من ذاكرة الماضي القريب حكايات عن تموين الأربعينات وعن السكر والدبس والكريشة!
فِي أعقاب فشل ثورة مايس 1941 التي قادها رشيد عالي الكيلاني فرض الانكليز حصاراً اقتصادياً على شعبنا في العراق في محاولة لئيمة لكسر إرادة آبائنا وأمهاتنا وأطفالهم الذين أيدوا الثورة وعارضوا دخول العراق الحرب العالمية الثانية إذ لا مصلحة لهذا البلد الصغير بمعارك الحيتان الكبيرة التي كانت تدور رحاها في مناطق شاسعة من أنحاء العالم وقتذاك. وتنثال ذكريات تمتزج بالحلو والمر ونحن نستمع لجيل الأجداد والآباء والأمهات الذين عاشوا تلك الحقبة واستقرت في ذاكرتهم تفاصيل الحصار أو الأزمة أو المحنة الاقتصادية كل حسب تعبيره!
والبحث في ذاكرة العجائز الطيبين كنز من المعلومات والطرائف التي يرددونها ضاحكين بعد أن طوت الأيام صفحاتها الثقيلة على ذلك الماضي البعيد. وفي لقاء مع المرحوم الأستاذ عبد الحميد العلوجي مدير عام الدار الوطنية سابقا والباحث الفولكلوري المعروف حدثنا عن أحداث ما يسمى بتموين 1941 وما أعقبها من ظروف طارئة مرت على العراقيين بسبب سيطرة الانكليز على مقاليد الاقتصاد العراقي في تلك الفترة.
قال الأستاذ العلوجي: عندنا خلفية تراثية في تاريخنا العربي والإسلامي، مثلاً، حوصر الرسول (ص) وقاطعته قريش مقاطعة اقتصادية شملت أتباعه وزوجاته وأعمامه وراحوا إلى مدينة الطائف وعانى الرسول الكريم (ص) من شظف العيش ومع ذلك إرادة الصمود كانت عالية جداً فانتصر الرسول (ص) وانتصرت رسالته وخسر المقاطعون! ثم هناك شعوب انتصرت برغم الحصار الاقتصادي ولاحظت شخصياً في عام 1968 خلال وجودي في مدينة ليننغراد بالاتحاد السوفيتي وكنت مكلفاً لفهرسة المخطوطات العربية في فرع أكاديمية العلوم السوفيتية هناك وكنت أتمشى مع مرافقتي وهي مستشرقة تتكلم اللغة العربية واسمها (لوبا) شاهدت في طريقي أشجاراً ضخمة موزعة على جانبي الشارع فقلت لها: أليس عبثاً أن تزرعوا أشجاراً ضخمة بلا ثمار؟ لكنها مدت يدها إلى ورقة وانتزعتها ثم قدمتها لي قائلة: ذقها! وعندما لامست الورقة بمقدمة لساني شعرت بمرارة العلقم فقالت مبتسمة:
خلال حصار الألمان لمدينة ليننغراد لمدة ستة أشهر أكلنا من أوراق هذه الشجرة. لذلك بقيت هذه الأشجار تذكرنا بحصار الألمان اللا إنساني ضد شعبنا الأعزل.
وأضاف الأستاذ العلوجي بخصوص أحداث تموين الأربعينات قائلاً: اعتقد أن أحداث التموين لم تقع إبان حركة مايس 1941 بل في أعقابها عندما دخل الانكليز العراق بعد فشل الثورة التي نالت تأييد كل العراقيين. والتموين كلمة تدخل أذهان العراقيين أول مرة إذ لم يعتادوا في ذلك الوقت الوقوف في صفوف لأن الصفوف تعني وجود شحة في المواد ولهذا حصل أن استقبلت بطاقات التموين بنوع من الدهشة وكانت هذه البطاقات تشمل مواد السكر والشاي والأقمشة وأذكر أن السكر كان معبأ بأكياس لونها أحمر يميل إلى السواد فيه (شوخرة) ولا استطيع أن أضع كلمة فصيحة لكلمة (شوخرة) بقدر أن أقول أنها تعني العفن أو أي شيء آخر. وكنا نمزج السكر المبلل الرطب بالشاي ولا يشرب إلا (بكطع النفس) ولكننا مع كل ذلك كنا نتقبل ذلك برحابة صدر كما أود أن أشير إلى أن الصفوف لم تكن معروفة مثلما هي الآن منتظمة فكان الواحد يصعد على أكتاف الآخرين ليحصل على حاجته!
ويذكر السيد العلوجي جانباً من ذكريات التموين قائلاً: وأود أن أشير إلى الفئة التي تميل إلى الثراء غير المشروع أيام المحن التي تعانيها الشعوب، ففي أوقات التموين التي عشناها كان بعض من هذه الفئة تتفق مع أصحاب المقاهي الذين لهم حصص واضحة من الشاي اليابس فيشترون منهم فضلات الشاي (البثل) ويخلطونه مع الشاي اليابس ويضعونه فوق السطوح ثم يبيعونه على الناس على أساس انه شاي مستورد، وكذلك فعلوها مع الدهن الحر الذي كان يستخدم بكثرة آنذاك فخلطوا معه الدهن النباتي.. لقد كانت مخالفات كثيرة لكنها كلها ماتت وبقي الشعب حياً برغم كل الظروف التي مر بها.
وقال العلوجي: كان عمري وقتذاك 14 سنة وأنا شخصياً لا اسمي تلك الأيام بحصار مثلما يشهده العراق اليوم بل أزمة طارئة مرت على البلد وكان البلد بجميع أبنائه صابرين لكي لا يجعلوا الانكليز فرحين بأسلوبهم الماكر هذا. ويذكر العلوجي وهو يزيح الستار عن ذكريات أيام زمان: كانت بطاقات التموين توزع عن طريق المختارين.. وهؤلاء كانت لهم الخطوة والوجاهة. والبطاقات عموماً شملت كل أبناء بغداد، وفي محلتنا الجعيفر كنا جميعاً نملك بطاقات للسكر والشاي والقماش وقد أشيع في تلك الفترة أن المختارين ساعدوا الكثيرين ممن لم يحصلوا على بطاقات وآخرين من المختارين زوروا وزيفوا البطاقات لأغراض الدنيا!
قلت له: هل اعتمدتم على مواد بطاقات التموين وحدها؟
أجاب: بطاقة التموين (زايد خير) إذ عندنا في البيوت تنكات الدبس والفواكه والشرابت حيث كنا نستعين بشرابت الرمان في الطبخ والاسكنجبيل بدل الشاي والقند بدل السكر المبلل واذكر أننا لم نحتج إلى البرتقال لأنه متوفر بكميات مهولة في تلك الفترة.
ويبتسم العلوجي قائلاً: الظاهرة الوحيدة التي احتفظت بها في ذاكرتي أن بنات المحلة (الحلوات) كن يأخذن أكثر من حصصهن من البقالين والعطارين... (ويضحك) وهؤلاء لا يقبضون منهن إلا الابتسامة البغدادية الرائعة!
يسكت العلوجي قليلاً ثم يطلق ضحكة قوية ويقول: هل تصدق أن بعض العوام من الناس أيام التموين التي حصلت في سنوات الحرب العالمية الثانية كانوا يتمنون انتصار اليابان على الانكليز لا لسبب عقائدي أو سياسي بل لأن القماش الياباني أرخص من القماش الانكليزي!
في أيام التموين يتمنى المرء ما يشاء من رغبات ويدعو ما يشاء من دعوات غريبة وعجيبة مثل الذي في منزل السيدة جميلة رشيد قادر التقيناها تداعب أحفادها.. وهي في العقد السادس من عمرها المديد، لكن وجهها المبشر الصبوح يذكرنا بأمهاتنا اللواتي عاصرن أحداثاً جساماً ولكنهن بصبرهن الجميل اعددن أجيالاً من المؤمنين بقضية شعبهم وأمتهم برغم المصائب والمحن. قالت لنا السيدة جميلة وهي والدة خمسة أبناء وجدة اثني عشر حفيداً تحدثنا عن ذكريات أيام التموين: كان عمري اثني عشر عاماً عندما حدث التموين في العراق. حصل كما اذكر إبان الحرب العالمية الثانية. بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني.. كنت متزوجة حديثاً من المرحوم أبو الأولاد وكان ضابطاً في الجيش. ورغم أني كنت في بيت الزوجية وليس لي أطفال في ذلك الوقت لكننا عانينا من الحصص القليلة التي وزعها علينا مسؤولو التموين وكنت بين فترة وأخرى احصل على حصة إضافية ترسلها لي والدتي باعتباري عروساً جديدة لا يمكن أن تشعر بنقص في حاجات بيتها الجديد (تضحك).
• ما المواد التي كنتم تتسلمونها؟
- دشاديش من نوع (الكريشة) بنصف دينار للمتر وهو غال جداً لكن أمي تشتريها لي كما قلت لأنني عروس جديدة برغم أن زوجي لم يبخل علي بهذا.. وكان لكل فرد كيلو سكر وربع كيلو شاي.. وأذكر (وهي تضحك بصوت عال) أن العبي النسائية كانت فيها شحة فكنا نستخدم الجنفاص الخاص بالكواني التي تملأ بها مادة السكر ونصبغها نيلي (ونسويها عباية صوف)!
كان المرحوم زوجي يستخدم الحامض حلو بدلاً من السكر في شرب الشاي لان السكر لم يكن صالحاً للاستخدام أو نخلط الدبس مع الطحين في بيوتنا ونعرضه للشمس ثم يتحول الى مادة بلورية نستخدمها بدل السكر.. لم ننزعج أو نشكو حالنا المهم أن يبقى الإنسان قنوعاً بما رزقه الله سواء في أيام الخير أو في أيام المصائب. وتضيف أم فريد قائلة: كنا نشكو فقط شحة الخام الأسمر والأبيض وهي شكوى لا نسمعها إلا في حالات حصول وفاة واذكر عندما توفي المرحوم والدي في أثناء الأزمة استخدمنا له كفنه الخاص الذي عاد به من مكة بعد أداء فريضة الحج أما الآخرون فكانوا يستخدمون الكواني!
كانت دائرة التموين تعطي لكل فرد خمسة اذرع من الخام الأسمر وهي لا تكفي إطلاقاً وذراعين من قماش الكريشة.
في بيت السيد منير عطية الزبيدي، عسكري متقاعد، من مواليد 1920 وله أربعة أولاد أحدهم ضابط. حدثنا بـإسهاب عن أيام التموين لكنه اختصر المسألة برمتها أن الناس عانوا من الشاي والسكر لإدمانهم على استخدام الشاي في كل المناسبات. ويقول ابو هيثم: اذكر انهم وزعوا علينا قماشاً قالوا لنا انه يصلح للدشاديش وهكذا كنت تشاهد في الشوارع دشاديش مقلمة بالوان مثيرة للسخرية هي اصلاً لا تصلح للدشاديش بل للبيجامات وكنا لا نلبس البيجامات في ذلك الوقت لاسباب اجتماعية. ويشارك الحاج كاظم محمد من مدينة ذي قار في منزل السيد ابو هيثم الحديث قائلاً: من الامور الطريفة التي حصلت في محافظة ذي قار في تلك الفترة ان الانكليز اجروا احصاء للنفوس لكي يسيطروا على عملية توزيع المواد وبعد انجاز العملية الاحصائية اتضح ان نفوس الناصرية نحو (12) مليون نسمة!.. مما اثار عصبية الخبير الانكليزي واتهم الناس والمختارين بالتواطؤ لزيادة النفوس لكي تزداد الحصص فقام بالغاء الاحصاء واكتفى بجرد العوائل!
كتابة - شامل عبد القادر
590 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع