وأقسم بالله بأني أسكن في قطعة أرض أشترتها الوكالة اليهودية بالباون الأسترليني، ومسجلة على اسمي بالطابو، وأسكن في دار بناه عرب إسرائيل بأشراف يهودها عام 1979.

أما دورنا وأملاكنا في العراق التي جمدت وصودرت، فهي حلال لأنها تعود إلى اليهود، ولكن لا يوجد في العالم مظلومون غير الفلسطينيين، أما يهود العراق والبلاد العربية، فلا يحسب لهم حساب، وهذا جزاؤهم لأنهم لجئوا إلى إسرائيل الإشكنازية، وخانوا اخوانهم العرب.
ومثل هذه التهم في العهد الملكي والبعثي كانت ستؤدي بي أيام كان يفرخ ويعشش فيها مثل هؤلاء المهرجين، إلى حبل المشنقة في ساحة قريبة من محلة تقطنها أغلبية مسلمة، بينما كان المسيحي الشيوعي يشنق في ساحة قرب محلة تقطنها أغلبية يهودية، لكي تخفف الحكومة من غضب الطوائف عليها، كما كانت تظن، بطريقتها في الحكم عن طريق "فرق تسد". وقد شعرت وأنا اقرأ الافتراءات المختلفة بأنني في محكمة "عـَفـْتـَرَة قراقوشيّة، مال أيام زمان"، وأمام القاضي الجلاد عبد الله النعساني رئيس المجلس العرفي الذي حكم على المرحوم شفيق عدس بالإعدام ظلما وبهتانا، أمام قصره وأمام عائلته المنكوبة في البصرة. فالنعساني الذي كان يحكم "على كيفه، بلا سين ولا جيم، وبلا قانون وبلا ناموس"، كان يدير المحاكمات بصورة عشوائية، "يعني اشيقطع عقل ابذيج الدقيقة، يسويه"، بدون مراجعة كتب القانون، ولا يحزنون. وقف ذات يوم صف من اليهود الذين القي القبض عليهم اعتباطا وابتزازا أمام سيادة النعساني، منتظرين سماع حكمه الرهيب، وفجأة قال بعبقريته الفذة: "ولكم گواويد هم صهيونيين وهم شيوعيين، يعني قابل ما كو حكومة أتأدبكم. زين والله لعلمكم النبي عربي. أنتو من يمين هذا اليهودي الأيده مغلولة، الطويل والرفيع أبو الوج المصفرج، هل اليهودي الخائن، حكمت المحكمة عليكم بالسجن مع الأشغال الشاقة سنتين، ومن يساره إلى الأخير، 3 سنوات". ولم يفهم الجماعة المروعة بهذا الحكم القراقوشي، لماذا أصحاب اليمين سنتين وأصحاب اليسار 3 سنوات، وحاول أصحاب اليسار الاعتراض، فنتر بهم النعساني قائلا ، "يالله وللوا بالعجل، ولا كلمة، لا هسه أوديكم ابداهية!".

وقف أبو وج المصفرج الطويل الرفيع وحيدا وقد أخذته الدهشة والعجب، إذ وجد نفسه واقفا وسط القاعة وحيدا، وسأل بحيرة بعد أن أخذت جلاوذة النعساني أصحاب اليمين وأصحاب اليسار وألقتهم جميعا في نار جهنم: "حضرة القاضي، وآني ويا يا جماعة أروح أولي؟" انتبه النعساني إلى "دالغته"، وغمغم: "إي صدك، والله تمام، أنت؟ أنت! دروح وللي عاد، لأنعل أبو يابو الجابك عليّ من هل صباحبات!"، وخرج "الصهيوني" المشدوه من المحكمة وهو لا يصدق بنجاته. أما أنا، فلو لم يقيض لي الله تبارك وتعالى، أخوة عراقيين من أصحاب الضمير الحي، بارك الله فيهم، من يدافع عني وعن براءتي من دم ابن يعقوب من الفلسطينيين، لما استطعت أن أنام من فظاعة حكمهم علي وهو حكم أقسى من حكم النعساني وقراقوش، بل وأشرس. أدرك أصدقائي العراقيون الذين تعرفت عليهم من خلال سلسلة "يهود العراق- ذكريات وشجون" موقفي الحرج، وانهالت على "إيلاف" عرائض الاحتجاج وشهادات حسن السلوك لصالحي، من ذوي الضمائر الحية والذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، من أخوات وإخوة تفخر العراق بأمثالهم من المثقفين الكبار، بعضهم ذكر اسمه صراحة، وهم واثقون ومعتدّون بديمقراطية العراق الجديد، وقلت لنفسي، إن كان اليوم في العراق مثل هذا الشباب الشجاع فلا خوف على مستقبل العراق. وقد عوضني الله برحمته الواسعة خيرا في محنتي هذه، وكان الثواب قصيدة رائعة وصلتني بالبريد الاليكتروني، لتعوضني عن الآلام التي أغرقتني بها التهم الباطلة، قصيدة عصماء من سيد وأستاذ جليل وشاعر مبدع من جامعة الكوفية، ألا وهو الدكتور جبار القوافي وجمال الدين والدنيا، عرّض فيها بمن كال لي التهم جزافا، ناعتا إياهم بـ" المُرْجِفـون وأهل الشـرّ". وأنا استشهد بها أمام الله والناس بسمو أخلاق العراقيين الشرفاء الذين كان الوالد المرحوم يشيد دائما بإبائهم الضيم والظلم ونصرة الصديق في وقت الضيق، أضيفها هنا شهادة إنصاف بحق أحبائه وأصدقائه في العراق الحبيب الذي لم يحظ برؤيته ثانية، وكان يتمنى أن أزوره مكانه، مقبلا الأعتاب:
نبع الوفاء

للشاعر الكبير الدكتور جبار جمال الدين

مِنْ سِحر بغدادَ سِحْـرٌ فيكَ يَتـّّقدُ ومِـنْ إبـاك لِـواءُ الحـقّ يـَنْـعـَقــِدُ
يا أيها الكـوكب الميمونُ طالعـُه الشعـرُ والحبُ في دنيـاك تـتـّحِـدُ
ومُذ ْ وجـدتـكَ لـم احـفـلْ بنائبـة ٍ وكـيف أحفJل بالبلـوى ولي ســنـدُ
يا واهـبَ النور للنسيان معذرة ً لأنـت أكـبـر من شـعـر لـنـا يـردُ
وأنـت قـافـيـة ٌ هيهـات يدركهـا أهلُ القصيدِ وأن عانوا وإن جهدوا
يا ملهمَ المبدع الفـنان فـطنـتـَهُ أضحى عـليـك رجاء الـفكـر ينعـقـدُ
فـداوهـمْ مـن رحيـق أنت حامله يسعى لك الكلُ مَن دانوا ومن جحدوا
المُرْجِفـون وأهل الشـرّ ديدنهم بَثّ السموم فـلا تحـفـل بـما حقـدوا
كانَ اليهودُ وما زالوا أولوا شرف لهـمْ ذ ُرَى المجـد لا يرقـَى لهـا أحـد ُ
كـشعـلةٍ تغـمُـرُ الأفكـارَ فـتـنـتها منْ عـهـدِ نمرود ٍ حتـّى الآنَ تـتــّقـد ُ
يا ابنَ المُعلـّّم يا بحـر وأشـرعـة ويـا دعـاء بـه ِ الأرْواحُ تـعــتــقــدُ
يا بنَ المُعلـّم حزتَ الفضلَ أجمعَه فـَلا رِيـاء ولا حِـقـْد ولاَ حَسَـــــدُ
إنـا عـرفنـاك روحًـا لا مثيـل لها سـخاء كالـنّـور ِ لا مَكـْرٌ ولا عُـقـدُ
فاسْـلمْ رعتـكَ عيونُ الله ِ يا أملا ً يلـقى المحبونَ في دُنيـاك ما فـقـدوا
إيـه ِ أخا الـوّدِ والأشـواقُ تحملني لـروضةٍ أنتَ فيها الطائرُ الغَـرِدُ
لا غَرْوَ أن أصبحتْ رُوحِي مُحلقة ً فمِـنْ هَـواكَ يجـيء العَـونُ والمـَدَدُ

هؤلاء أصدقائي العراقيون، فجئني بمثلهم! وأعظم بمثل هذا الشعر الإنساني الرائع. وهل يوجد كلام يفحم المتخرصين الحاقدين من مدعي العلم الأخوندية مثل هذا؟ وهل يوجد أروع من هذه القصيدة، الشهادة التي سأعتز بها مدى الحياة، تقف بإباء أمام اتهامات المرجفين وأحكام النعساني وأمثاله من القضاة والحكام والحاكمين ممن زجوا بالعراق في دوامة الحقد والدم منذ الفرهود وإلي أن جاء الفرج.
قالت لي عروسة الإلهام، "شوف يا با، هل معلقين الزعاطيط الخايسين وين دخلونا، وباشلون إيراد ومصرف ودونا"، فلنعد إلى ما كنا بصدده، فلماذا لا تواصل الكتابة عن هذا الموضوع الشيق عن الحب الذي لم يذقه شباب العراق إلا في هذه الأيام بعد أن دشنوا شارع أبو نواس وصار الشاب والشابة يسيران يدا بيد وبدر السماء الباسم يبارك لهما حبهما وتنثر النجوم من أنوارها المزغردة أشعة كملبّس الأعراس العراقية عليهما. فالحب الذي حرم منه العراق عشرات السنين، أصبح حقدا، حتى أنهم حصنوا شوارعهم بجدران الكونكريت لتقسيم دار السلام إلى مناطق شيعية وسنية. والحب هو موضوع يشتاق إليه العراقيون الكرام في كل مكان، وخاصة المشردون العراقيون في منافيهم، من الذين يعذبهم الحنين إلى "يُمّه": "أشتاكيت أشوفج عصر / يا يمّة.. واشحنيت، ...يا ريت أشوفن هلي... / وأبوس باب البيت"، وإلى عراقنا أيام الجيرة الحسنة والإخاء، ليخففوا عنهم عذاب الغربة والحنين والشجون؟
قلت في الحلقة 41 إن كبار الكتاب والروائيين العرب لم يروا في الكشف عن الأغوار المظلمة للنفس الإنسانية وتخلف المجتمع في كتاباتهم النقدية إهانة أو مساسا بالشعب، بل الطريقة المثلى لإصلاحه بجرأة ولإيمانهم برسالتهم السامية في الأدب. وقد ظهرت جرأة المرأة عند بعض الروائيات وعلماء الاجتماع والنفس من بين المثقفات العربيات، جرأة زعزعت أركان العادات والتقاليد البالية الضارة التي تحول دون تطور المجتمع العربي ليلحق بالمدنية الحديثة التي ترى في العلم الحديث الطريق الوحيد نحو خلاص الإنسانية من ترسبات الماضي التي تكون حائلا دون انطلاقه إلى الأمام. والدكتورة نوال السعداوي، هي خير مثال للمثقفة والأديبة المتحررة التي تسعى إلى تحرير المرأة من قيود الماضي وخاصة في كتابها الجريء بأحداثه الرهيبة، "موت الرجل الوحيد على الأرض"، الذي صورت فيه الفقر والجهل والمرض في الريف المصري، وسطوة الرجال وسيطرة الآباء وتعسف الحكام، ونقدت عادة ختان البنات وغيرها من العادات التي تجعل من المرأة العربية أداة للتفريخ والمتعة لإشباع غريزة الرجل وشهواته الجنسية. وقد أثار موقفها الجريء غضب المحافظين ضدها، حتى اضطرت إلى مغادرة مصر إلى الولايات المتحدة. وذلك أيضا ما فعلته الدكتورة وفاء سلطان، اللبوءة المتحررة التي أفحمت المحافظين في زئيرها الغاضب في مناظراتها في قناة الجزيرة، فاستعاذوا بالله من كيد النساء وامتنعوا عن مناظرتها مرة أخرى، إذ "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، ولحسن حظها أنها كانت قد فرت في الوقت المناسب والنجاة بحياتها في الولايات المتحدة أسوة بزميلتها الدكتورة نوال السعداوي. واليوم نرى كل أحرار الفكر العرب مشردين في المنافي الباردة. إن مثل هذه الجرأة من جانب المرأة العربية في نقد مجتمعها وعاداته وتقاليده التي يحميها الرجال الذين يحرصون على مكانتهم في المجتمعات المحافظة، هي شيء جديد بالنسبة للمجتمع الراضي بحاله والقانع بقسمته والذي يرى أن النفس المطمئنة يزعجها الكشف عن الحقائق وإصلاح المجتمع عن طريق المعقول لا المنقول، مدعين أن العلم الحديث هو من بدع الكفار، بينما الإسلام هو في أساسه ثورة روحية، علمية، اجتماعية فلسفية ونفسية قلبت المقاييس الجاهلية رأسا على عقب، وما الحضارة الحديثة إلا امتداد للذروة الفكرية والعلمية والثقافية للحضارة الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى. وهل رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، ومؤلفات ابن رشد وابن سينا والمئات من العلماء المسلمين، إلا دليل ساطع على عولمة الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى؟

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/49090-2021-05-16-09-10-55.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع