عبد الملك أحمد الياسين في ذكرياته ومحطاته... حتى لا تضيع الحقيقة
أيلاف/عرض سيف الدين الدوري: عن دار آمنة للنشر والتزيع في العاصمة الاردنية عمان كان قد صدر كتاب بعنوان (حتى لا تضيع الحقيقة) للاستاذ عبد الملك أحمد الياسين وذلك ضمن ذكرياته ومحطاته.
وعبد الملك الياسين عربي من العراق من مواليد عام 1924 عمل في سلك التعليم لفترة تجاوزت ربع القرن مدرساً ومفتشاً ومديراً للتعليم الثانوي ومديراً عاماً لتربية بغداد ومستشاراً ثقافياً للسفارة العراقية بلندن ثم للسفارة العراقية بالجزائر. إنتقل الى وزارة الخارجية حيث عمل في السلك الدبلوماسي سفيراً لدى أفغانستان ثم الجزائر ثم لندن ثم إيران على عهد الشاه ثم الجمهورية الاسلامية ثم تونس فالمملكة العربية السعودية ، كما عمل وكيلاً لوزارة الخارجية لمرتين أولهما بين عامي 1976 – 1978 والثانية بين عامي 11981 – 1983 وعمل ممثلاً دائماً للعراق في جامعة الدول العربية وممثلاً دائماً في منظمة المؤتمر الاسلامي.
تقاعد عن العمل الوظيفي بموجب السن القانوني في بداية عام 1988 وبعدها إنتخب عضواً في اللجنة الاستشارية المرتبطة بمكتب السيد رئيس الجمهورية صدام حسين ثم أعيد للخدمة مرة أخرى بدرجة خاصة رئيساً لديوان المجلس الوطني عام 1999 وأخيراً أعيد الى التقاعد في نيسان 2004 بناءاً على طلبه بعد الاحتلال الاجنبي للعراق.
أخطر الحوادث: انقلاب بكر صدقي ومصرع الملك غازي وحركة رشيد عالي الگيلاني
ولد عبد الملك الياسين في تكريت في عائلة غنية بثروتها الاجتماعية والدينية أكثر من غناها مادياً.اكمل دراسته الابتدائية في مدرسة ( دار السلام) ببغداد ثم المتوسطة في متوسطة الكرخ عام 1936 -1939 حيث وقع أول إنقلاب عسكري في الوطن العربي الذي قاده الفريق بكر صدقي ضد حكومة ياسين الهاشمي وتسبب في مصرع الفريق جعفر العسكري. ويقول الياسين أنه " ما يزال يتذكر ذلك اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الاول من عام 1936 يوم كنتُ جالسا في الصف نستمع الى الى مدرس مادة التاريخ المرحوم (كامل قزانجي) المحامي اليساري الذي لقي مصرعه في أحداث حركة عبد الوهاب الشواف بالموصل عام1959. مدرس التاريخ هذا الذي توقف فجأة عند سماع صوت طائرة تحول في سماء بغداد تلاها صوت إنفجار قنبلة القتها الطائرة على بناية مجلس الوزراء الأمر الذي بثّ الرعب والخوف فينا والذي قال لنا : أبنائي اليوم تنبثق حكومة وطنية سيكون عهدها عهد خير على الوطن"
ثم يتذكرالياسين حادثاً آخر أكثر أهمية وهو مصرع الملك غازي يوم الرابع من نيسان عام 1939.
وبعد تخرج الياسين من المتوسطة أراد الالتحاق بالاعدادية العسكرية تمهيداً للانتقال الى الكلية العسكرية إلا أن سياسة والده التسلطية كما يقول منعني من ذلك وأصر رحمه الله على الالتحاق بدار المعلمين الابتدائية لاكون عوناً له في تحمل أعباء العائلة الكبيرة والمتعبة فعلاً. ويقول من أهم أحداث سنوات دراستي في دار المعلمين هو أحداث حركة مايس 1941 التي قادها رشيد عالي الكيلاني وما تبعها من معارك بين الجيش العراقي والقوات البريطاني إستمرت شهراً كاملاً إنتهت بإحتلال بغداد من قبل البريطانيين وهروب الكيلاني وجماعته الى إيران.
ثورة 14 تموز 1958
كما يستعرض الياسين في ذكرياته الاحداث التي شهدها العراق خلال ثورة 14 تموز وما رافقها من صراعات سياسية بين الاتجاهين القومي والشيوعي والمجازر التي شهدتها مدينة الموصل حين إستباحها الشيوعيون عقب فشل التمرد العسكري الذي قاده آمر حامية الموصل العقيد عبد الوهاب الشواف في الثامن من آذار 1959 ضد سلطة الزعيم عبد الكريم قاسم. الذي سقط في حركة الثامن من شباط 1963 التي قدها حزب البعث العربي الاشتراكي وصدر أمر بتعيينه مستشاراً ثقافياً للسفارة العراقية بلندن.وبعد الانقلاب الذي قاده الرئيس عبد السلام عارف في 18 /11/1963 صدر أمر بنقل الياسين الى السفارة العراقية بالجزائر بمثل وظيفته حيث بذل جهوداً كبيرة في دعم وإسناد المدرسين العراقيين في الجزائر في مهمتهم بمعركة التعريب هناك ويقول" لقد كانت ( معركة التعريب) واحدة من أخطر وأقسى المعارك التي خاضتها الجزائر بعد الاستقلال اذ ان السلطة الجزائرية وقيادتها أعطت كل الدعم للدوائر الثقافية العربية بما يسهل على المعلمين العرب مهمتهم"
ويقول الاستاذ الياسين أن من أبرز ما حدث خلال فترة عملي في الجزائر الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 19 حزيران 1965 الذي قاده العقيد هواري بومدين حيث أطاح بالرئيس احمد بن بلا والمحاولة الانقلابية التي قام بها عارف عبد الرزاق في العراق في 15 أيلول 1965 ضد الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يترأس وفد العراق الى القمة العربية في الرباط.
في ديوان وزارة التربية
ومن الجزائر تم نقل الاستاذ الياسين الى ديوان وزارة التربية حيث باشر في مهمته الجديدة في الاول من آب 1966 وهو يحمل خبرة ربع قرن كتربوي واداري.كما يشيد الياسين بسياسة الفريق طاهر يحيى رئيس الوزراء بالانفتاح على على القوى الوطنية في العراق وقراره في اعادة المفصولين السياسيين من اعضاء الاسرة التعليمية. وثمة حادثة مهمة كما يقول الاستاذ الياسين من المفيد ذكرها واجهتها أثناء مهمتي في مديرية التعليم الثانوي ، ففي ذات اليوم كان عندي أحد المدرسين الذين يتعابعون إصدار الامر لاعادة تعيينه ولا زلتُ أتذكره وهو الاستاذ عبد الجبار البياتي في تلك الساعة دخل المكتب شاب أنيق وذو شخصية وقد كنت أشاهده أحيانا وأنا أزور السيد أحمد حسن البكر الذي كنتُ أتردد عليه أيام الجمع أو في المناسبات الاخرى ولم أكن أعرف من هو ذلك الشاب الذي تصرف بأدب وهدوء وتبادل أحاديث المجاملة مع المدرس الموجود في المكتب مما يدل على معرفة كل منهما للاخر، وقد إستفسر هذا الشاب مني عن معاملة تعود لمدرّسة ذات قرابة بالمرحوم عبد الكريم الشيخلي وكانت معاملة معقدة ومن الصعوبة تلبية طلبها، وقد اوضحت لهذا الشاب تفصيل وحقيقة المعوقات حيث تفهّم الاجابة وتقدم بالشكر وغادر المكتب بكل أدب، وعند مغادرته سألت المدرس البياتي عن هذا الشاب فأجابني أنه ( صدام حسين). فكانت المرة الاولى التي أتعرف عليه بعد أن كنت قد سمعت عنه الكثير.
في ديوان وزارة الخارجية 1969
وسفيراً لدى أفغانستان
وفي ذكرياته يتحدث الياسين عن إنتقاله الى وزارة الخارجية في بداية عام 1969 بدرجة مستشار ثم تعيينه سفيراً لدى أفغانستان في شباط 1970 إذ يقول أن ما لفت نظري أن ثلاث دول عربية فقط لها تمثيل بدرجة سفير في كابل وهي السعودية ومصر والعراق. خلال استقبال الرئيس البكر لي لتوديعه والاستماع الى نصائحه التي اكد خلالها على فقرتين أوصاني بهما الاولى دراسة فكرة إستيراد لحوم الاغنام من أجل تخفيض العبء عن المواطن العراقي والثانية دراسة إمكانية خلق نوع من التعاون في شؤون النفط إكتشافاً وإستخراجاً فقد وجدت الجو مناسباً لاقتراح إعادة النظر في فتح مدرسة الثانوية التي كانت موجودة في أفغانستان في خمسينات القرن الماضي ثم أغلقت بعدئذٍ فإستحسن الفكرة وأمر بالايعاز لوزارة التربية بدراسة المقترح، لكن مع الاسف أياً من المقترحات لم تنفذ.وفي العاصمة الافغانية كابل وجدت العمل هناك ممتعاً وسهلاً ذلك أن البلد ملكاً وحكومة وشعباً ينظرون الى العرب نظرة إحترام وللعراق خاصة نظرة محبة وقدسية دينية لما فيه من مراقد وأضرحة.
سفيراً لدى الجزائر 1971 - 1974
ومن أفغانستان جرى نقل الياسين الى الجزائر سفيراً للعراق حيث مكث فيها حوالي ثلاث سنوات.كانت حالة الجليد في العلاقات بين الجزائر والعراق والتي ذابت عقب قرارتأميم النفط الذي أعلنه العراق في الاول من حزيران عام 1972. ويقول الياسين لقد وجدت في بغداد شعوراً جدياً بضرورة تقوية العلاقات العراقية الجزائرية وازالة الجمود التي كانت سائدة. وقد لمست منذ للايام الاولى أن هناك بروداً في العلاقة بين السفارة والمؤسسات الجزائرية نتيجة تصرفات غير سليمة عن الكادر المتقدم في السفارة العراقية تصرف غير مقصود لكنه يدل عن جهل وعدم خبرة ودراية بالعمل الدبلوماسي.
ويتستعرض الياسين احداثاً وقعت خلال وجوده في الجزائر منها اعلان العراق تأميم النفط في الثاني من حزيران 1972 وكذلك حرب اكتوبر عام 1973 ثم زيارتا النائب صدام حسين للجزائر الاولى والثانية بدعوة من الرئيس الجزائري ولم يكن صدام مرتاحا في الزيارة الاولىً بسبب عدم استقبال بومدين له.الا انه شعر بالارتياح عقب لقائه بالرئيس بومدين.
ثم يتناول المؤلف الياسين في ذكرياته اللقاء الذي تم بين صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وبين شاه ايران محمد رضا بهلوي في الجزائر وما تمخض عنه من اتفاق الجزائر في السادس من آذار 1975 والذي أعطى العراق بموجبة لايران نصف شط العرب.
سفيراً لدى المملكة المتحدة شباط 1975 – تموز 1976
بعد ذلك يتحدث الياسين عن تعيينه سفيراً للعراق لدى المملكة المتحدة للفترة من 1965 – 1976 ذلك بعد إعادة العلاقات بين البلدين والتي قطعها العراق عام 1971 بسبب موقف بريطاني من إحتلال إيران للجزر العربية الثلاث في الخليج وهي أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى. ومن إنجازات الياسين خلال عمله سفيراً لدى المملكة المتحدة إقتراحه بفتح مركز ثقافي عراقي بلندن وهو ما تمّ بالفعل وإختيار ناجي صبري الحديثي مديراً له. والذي أصبح فيما بعد سفيراً لدى النمسا ثم وزيراً للخارجية.
في ديوان وزارة الخارجية تموز 1976 - 1978
وعقب إنتقال الياسين من لندن الى ديوان الوزارة حيث عمل وكيلا لوزارة الخارجية يتحدث عن ذلك فيقول " توجهت الى مكتبي بروح من المتعة بأن أمور البلد تتجه نحو مستقبل يدعو الى التفاؤل أبلغت سكرتير السيد الوزير برغبتي لمقابلة الوزير الدكتور سعدون حمادي وبعد دقلائق أجابني بمفاجأة لم أكن اتوقعها حيث قال وبخجل :أستاذ يقول الوزير غداً في الساعة الحادية عشرة. ويضيف الاستاذ الياسين تألمت من هذا الموقف وأغضبني فعلاً..اضافة الى المشاكل التي واجهتني خلال عملي والتي لها صلة بالسياسة الخارجية للعراق وخاصة مع ايران الداعمة للتمرد الكردي في كردستان العراق.
سفيراً لدى إيــران 1978 - 1979
وعن إيران التي إنتقل اليها سفيراً للفترة من1978 -1979 تحدث الياسين عن ما أسماه من غطرسة الشاه الى عناد الخميني.فيقول" عندما التحقتُ بعملي في إيران كنتُ أحمل معي معلومات جيدة عن خلفيات العلاقة بين إيران والعراق والتي من أهمها أن إيران ليس جاراً مريحاً فهي توسعية في سلوكها وسياستها متعالية ومتغطرسة في تعاملها مع العراق فقيادتها الحاكمة ومعها بعض شرائح المجتمع الايراني تعيش عقدة الماضي القديم والفتح الاسلامي الذي أزال حكم كسرى عن الارض العربية ، وكان من أبرز مثال على إستمرار إيران في متاعبها وتحديها للعراق أنها لم تعترف بالحكم الملكي الذي تأسس في آب 1921 وبقيت تراوغ حتى عام 1929 مدعية أن هناك مشاكل وقضايا بين إيران والعراق لا تزال من غير حل، وهو ما لم يكن حقيقة ولا واقعاً بل تعدياً وطمعاً... لقد كانت الاصوات المسموعة على الساحة الايرانية هي الاصوات الاعلى صراخاً وهي التي تثير الحقد على العراق والتي تنكرت لكل مواقف العراق والعراقيين ، فلا إستضافة الخميني وجماعاته لأكثر من عشر سنوات كانت تستحق الاشارة لها بالشكر ولا إستجابة الحكومات العراقية لطلبات إيران وحكوماتها في التوسع على حساب العراق على اليابسة أو في المياه المشتركة وآخرها تنازل العراق عن نصف مياه شط العرب كل هذه المواقف تم إنكارها وتحويلها الى تقييم معاكس لحقيقته ".
ويضيف الياسين" وكنت ميالاً أحاول جاهداً وبصدق أن أعمل على بذل كل جهد لتوجيه الامور نحو الافضل "
وعن السياسة العراقية تجاه ايران فيقول الياسين " هناك اتجاهان أحدهما يستقطبه الرئيس احمد حسن البكر يوصي بأخذ الامور بهدوء وصبر وتعقل وتجنب التصعيد ويؤيد هذا الاتجاه عدد من قادة الجيش ومن كوادر وزارة الخارجية وأنا منهم ، وشريحة واسعة من كوادر الحزب والرأي العام ، والاتجاه الآخر يدعو للوقوف تجاه إيران بحزم وعدم التساهل بعد هذه التجربة الطويلة معها ويترأس هذا الاتجاه السيد النائب صدام حسين وتسير معه أعداد كبيرة من كوادر الحزب والجيش ولفيف من الانتهازيين وعديمي الخبرة والتجربة".
ويخرج المؤلف الاستاذ عبد الملك الياسين بإستنتاج لهذه الحالة المتوترة بين العراق وإيران فيقول" إن ما أوصل الامور الى هذا الاقتتال هو أن إيران كانت بقيادة رجل يتصف بالعناد والحقد والاستبداد إتكأ على الدين الاسلامي والذي هو البريء من تلك السياسة ، يقابله قائد يمسك بالامور في العراق يتصف هو الآخر بصفات مشتبهة معتد بشخصيته مغرور بقدراته مستبد ومنفرد بقراراته ذكي خارق الذكاء ولكنه يفتقد الى الحكمة ، وقد زعم أن ما يفعله هو من فكر حزب البعث العربي الاشتراكي ولكن الحزب بريء من هذا الادعاء وهذا الوضع أمسكت به قوى خارجية تهدف الى تدمير المنطقة وضرب بعضها بالبعض الآخر".
الميثاق القومي العراقي السوري 1978
وعن الميثاق القومي بين العراق وسوريا عام 1978 يتحدث الياسين فيقول" حين ظهرت مؤشرات على أن الرئيس المصري أنور السادات في طريقه لتوقيع إتفاقية سلام مع إسرائيل هذا الاتجاه أربك العالم العربي ودفع بالامور بين العراق وسوريا نحو التقارب وهما دولتان يحكمهما جناحان من حزب البعث ولكل منهما مواقفه وإتجاهاته التي جعلت العراق وسوريا أقرب للعدوين من أي وصف آخر ولكن بشعور سوريا بخطر ما فعله السادات وكرد فعل على تلك الخطوة فقد توجه الطرفان ( سوريا والعراق) نحو التقارب بينهما والتفاهم على كل ما كان بينهما من خلافات وذلك خلال سلسلة لقاءات وزيارات متبادلة إنتهت الى إتفاق وحدوي بين العراق وسوريا ومن مقررات تلك الخطوة تبادل الرئاسة بين دولتي الوحدة بحيث تكون مرة للرئيس العراقي أحمد حسن البكر ومرة للرئيس السوري حافظ الاسد ".
" وفي هذه الاجواء لعبت قوى عراقية ودولية على إثارة السيد النائب صدام حسين وتصوير تلك الخطوات الوحدوية على أنها تهميش له ولمركزه والوقوف بوجهه. وبذلك خلق وضع جديد داخل العراق فالبعض رحب وفرح وإندفع بإتجاه تسوية الامور مع سوريا وصولاً الى دولة الوحدة وأغلب أولئك هم من أنصار ومؤيدي الرئيس البكر، بينما لعب البعض الاخر على وتر معاكس حتى وصل الأمر الى إنسحاب البكر من الحكم والحزب ليتولى السيد النائب الموقع الاول في الحكم والحزب وكانت تلك العملية التاريخية بداية إنقلاب عراقي داخلي وهو الأخطر من نوعه في تاريخ العراق المعاصر ، فبدأت تصفيات واسعة داخل كوادر الحزب العليا ومثلها في الجيش والحكومة ثم بنتيجتها إعدام أعداد كبيرة من أبرز كوادر الحزب والدولة والجيش.تحت غطاء مؤامرة مزعومة وراءها سوريا ونفذ حكم الاعدام بكوكبة من القياديين والكوادر المتقدمة عسكرية ومدنية وبذلك تكون المجموعة الداعية للوقوف والتصدي لايران هي التي صارت في الواجهة على العكس من تلك المجموعة التي أبعدت والتي تعالج الامور بالدبلوماسية والتعقل والهدوء. وهنا صارت كل من إيران والعراق بقيادة متصلبة ومتشددة وراحت إيران تزيد من تدخلاتها في الشؤون العراقية وتمعن في قصف المدن والمواقع الحدودية، وبذلك لم يعد هناك وجود لاتفاق الجزائر الذي لم تنفذه ولم تحترمه إيران مما حَمَلَ الرئيس صدام حسين على الاعلان يوم 17/9/1980 وأمام المجلس الوطني أن العراق لم يعد ملتزماً باتفاق الجزائر بعد أن تجاوزته إيران.
سفيراً لدى تونس اكتوبر 1979- يناير 1981
بعد صدور أمر نقل الياسين الى تونس طلبت منه الوزارة الاسراع بالالتحاق بعمله إستعداداً لمؤتمر القمة العربي العاشر والمقرر عقده في أواخر تشرين الثاني بتونس لأن مقر الجامعة العربية قد إنتقل الى تونس بموجب قرار مؤتمر قمة بغداد الطاريء الذي عقد للفترة من 2 – 5 تشرين الثاني 1978 والذي قرر نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس وقطع العلاقات العربية مع مصر وذلك رداً على زيارة السادات الى القدس المحتلة وتوقيعه معاهدة السلام مع اسرائيل.
وعن مشاركة الوفد العراقي في هذا المؤتمر يقول الياسين" أما الوفد العراقي فقد وصل بشكل مفاجيء الى مطار قرطاج الدولي بتونس في حوالي الساعة الواحدة ظهراً ولم تكن السفارة على علم بموعد الوصول ولكنها تبلغت بذلك والطائرة تحوم حول مطار تونس فتوجهنا مسرعين نحو المطار حيث فوجئنا بأن الطائرة التي هبطت قد توقفت عند نهاية مدرج الطائرات وبعيدة عن المستقبلين ، وقد نزل منها عدد كبير من الحرس العراقي ثم نزلت سيارتان هما السيارتان المتخصصتان للسيد الرئيس وحمايته ، وبعد دقائق ظهرت طائرة أخرى عراقية وهبطت على أرض المطار بطريقة أصولية حيث نزلَ منها الرئيس صدام حسين يحيط به مرافقوه. وقد أثار أسلوب نزول الطائرتين وتصرف بعض أفراد الحماية إنفعالا عند الجانب التونسي حيث ظهر الانفعال على وجوه المسؤولين التونسيين وفي مقدمتهم نجل الرئيس بورقيبة الحبيب الابن الذي كان يمثل والده في إستقبال الوفود ".
وفي تونس التقى الرئيس صدام حسين بعدد من رؤساء وملوك العرب ومنهم الرئيس الصومالي الذي راح يشيد بالرئيس صدام وموقفه وإعتماد الصومال عليه وعلى الامة العربية وإستمر في طرح حاجات بلاده الملحة ومبالغاً بالوضع الاقتصادي المتدهور عندهم كما يقول الياسين الذي أضاف وقد كانت المفاجأة أن الرئيس صدام حسين بدأ وكأنه إقتنع بما قال الرئيس الصومالي فأمر بتقديم مساعدات لوجستية حددها بنفسه عشرة آلاف ماكنة حراثة وعشرة آلاف ماكنة حصاد وعشرة آلاف سيارة نقل!!! وغيرها من الاجهزة. وهنا تدخل طارق عزيز مقترحاً تأسيس محطة تلفزة مع عشرة آلاف جهاز تلفزيوني وافق عليها الرئيس أيضاً.
ويقول الياسين : وبعد أن إنتهى اللقاء في ساعة متأخرة ليلاً توجهنا أنا والاستاذ حامد علوان الى الفندق مستغربين مما سمعناه في تلك الجلسة من أسلوب غاية في التبذير بينما العراق لا يزال يفتقر ويحتاج الى أمواله لاصلاح وتطوير أوضاعه.
ويواصل الياسين في مذكراته فيقول" وفي اليوم الثاني من أيام المؤتمر وفي إستراحة بعد الظهر التقينا مع الرئيس صدام في مقر إقامته للتحدث بما تتطلبه إستضافة العراق لمؤتمر قمة عدم الانحياز والمقرر عقده ببغداد في عام 1982 وكان الحاضرون السادة طارق عزيز والسيد تايه عبد الكريم والسيد حامد علوان وأنا وقد كانت هناك إستعدادات واسعة من إنشاء الابنية وقاعات للاجتماع والصحافة والخدمات ومقرات الاقامة وهي إستعدادات متكاملة من النواحي المادية واللوجستية ، ولكن السيد طارق عزيز إقترح فتح سفارات للعراق في الدول الاعضاء في حركة عدم الانحياز، وقد كانت آراء المتواجدين معارضة لهذه الفكرة وكنتُ أنا من بينهم ، ولكن طارق عزيز بقي مصراً وبقوة وقد لاحظت أن الرئيس صدام كان كمن يؤيد طارق عزيز فأثرت الاكتفاء بما عبرتُ عنه، وهنا بدأ الاستاذ طارق عزيز ( وهنا بيت القصيد) في ذكر أسماء الشخصيات التي يقترحها لتنقل الى الخارجية بدرجة سفير وهي بمجملها أسماء من الاجهزة الاعلامية وبعضها من الجامعة ولم تكن تلك الاسماء ذات موصفات مقبولة، وكنتُ أنا أتولى تسجيل الاسماء ثم تحدث تايه عبد الكريم فرشح شخصين ليكونا سفراء وهما شقيقه فارس عبد الكريم وموظف آخر في وزارة الخارجية هو السيد فوزي ذاكر العاني وكذلك فعل الاستاذ حامد علوان حيث رشح شقيقه ياسين الجبوري وموظف آخر هو وداد عجام وقد رشح الرئيس صدام نفسه إسماً واحداً هو فاضل صلفيج أحد أقاربه. وقد ظهر أكثر هؤلاء تصرفوا بقلة كفاءة وبعضهم ترك العمل ملتحقاً بجهات معادية بينما ظهرت إرتباطات البعض بأجهزة أجنبية.
وفي ذلك المؤتمر بتونس كان العراق كما يقول الياسين كريماً حيث منح تونس مبلغ عشرين مليون دولار هبة لامور ثقافية وكذلك مبلغ ثلاثين مليون دولار قرضاً ميسراً من الصندوق العراق لتغطية نفقات مشروع ( سنوبة) الثقافي إضافة الى نصف مليون كتاب مدرسي هدية من العراق الى الطالب التونسي إلا أن الحكومة التونسية تأخرت في توزيعها بل وقامت بحذف عبارة ( الكتاب هدية من الحكومة العراقية). هذه السياسة التبذيرية المؤلمة يقابلها ذلك السلوك الناكر للجميل ، فقد إتضحت مواقف تلك الجهات ( الانتهازية) حكومات كانت أم رؤساء حكومات أو أحزاب أو مؤسسات أو أفراد فقد تباروا في مديح العراق وقيادته وبالغوا في الاوصاف والنعوت ولكنهم فعلوا وتصرفوا بنفس المبالغات في الشتم والانتقاد يوم جفت مصادر النفع لدى العراق فانتقلوا الى الطرف الآخر الاكثر خبرة في إصدار الصكوك وتقديم الهدايا.
ويضيف الياسين في مذكراته فيقول" ولذلك كنتُ لا أرتاح الى سياسة العراق المتبعة وقتئذ بإتجاه البذخ في الصرف سواء كان الصرف الداخلي غير المدروس أو المساعدات التي تقدم للاخرين دولاً وأحزاباً وصحافة وأفراداً.
وكيلا لوزارة الخارجية كانون الثاني 1981 -1983
وعن عودته الى مقر الوزارة وكيلاً للوزارة لشؤون الدول الاوروبية وأمريكا واليابان يقول الياسين" كانت بداية العمل غير طبيعية بكل ما تعنيه هذه التسمية فالحرب العراقية – الايرانية في سنتها الاولى والامور المعاشية داخل البلد تسير نحو المتاعب. الكهرباء غير متوفرة بالسهولة السابقة. والعراق يتهيأ بجدية وحماس الى إستضافة قمة عدم الانحياز المقررة في أواخر عام 1982 حيث كان العراق قد وافق على إستضافة القمة هذه خلال المؤتمر السابق الذي عقد في العاصمة الكوبية هافانا عام 1979 والتي بدأت تظهر أمام تحقيقها متاعب غير متوقعة بسبب ظروف الحرب مع ايران وتجنيد القادرين على الخدمة العسكرية في الجيش الشعبي حيث حاولت الوزارة عبثاً إستثناء كوادرها من الجيش الشعبي لاهمية العمل في الخارجية والمحافظة على مستواه. لكن الافاعي السياسية اخذت تتحرك بالاتجاه المعاكس اي اعاقة عقد المؤتمر ببغداد والدعوة لنقله الى بلد آخر بحجة أن العراق في حالة حرب مع ايران وبالفعل تم الاتفاق على نقل المؤتمر الى بلد آخر حيث تعهدت الهند باستضافته. وقد خسر العراق أموراً كثيرة منها أموال بمئات الملايين صرفت على التهيؤ للاستضافة والاجتناعات ومنها فتح سفارات للعراق في دول لم يكن من الضروري فتحها.
سفيرا لدى المملكة العربية السعودية أيلول 1983 - 1987
وعن السعودية يقول الياسين بعد وصولي جدة بايام قابلت الشيخ عبد العزيز الثنيان الوكيل المختص لوزارة الخارجية بمكتبه بجدة قبل الانتقال الى الرياض وسلمته نسخة من أوراق الاعتماد. وفي يوم 25/10/ 1983 كان موعد تقديم اوراق الاعتماد لجلالة الملك فهد الذي ابقاني معه لفترة جيدة تحدث فيها عن حبه واعجابه وسعادته بأخيه الرئيس صدام حسين. ويضيف الياسين لكي أكسب ثقة العراقيين في المملكة السعودية بدأت باعطاء مؤشر للجالية وهو إعادة جواز سفر لاثنين من المواطنين العراقيين أحدهما هو المحامي موسى علاوي السحوب جوازه منذ عام 1959 وهو يتنقل بجواز لدولة عربية أخرى والاخر هو الدكتور عبد الرحمن الجليلي وهو وزير سابق واستاذ جامعي تم سحب جوازه عام 1968 وشخص ثالث هو الاستاذ عبد الجليل الراوي أحد سفراء العهد الملكي وعدد آخر من العراقيين مهندسين ومواطنين حيث طغت على العراقيين موجة من التفاؤل والترحيب وتم فتح ابواب السفارة للجميع بروح جديدة.
ويتحدث الياسين عن موقف المملكة السعودية الايجابي الداعم للعراق خلال حربه مع ايران فيقول" لقد كانت الدولة الاكثر دعماً للعراق مادياً ولوجستياً وسياسياً، وكان الملك فهد بن عبد العزيز هو القائد الفعلي لهذا الاتجاه وصاحب القرار النهائي عندما تتعقد الامور فعلى صعيد المساعدات العسكرية والمشتريات الاخرى وبعد أن اصبح الخليج العربي منطقة غير آمنة للبواخر التي تنقل الاسلحة العراقية وبسبب سلوك اجهزة الكويت غير المريح وافقت المملكة العربية السعودية على تخصيص ميناء للعراق قرب جدة وهيأت له الكوادر المطلوبة تشارك في أدارته وحمايته وخدماته كوادر عسكرية عراقية وكان هذا الميناء هو( رابغ) يستقبل الشحنات العسكرية وينقلها الى العراق على اسطول كبير من السيارات الامر الذي وفرّ للعراق الكثير من الراحة والامان، ولا عجب أن تصل المبالغ التي انفقتها السعودية الى قرابة العشرين مليار دولار وهو ما كانت تطلع عليه اجهزة السفارة وهذا غير ما يتم خارج علم السفارة بين بغداد والرياض.
ويختتم الياسين حديثه عن العمل في السعودية فيقول " بعد قرابة خمس سنوات حاملا ً أجمل الذكريات وأحمل أعلى وسام من المملكة العربية السعودية وهو وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الاولى وتاركاً ورائي أثراً حسناً وعلاقات شخصية متينة.
956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع