أيام زمان - الجزء الخامس و العشرون / السيدارة

        

أيام زمان - الجزء الخامس و العشرون / السيدارة

  

   

كانت اغلب شعوب العالم ولغاية النصف الأول من القرن الماضي، تحرص على اعتمار غطاء للرأس كجزء مكمل للشخصية والمظهر العام، وفي العراق تعددت أغطية الرأس، بتعدد ثقافاته فكانت كل منطقة لها زيها وألوانها التي تعبر عن ثقافتها الخاصة، فكان الطربوش والفينة ومن ثم السيدارة التي اكتسبت دلالة قومية وتاريخية وثقافية، السـيدارة أو السيدارة أو الفيصلية أو كما يلفظان معاً السيدارة الفيصلية، هي القلنسوة بلا أصْدَاغ، ولباس للراس عرفه الحضريون من أهل العراق عموما، وتميز به البغداديون على وجه الخصوص.

            

وردت كلمة (السيدارة) في قاموس المحيط الفيروز أبادي، بمعنى الوقاية تحت المنفعة والعصابة معربة من شارة، ومعناها المظلة أو الشمسية، والظاهر أن أصل الكلمة أرامية، فهي معربة من الألفاظ الفارسية المعربة حيث كانت عند ملوك الفرس القدماء تعني غطاء الرأس، ورددت بنفس المعنى في معجم المنجد للغة الآباء الكاثوليك.
قلما وجدت دولة بمثل هذا التنوع والتعدد بالطوائف والقوميات، بالنسبة لعدد سكانها كما وجد في العراق عند تأسيس مملكة العراق في العشرينات، وكان من أول ما واجهته الحكومة الجديدة السعي لدمج كل هذه الطوائف والقوميات في كيان شعب واحد، انعكس هذا التعدد والتشرذم على أزياء الناس، لا سيما في غطاء الرأس.

       

في 23 أغسطس 1921، تولى فيصل الأول نجل الشريف حسين شريف مكة، عرش العراق كأول ملك للملكة العراقية الحديثة، بعد خروج العراق من الحكم العثماني، الذي استمر ما يقارب أربعة قرون، وكان يحلم ببناء دولة عصرية في العراق، وكان يطمح أن يجعل من العراقيين شعبا موحدا، وسعى لإدخال مجموعة من القيم والتقاليد والمشتركات بين العراقيين، تساعد في عملية بناء الدولة ورفاهية الشعب، ومن جملة هذه التغيرات أراد هذا الملك الطموح، إيجاد لباس وطني للراس بدلاً من الطربوش أو الفينة ليكون كزي رسمي لموظفي للدولة العراقية، أو الأفندية كما كانوا يعرفون، ويقال في تلك الفترة زار الملك فيصل الأول مصنعا في إيطاليا، فأهداه صاحب المعمل سيدارة فقام بوضعها على رأس وأعجب بها وبجماليتها وأبقاها على رأسه وأراد أن تكون لباسا للعراقيين مدنيين وعسكريين يتميزون بلبسها.

       

فأوجدت السيدارة، ووزعت أول مرة للوزراء من قبل رستم حيدر أحد مستشاري الملك في حينها، وكان أول من ارتدى السيدارة هو الملك فيصل الأول لتشجيع الناس على ارتدائها، ومنها سميت باسمه (فيصلية)، مع العلم أن الملك فيصل الأول جاء للعراق من الحجاز بزيه الحجازي، المتكون من العقال المقصب والعباءة العربية.
وامتنع عن لبسها النائب في مجلس النواب عبد الرزاق منير، وجد المسؤولون في إصراره على لبس الطربوش في المجلس بهذه الهيئة شيئًا جارحًا للسلطة والعهد الوطني الجديد، وعائقًا ضد شيوع السيدارة، بذل الكثيرون جهودًا كبيرة لإقناعه بلبس السيدارة ولم يفلحوا، كان منهم رائد القومية العربية ساطع الحصري ورئيس الوزراء ياسين الهاشمي، ولكنه أبى وأصر على الاستمرار في لبس الطربوش، الذي كان في الواقع ينم عن تمسك بالخط العثماني الذي ثار العرب ضده، استاء من ذلك بصورة خاصة الملك فيصل، فقد كان ممن تبنوا لبس السيدارة وأول من بادر بلبسها.، والواقع أن السيدارة شاع اسمها بين العراقيين باسم «الفيصلية» لارتباطها بالملك، ولم يعرف الجميع كيف يعالجون الموقف، ففي تلك الأيام لم تجرؤ السلطة على فرض إرادتها على المواطنين بالقوة أو تحاربهم في رزقهم، لم يعرف أحد كيف يثني هذا القائد الوطني عن دخول البرلمان بالطربوش بدل السيدارة، بيد أن الملك اشتهر بكياسته في التعامل مع المعارضين ومعالجة الأزمات بصورة سلمية وأخوية، وهكذا سعت الحكومة منذ أول أيامها إلى تبني لباس خاص للرأس السيدارة، لسوء الحظ لم يكن اختيارها موفقًا، فالسيدارة لا تقي من المطر ولا من الشمس ولا تعطي تهوية للرأس، وكان سعرها مكلفًا فلم تنتشر كثيرًا وامتنع البعض عنها كليًا.
في أحد الأيام كان عبد الرزاق منير، جالسًا في بيته عندما سمع طرقًا على الباب، فتحوا الباب، فوجدوا أمامه سيارة تقل ملك العراق نفسه، نزل ودخل البيت حيث رحب به صاحب البيت وأمر بإحضار القهوة، وكان الملك يحمل كيسًا صغيرًا من الورق تحت إبطه، لم يكن أحد من العراقيين يخشى أن يقدم قهوة إلى الملك، لأنه لا تناولها خوفا أن تكون مسمومة، لكن الملك تناول قهوته، وقال لعبد الرزاق منير: «جئتك زائرًا يا أبو شوكت، لأقدم لك هدية أرجو أن تقبلها مني».

فأجابه على الفور: «يا سيدنا شلون ما أقبلها؟ أقبلها وأحطها على راسي»، وعندئذ أخرج الملك السيدارة من الكيس وحطها على رأس الرجل! وهكذا واجه الأمر الواقع، ولم يعد بإمكانه أن يتراجع عن وعده للملك وينزع السيدارة، فاستمر بلبسها، بل ومعتزًا بها كهدية من ملك العراق، رحمهما الله كل أولئك الأفذاذ الذين سعوا لبناء العراق الحديث بالحسنى والطيبة وسعة الصدر والسلوك السلمي الديمقراطي. وظل الأمر اختياريا حتى الثاني من شباط سنة 1936 حين أصدرت وزارة ياسين الهاشمي قرارا قضى بتوحيد اعتماد العاملين في دواوين ودوائر الدولة (السيدارة الفيصلية).

   


بعد انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الثاني 1936، ظهرت محاولات لإلغاء السيدارة من قِبل القائمين على الانقلاب، حيث أصدرت حكومة الانقلاب التي تراسها حكمت سليمان، قانوناً يقضي بإبدال السيدارة (الوطنية)، بالقبعة الأوربية لكون الأخيرة من مظاهر التطور والاتصال بالعالم الخارجي، والصحيح أن القائمين على الانقلاب كانوا على خلاف مع ياسين الهاشمي الذي كان الانقلاب موجه ضده بالأساس ولان الهاشمي من المحافظين على لبس السيدارة الوطنية كما ذكرنا من قبل، وكان قد أقر بجعل السيدارة اللباس الرسمي لجميع موظفي الدولة العراقية في منتصف الثلاثينات، حيث أراد الانقلابيون أبدال السيدارة بالقبعة الأوربية نكاية بالهاشمي الذي توفي بعد فترة من الانقلاب، واخذ بعض من الشباب المتحمس للانقلاب بلبس هذه القبعة، ولكن سرعان ما عادت السيدارة الفيصلية (الوطنية) كزي رسمي وعام إلى المجتمع بمقتل الفريق بكر صدقي في الموصل وسقوط حكومة الانقلاب بعد اقل من عام من أول انقلاب عسكري في التاريخ العراقي الحديث،

               

انحسرت شعبية السيدارة بشكل تدريجي منذ سقوط النظام الملكي في العراق، وآخر من كان يرتديها من الشخصيات الكبيرة كان الرئيس احمد حسن البكر، ومنذ ثمانينات القرن العشرين أصبح من غير المألوف أن ترى أحداً يلبس السيدارة في العراق، إلا في المناسبات التي تحمل الطابع التقليدي، واختفت السيدارة من الزي العسكري العراقي في القرن الحادي والعشرين.
تتميز السيدارة بشكلها النصف المقوس، والمدبب تقريباً من الوسط، وتكون مطوية إلى طيتين للداخل ويغلب عليها اللون الأسود وهو اللون الرسمي، إلى جانب الألوان الأخرى.
للسيدارة عدة أنواع، ففي بداية ظهورها كانت تصنع من الچبن (الصوف المضغوط) وتسمى بسيدارة الجبن وعرفت بحجمها الكبير، وتميزت بارتدائها الشخصيات المهمة في المجتمع من أمثال ياسين الهاشمي رئيس الوزراء في العهد الملكي، والشاعر البغدادي الشعبي الملا عبود الكرخي والشاعر جميل صدقي الزهاوي، وكان لها معمل في بغداد أسس بأمر من ياسين الهاشمي.
والنوع الثاني هو السكوجية وكانت تصنع من القماش، وتفصل من نفس قماش الملابس، حيث بعد تفصيل البدلة الرجالية (القاط) تأخذ قطعة من ذات القماش لغرض تفصيل سيدارة، وكان حجمها أصغر من سيدارة الچبن، واغلب من كان يرتدي هذا النوع هم أفراد الشرطة والجيش في العهد الملكي، وكذلك في العهد الجمهوري لغاية عقد السبعينات من القرن الماضي، حيث استبدلت بالبيرية لأغلب صنوف الجيش والشرطة، ومن أمهر صناع السيدارة السكوجية شخص اسمه جاسم محمد ،كان محله يقع في سوق السراي عند مدخل خان الصاغة، وفي مدخل سوق السراي من جهة جسر الشهداء، توجد عدد من محلات يقومون بتنظيف السيدارة وقلب الوجه الخارجي إلى الداخل عندما يتقادم وتذهب لمعته، وكان اغلبهم من اليهود، ولكن السيدارة المقلوبة واضحة للعيان حيث الجزء الداخلي للجوخ خشن وغير لماع.
والجدير بالذكر أن السيداير الأجنبية (الإيطالية والإنجليزية)، كانت تغزو العراق في الثلاثينات وتصنع من مادة الجوخ اللماع، ومن أبرز مستورديها (مهدي قنبر وصيون شمعون) ولكن ظلت السيدارة الأولى المصنوع من الچبن محل اعتزاز الكثيرين ممن أهل بغداد وأطلق عليها السيدارة الوطنية.

                  

كتب عنها الشعراء وغنى عنها الكثير من مطربي بغداد، وخاصة الفنان الكبير محمد القبانجي، وارتداها الشعراء كمعروف الرصافي، وبعض رؤساء الدول منهم جواهر أل نهرو والرئيس الأفغاني مجيب الرحمن، والرئيس الباكستاني محمد علي جناح، وملك المغرب الحسن الثاني، والرئيس اليمني عبد الله السلال كما لايزال الجيش البريطاني والأمريكي يعتمدها، وفي فقرة ثانية اشترك الفنان حسين الصافي بمجموعة أغان تراثية تغنت بالسيدارة البغدادية، وامتع الحضور فنان المنولوج فاضل ظاهر إذ قدم أجمل منولوج تغنت بالسيدارة، وكان الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي قد ذكر السيدارة الوطنية في شعره.
عرفت أربيل السيدارة من قبل أبرز من دافعوا عن ارتدائها وصناعتها محليا من قماش (الجبن)، ومحاربته للمستورد منه، وهو السياسي والزعيم الكردي (معروف جياووك) المولود عام (1885 والمتوفى عام 1958). أحد مؤسسي الدولة العراقية، وأصله من قرية "جياووك" القريبة من "سريشمه" التابعة لناحية خليفان بأربيل، كان قد عاصر السلطة الملكية، وكان يؤكد على ضرورة لبسها، وارتداها الى أواخر أيام حياته، حيث توفي ببغداد يوم 21 كانون الثاني 1958. قدم لأربيل عام 1924 محاميا وبقي فيه سنتين وانتخب نائبا عنه عام 1928.
وكذلك ارتداها الرفيق الشيوعي ناظم قصاب بالثمانينيات، ليقدم فقرات كوميدية يتنقد الوقائع الاجتماعي بأربيل راسما البسمة بالأفراح متخذا من الأفندي اسما له.
الجدير بالذكر أن مجموعة من محبي التراث والفلكلور البغدادي الأصيل، يقيمون مهرجان لقاء الأشقاء السنوي في أخر جمعة من كل عام في شارع المتنبي، وهم يعتمرون السيدارة البغدادية احتفاء بهذا الإرث البغدادي الأصيل والدعوة الى الاهتمام به.
المصادر:
بغداد.. كامل منصور..
رموز الفلكلور العراقي السيدارة البغدادية
الشرق / حنان التميمي

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/mochtaratt/51917-2021-12-15-16-58-08.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

497 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع